محمد النغيمش يكتب لمنصة الرجل:تعمُّد التجاهُل
لا يُمكن أن ترى عدّاءً رياضيّاً يتوقف فجأة لينشغل بجمهوره أو بالكاميرات من حوله. والسبب أن تركيزه منصبٌّ على هدف الوصول إلى خط النهاية. جميعاً لدينا مُلهيات ومنغّصات وعثرات تحُول بيننا وبين بلوغ مرامنا. لكن من يصل إلى خط النهاية هو ذلك الذي يتجاهل المُلهيات، ولا يتوقّف إلا عندما يُدرك أنَّ أمراً مُهمّاً قد يؤثّر على سلامته أو مدى تحقيقه لأهدافه.
مشكلتنا في المجتمعات أننا نبالغ في الانشغال بما يقوله الناس تلميحاً وتصريحاً. نتفهّم الردّ على الكلام الصريح لكن الانشغال بتفسير "التلميحات" أو الكلام المرسل، وكأنها سهامٌ موجّهة ضدنا هو أمر غير مُبرَّر. والأسوأ حينما ننشغل بالردود المفحمة أو التبرير وننسى أنَّ التركيز على الهدف أولى من إهدار الوقت في ذلك.
والاهتمام بمن يستحق التجاهل هو مكافأة له. فأولئك النكرات أو المثبطون أو الحاقدون أو المنتقمون إنما ينشدون لفت أنظارنا أو التثبيط من عزيمتنا. ولذلك يقول الأديب الإنجليزي وليام شكسبير "عوِّد نفسك على التجاهل، ليس كل ما يقال يستحق الرد". وهو الذي قال "تجاهل من يحاول استفزازك، لتستفزّه أكثر". ولذلك من الأهمية أن يتجاهل المرء "المشاعر الشيطانية" أو "الوهمية" التي تجول بخاطره فهي لا تعدو كونها محاولة لتضخيم ردود أفعالنا تجاه الآخرين وكلامهم.
وعلى النقيض، هناك من يستحقّ أن نلتفت إليه حتى ولو كان شخصاً لا تبدو عليه أي مظاهر تدعو إلى الاهتمام. ولذلك يدعونا غابريل لاوب "لنتعلم من الرياضات عدم تجاهل الأصفار". وهم أولئك الذين نراهم "أصفاراً" على الشمال كما نقول باللهجة العامية. غير أنّ الصفر إذا ما وضعناه في المكان المناسب (يمين الرقم) فإنه سيضيف قيمة كبيرة. فلا يجدر الاستهانة بالأصفار أو الساكتين من حولنا. فكم من ساكت يحمل في داخله معلومات وخبرات هائلة لم يكتشفها سؤال ذكي من الحاضرين.
كما أنه من الحكمة تجاهل مشاعر التردد أو الخوف عندما يكتمل لدينا أركان اتخاذ القرار الرشيد. خصوصاً إذا منحناه متسعاً كافياً من الوقت للتفكير وجمع المعلومات وتأمل البدائل. فكثير من مشكلاتنا يفاقمها عدم تجاهل تلك المشاعر السطحية أو المؤقتة. ولهذا يقول جبران خليل جبران: "إذا تعلَّمتَ التجاهُل، فقد اجتزت نصف مشكلات الحياة". وبالفعل عندما تتأمل معارك العمل تجدها تدور حول محاولات سحب البساط من تحت تفانيك وجدِّك واجتهادِك. وكذلك في حياتنا الاجتماعية كثير من لهيب المنغصات يُطفئها التجاهل.
والتجاهل هو نفسه مفهوم "التغافُل" الذي يُقصد به تظاهر بالغفلة أو تعمُّدُها. قالت العرب قديماً:
لَيْسَ الْغَبِيُّ بِسَيِّدٍ فِي قَوْمِهِ ... لكِنَّ سَيِّدَ قَوْمِهِ المُتَغَابِي (أَيْ المُتَغَافِل). ويُروى عن الخليل بن أحمد قوله "تسعة أعشار حسن الخلق في التغافل".
روعة التجاهل أنه يُستخدم في السرّاء والضرّاء. فهو يمكن أن ننال به من خصومنا لأنه "انتقام راقٍ، وصدقة جارية على فقراء الأدب"، كما يقول جبران خليل جبران. ويُعدُّ التّجاهُل خلقاً يزيد المرء ترفّعاً عن سفاسف الأمور ليزداد به خلقاً ونُبلاً.