كيف نشأت المادة المضادة؟ وكيف تأكدنا من وجودها؟
عندما تسمع عن "المادة المضادة- Antimatter" للوهلة الأولى، قد تعتقد أنها ضربًا من ضروب الخيال العلمي؛ فهي صورة كربونية للمادة التي نعرفها، ومع ذلك فهي نادرةٌ للغاية، نادرةٌ إلى درجة أن الملليجرام الواحد منها يساوي ملايين الدولارات!
ما هي المادة المضادة Antimatter بالضبط؟
يمكننا أن نقول إن المادة المضادة Antimatter هي نفسها المادة matter العادية التي نعرفها، ولكن بشحنة مُعاكسة.
فالإلكترون electron "مادة صغيرة جدًا تُوجد بداخل الذرة ويمتاز بشحنته السالبة"، على سبيل المثال لا الحصر، يُضاده البوزيترون Positron "الإلكترون موجب الشحنة"، في حين أن الهيدروجين موجب الشحنة hydrogen يقابله الهيدروجين المُضاد Antihydrogen سالب الشحنة، وهلم جرّا.
أما بالنسبة للجزيئات، أو المواد غير المشحونة بالموجب أو السالب، أي تمتلك شحنة متعادلة مثل النيوترونات مثلاً، فأغلب الظن أنها تُشكل المادة والمادة المضادة في نفس الوقت.
ولكن على سيرة النيوترونات neutrons بالتحديد، فهناك احتمالية مطروحة على الطاولة مفادها أن الجزيء المعروف بالنيوترينو neutrino، أو الجزيء الشبحي Ghostly particle كما يُطلَق عليه في أوساط كثيرة، قد يكون المادة المضادة للنيوترون.
ما زال العلماء يتباحثون في هذا الأمر، الذي إن تم إثبات صحته، فسنكون قد حللنا مُعضلةً أزلية سنأتي على ذكرها لاحقًا.
اقرأ أيضًا:كل ما تريد معرفته عن قانون السرعة... شرح مبسط ودقيق
أين هي المادة المضادة وكيف عرفنا بوجودها؟
تُحاوطنا المادة من كل حدب وصوب، أما المادة المضادة فأين هي بالضبط؟ صحيحٌ أنها نادرة، وهذا شيءٌ مُتفهَّم، ولكن مرة أخرى: أين هي؟ وكيف تم التأكد من وجودها؟ سؤالان وجيهان للغاية، وفيما يلي الجواب عليهما.
بشكل مبدئي وقاطع، لقد تمكننا -نحن البشر- بالفعل من إنشاء المادة المضادة أمام أعيننا. كان ذلك باستخدام جهاز يُسمَّى "مُصادم الهدرونات الكبير Large Hadron Collider"، والذي يُوجد بالمنظمة الأوروبية للأبحاث النووية "سيرن- CERN"، ومركزها سويسرا، والتي يدور حولها -مُنظمة سيرن- الكثير من نظريات المؤامرة بالمناسبة، وقد نتطرق إلى هذه النظريات في مقال آخر.
بالعودة إلى موضوعنا، فلقد تمكن العلماء، من خلال تجارب عديدة، أن يُنشئوا المادة المضادة للهيدروجين "نقيض الهيدروجين" antihydrogen، ولكنَّ أكثر عنصر مُعقّد قد توصّلوا إليه كان نقيض الهيليوم antihelium.
أضف إلى ذلك أن المادة المُضادة تُنتَج بشكل طبيعي في مختلف أنحاء الكون، ولكنها عندما تُقابِل المادة، فإنهما يُلغيان أو يُفنيان بعضهما بعضًا "لكونهما مُتضادان في الشحنة"، ومع ذلك يُنتِجان كمية هائلة من الطاقة، وهذا شيء عجيب للغاية؛ فكيف يُلغيان بعضمها وفي نفس الوقت يُنتِجان طاقة، بل طاقة هائلة!
أما عن أماكن تواجد المادة المضادة، فهي موجودة وموزَّعة في مختلف أنحاء الكون كما ذكرنا، بل إن وجودها في الكون مُقترن بوجود الكون نفسه منذ أن "انفجر" من نقطة متناهية في الصغر واستمر في التوسع إلى أن وصل إلى ما هو عليه الآن فيما يُعرَف بـ"نظرية الانفجار العظيم Big Bang".
فبعدما حدث ذلك "الانفجار" منذ حوالي 13.8 مليار سنة، أخذ الكون يتوسع ويبرد شيئًا فشيئا إلى أن أصبح الوسط مناسبًا لتكون كلٍ من المادة والمادة المضادة. وعلى الرُغم من تجارب العلماء التي أثبتت تطابق المادة والمادة المضادة في كل شيء تقريبًا عدا الشُحنة، وهذا يُعزز من فرضية تكونهما معًا عند نشأة الكون، أي في نفس الظروف، ما يشير إلى أن أعدادهما من المفترض أن تكون متطابقة، فإن الحقيقة بعيدة كل البُعد عن ذلك.
فعلى ما يبدو أن أعداد المادة فاقت أعداد المادة المضادة بكثير عند بدايةٍ نشأة الكون، فأنهتها، بل فاضت عنها مُكونةً كل ما نراه الآن من نجوم وكواكب ومجرات، وكل ما على كوكب الأرض بالطبع، وذلك بحسب موقع "Space.com"، والذي يقول إن الفارق لم يكن كبيرًا، بل في الواقع كان ضئيلاً إلى درجة جزء من مليار جزء من المادة.
هذا يعني أنه من بين كل مليار جزء من المادة، استطاع جزء واحد فقط أن ينجو من التصادم الذي حصل بين المادة والمادة المُضادة مُكونًا كل ما نراه، وما لا نراه، في الكون.
هناك تفسير آخر يرتبط بالنيوترينو، الجزيء الشبحي Ghostly Particle الذي قلت لك إنه قد يكون مسؤولاً عن حل مُعضلة أزلية، ها قد حان وقت مُناقشة هذا الأمر.
إن كان النيوترينو هو المادة المضادة antimatter لنيوترونات، فإنه قد يكون تحول عند بداية الكون من حالة المادة المضادة إلى حالة المادة، ما يُفسّر الزيادة التي حدثت بأعداد المادة الهائلة، ولكن لسوء الحظ، فإننا لم نتوصل إلى هذا الإثبات حتى يومنا الجاري، ولكن الأبحاث مُستمرة.
اقرأ أيضًا:7 اكتشافات علمية كانت تستحق الفوز بنوبل.. هل تعرفها؟
التنبؤ بالمادة المضادة!
إن سألت أي مهتم بعلم الفيزياء عن فرعيها الأساسيين اللذين ظلَّا متعارضين لفترة من الزمن، فسيجيبك بفيزياء النسبية "لأينشتاين" وميكانيكا الكم quantum mechanics، ويعود الفضل في "مُصالحتهما" إلى العالم البريطاني العبقري، والذي حصل على نوبل في الفيزياء، "بول ديراك".
استطاع "ديراك" أن يحل هذا الخلاف، إن صح القول، عندما كان يعمل على إيجاد حلول لمعادلةٍ تصف حركة إلكترون يتحرك بسرعة قريبة من سرعة الضوء. وبعدما توصل "ديراك" للحل لاحظ شيئًا عجيبًا؛ إذ لاحظ إنه توصل إلى حلّين أحدهما يحمل فيه الإلكترون شحنةً موجبة!
في البداية تردد "ديراك" كثيرًا، ولم يكن ينوي مشاركة نتائجه مع المجتمع العلمي، ولكنه شاركها في النهاية مُستنتجًا أن كل جزيء في الكون لديه "صورة كربونية- mirror image"، تتصرف بطريقة مُشابهة، ولكنها تختلف في الشحنة فقط.
بعد اكتشاف "ديراك" ببضعة سنوات، اكتُشِفَ البوزيترون رسميًا، والبوزيترون Positron هو المادة المضادة للإلكترون، أي أنه إلكترون ولكن بشحنه موجبة. جاء ذلك الاكتشاف على يد الفيزيائي "كارل أندرسون" أثناء دراسته للأشعة الكونية القادمة من الفضاء نحو الأرض؛ إذ لاحظ "أندرسون" أثر مادة غريبة لها نفس كتلة الإلكترون، ولكن بشحنة موجبة!
أما عن اسم البوزيترون، فاقترحه مُحرر بمجلة Physical Review، فتم اعتماده بعد ذلك واستُخدِم في كل الأوساط. والجدير بالذكر أن "أندرسون" قد فاز هو الآخر بنوبل في الفيزياء عام 1936 -بعد ديراك بـ 3 سنوات- عن ذلك الاكتشاف العظيم.
كيف يُمكن أن نستفيد من المادة المُضادة؟
لا يرجع سبب ارتفاع المادة المضادة إلى ندرتها فحسب، بل إلى ما يُمكن أن تفعله أيضًا؛ فوكالة "ناسا" قد درست مقترح السفر إلى المريخ باستخدام مركبات فضائية مصنوعة من المادة المضادة "نظرًا لكفاءتها"، ولكن سعر إنتاجها يظل عائقًا.
ففي عام 2006، قدَّرت "ناسا" سعر إنتاج 10 مللي غرامات فقط من المادة المضادة بحوالي 250 مليون دولارًا. أما الآن، وبعد مرور ما يربو عن الـ 15 عامًا، أصبح سعر إنتاج غرام واحد من هذه المادة يتخطى الـ 62 تريليون دولارًا، فما بالك بالسعر الازم لتصنيع مركبة فضائية؟ الأمر يتجاوز ميزانيات دول بأكملها بلا شك!