جورج بروميل.. الرجل الذي ابتكر الموضة المعاصرة قبل أكثر من ٢٠٠ عام
هناك العديد من الكتب التي تحتوي على صورة وقصص عن رجال يعتبرون «أيقونات» في عالم الموضة، من كاري غرانت إلى ستيف مكوين ففريد أستير وغيرهم. لكن وبرغم أنهم جميعهم على قدر عالٍ من الأناقة لكنهم بشكل أو بآخر تابعين وليسوا مبتكرين، فهم اتبعوا قواعد وضعت من قبل وأدخلوا بعض التعديلات عليها وقاموا بجعلها تشبه شخصياتهم. ولكن إن كان هناك رجل يستحق بالفعل لقب «أيقونة» ومبتكر للموضة المعاصرة فهو جورج «بو» بروميل.
جورج براين «بو» بروميل، والذي يعتبر الرجل الأكثر شهرة وتأثيراً في بداية القرن التاسع عشر كان النقطة المحورية لثورة. فهو أحدث تغييرات عديدة تردد صداها في كل أنحاء العالم لاحقاً ولكن ليس بقوة السلاح وإنما من خلال ابتكاراته الخاصة وذوقه ورؤيته للملابس الذكورية وآلية تصرف الرجال وعنايتهم بأنفسهم. الرجل كان يبتكر وينفذ والرجال يقلدونه في كل شيء.. حتى في روتينه الخاص بالعناية بالنفس.
الداندي الأول
في وقتنا هذا وعند الحديث عن بو بروميل فإن الغالبية تصنفه على أنه الداندي الأول وحتى إن اسمه بات مرادفاً للداندية. ولكن الواقع هو أن بروميل لم يبتكر المبدأ هذا وهو بالتأكيد ليس الداندي الأول لأن المصطلح ظهر عام ١٧٨٠ أي حين كان بروميل يبلغ الثانية من عمره. ولكن وبسبب أسلوبه فهو تحول ليكون رمزاً لهذه الفلسفة ومثال لنمط ذكوري في الملابس ما زال يتم اعتماده في وقتنا هذا.
الداندية هي فكر وفلسفة قائمة على منح الملابس اهتماماً كبيراً والعناية بالنفس اهتماماً أكبر سواء لناحية الاستحمام أو طريقة التحدث أو السير. الداندي هو الذي يمضي الكثير من وقته وهو يهتم بهندامه وشعره ويتصرف بشكل راق وهو أيضاً يمثل طبقة اجتماعية معينة وتفوقها الأرستقراطي. بو بروميل بالتأكيد لم يكن الداندي الأول ولكنه الأكثر تأثيراً والأكثر شهرة.
ولادة ذواقة
ولد جورج برايان «بو» بروميل في بريطانيا عام ١٧٧٨ ، وكان حفيد صاحب متجر، وابن السكرتير الخاص للورد فريدريك نورث.
الفترة الأولى من حياته كانت فترة من التغييرات والثورات سواء في أوروبا أو أمريكا الشمالية. الثروة الفرنسية ثم الأمريكية أدتا الى تراجع تأثير الأرستقراطيين ونفوذههم وبداية ظهور الفردية والملابس بدأت تعكس هذه التغييرات السياسية والاقتصادية.
في القرن الثامن عشر ملابس الرجال كان ما تزال مبهرجة ومتأثرة بالنمط الفرنسي الملكي، من الستان الملون بألوان قوس القزح الى المخمل والكرافات المصنوعة من الدانتيل والجوارب المزخرفة التي كانت تصل الى الركبة، فالشعر المستعار الأبيض المنمق والمكياج والحلي. الصورة كانت مبالغ بها بشكل كبير ولعل الرجال خلال تلك الحقبة كانوا أكثر بهرجة وتبرجاً من النساء أنفسهم.
في المقلب الآخر كانت الموضة في بريطانيا تسير بخط مغاير، فتم تبني البساطة والألوان الواحدة والأقمشة العسكرية. التحول الكبير والأساسي هذا هو نقطة محورية في «ذكورية» ملابس الرجال وتحول الموضة إلى رمز للمساواة. الموضة أدارت ظهرها للمبالغة وبدأت العناية المبالغ بها بالذات تصنف على أنها مقاربات وتصرفات أنثوية.
بروميل لاحظ أن ما يحصل هو لحظة تاريخية وبداية لعصر جديد، فموضة الرجل وطريقة تصرفاته وشخصيته تحدد مكانته في المجتمع وليس الثروة أو الدم النبيل.
في عام ١٧٩٠ التحق جورج بكلية "إيتون" حيث برز حسه الفطري بالأناقة هناك، كان عليه ارتداء ربطة عنق بيضاء ومشبك ذهبي كجزء من اللباس الموحد وهناك أعاد ابتكار ربطة عنق «إيتون» المميزة والتي ما تزال معتمدة حتي يومنا هذا. حسه الخاص بالموضة لفت الأنظار إليه، وهذا ما كان يسعى إليه أصلاً وهكذا بات معروفاً بين زملائه.
في عام ١٧٩٤ انتقل بروميل إلى لندن والتحق بفوج الفرسان الملكي العاشر الذي كان تحت قيادة أمير ويلز والذي سيصبح لاحقاً ملك بريطانيا جورج الرابع.
الأمير وحاشيته وجدوا في برومل خصالا مثيرة للاهتمام، فهو يملك شخصية ساحرة وذكي للغاية وسريع البديهة.
بروميل وجد الإلهام في بساطة الملابس العسكرية والمقاس المثالي الخاص بها وهنا كانت نقطة التحول إذ خلال حياته لاحقاً سيعتمد على المبدأ هذا من إجل ابتكار ملابسه الخاصة وسواء من سراويل أو قمصان وسترات والتي هي الأساس الذي أدى الى القمصان والسترات المعاصرة. خلال فترة قصيرة الفترة بات بروميل مثالاً يحتذى به ضمن هذه دائرة الأمير ولاحقاً مثالاً لكل لندن.
الأناقة حينها.. كما نعرفها اليوم
شعار بروميل في الأناقة كان «أقصى درجات الرفاهية من أجل خدمة عدم التباهي»، أو ما نعرفه اليوم بمبدأ «الأقل هو الأكثر». الأناقة مع بروميل باتت تعتمد على تصميم الملابس البسيط ونوعية الأقمشة وليس على الألوان والزينة والزركشات، فوفق بروميل إن كنتم تسيرون في الشارع والتفت أحدهم وحدق بكم فإن ذلك لا يعني أنكم متأنقون بل يعني أنكم إما تسيرون كألواح خشبية وإما أنكم ترتدون ملابس مبالغ بها.
معطف بمقاس مثالي من الصوف وباللون الأزرق الداكن مع سروال وقميص من اللينين مع كرافات ناصعة البياض من الكتان وحذاء داكن بعنق مرتفع تختصر المفهوم العام للأناقة بعد أن كانت الصورة العامة سابقاً تتضمن الريش والألوان والأقمشة اللامعة والحلي والمكياج. البساطة كمدخل وحيد للأناقة هي الشعار الذي ما زال معتمداً حتى يومنا هذا.
مع بروز نجم بروميل بدأت علاقة «تجارية - إعلانية» من نوع ما مع شارع سيفيل. الخياطون هناك كانوا ينتظرون بروميل على أحر من الجمر للتعاون معه وللتعامل مع مقاساته الدقيقة للغاية وفي المقابل كانوا يعرضون عليه عينات من أعمالهم كي يعتمدها بحكم أنه الأيقونة التي يقلدها الجميع.
أي باختصار الأناقة القائمة على المقاس والتنسيق بين الألوان والأقمشة العملية ندين بها كلها لبروميل، في الواقع البدلة المعاصرة تم إبتكارها من قبله وإن بتفاصيل مختلفة بشكل طفيف، والكرافات التي كان يمضي الكثير من الوقت في ابتكار عقد مختلفة لها هي أساس ما يعتمد اليوم وكذلك الأمر بالنسبة للقمصان.
طقوس بروميل «الغريبة»
في القرن التاسع عشر الاستحمام بشكل يومي لم يكن أمراً متعارفا عليه، الغالبية كانت تقوم بغسل وجهها وذراعيها ولكن بروميل أدخل «المفهوم الثوري» للاستحمام بشكل يومي. خلال تلك الفترة كان هناك قناعة عامة بأن التعرق ضروري وصحي للجلد ولكن بو بروميل كان يستحم يومياً. طقوس عنايته بنفسه باتت معروفة وشهيرة وحتى أن أمير ويلز كان يعاينها أحياناً كي يتعلم منه خصوصاً وأنها تستغرق ساعات.
بروميل كان يجلس في حوض الاستحمام لوقت طويل ويحرص على نظافته الشخصية وبالتالي ابتعد كلياً عن الاستخدام المفرط للعطور والكريمات، فهو لم يعد بحاجة إليها. كما أنه كان يمضي ساعات وهو يقوم بتجربة ربطات جديدة للكرافات الخاصة به كي تبدو في النهاية بأنها عقدت بأقل قدر ممكن من العناء.
حتى أنماط الشعر المبسطة ندين بها لبروميل، فبعد أن كان الشعر المستعار الضخم هو الشائع جاء بروميل بتسريحة مبسطة رغم أنها كانت تتطلب حينها عناية كبيرة. فكان يملك ٣ مصففين للشعر، واحد للشعر الأمامي الذي كان يسرحه إلى الجهة الأمامية وتغطي الجبين، وواحد للجزء الخلفي من شعره ومصفف شعر للسالفين.
البساطة تجتاح عالم الموضة
صورة بروميل انتشرت وعلاقته بالملك ساعدته على الترويج أكثر فأكثر لنمطه في الموضة. في الواقع غالبية المتابعين لتاريخ ومسار الموضة يؤكدون أنه لو لم يظهر بروميل ويقم بهذه النقلة النوعية لكنا على الأرجح ما زلنا نعتمد اليوم على الأنماط المزركشة والملونة والمبالغ بها كنمط أساسي لملابسنا أو على الأقل كُنّا ما زلنا ندور في فلك المبالغة سواء لناحية الألوان أو الأحجام.
من القمة إلى القاع والسبب نكتة!
نكتة واحدة كانت كفيلة بجعل بروميل يسقط من القمة إلى القاع. بروميل الذي كان صديقاً مقرباً من الملك استفاد من هذه الصداقة كي يبرز وكي يروج لحسه الخاص بالموضة برضا الملك نفسه الذي وفر له منصة للترويج لموضته.
لكن العلاقة بين الملك وبرميل لم تكن مثالية طوال الوقت وذلك لأن بو كان يطلق ملاحظات مزعجة أو قاسية بحق الملك نفسه. يقال إنه في إحدى المناسبات الاجتماعية قام الملك بالتحديق ببروميل من دون أن يقول شيئاً، حينها توجه بروميل لأحد رفاق الملك وسأله «من هو صديقك السمين»؟ وذلك في إشارة للملك نفسه. النكتة هذه لم يتقبلها الملك على الإطلاق وخسر بروميل صداقته معه ومكانته الاجتماعية ومنصته التي كانت تضمن له شهرته.
الفترة اللاحقة كانت مرحلة السقوط الى القاع، فالسلم الاجتماعي الذي أمضى حياته وهو يتسلقه انهار بشكل كلي ليس فقط بسبب النكتة تلك بل لأن بروميل الذي ينفق الكثير من المال على ملابسه وأناقته كان يرزح تحت ديون طائلة. في عام ١٨١٦ هرب إلى شمال فرنسا لتجنب تسديد ديونه وبرغم أنه تم تعيينه كقنصل لبريطانيا في مدينة كاين الفرنسية واستفاد من الحصانة الدبلومسية ولكن ذلك انتهى بعد عامين وتم اعتقاله بسبب ديونه المتراكمة في فرنسا أيضاً.
بعض الأصدقاء في لندن أرسلوا له المال من أجل تسديد ديونه هناك والخروج من السجن ولكنه لم يتمكن من العودة إلى لندن. الفترة الأخيرة من حياته كان حافلة بالاكتئاب والجنون والتهم ويقال إنه أصيب بمرض الزهري الذي كان سبباً في حالة الجنون التي عانى منها.
وحيداً ومريضاً ومكتئباً فارق بروميل الحياة عام ١٨٤٠ وهو في الـ ٦١ من عمره في كاين في فرنسا ودفن في نعش دفعت جمعيات خيرية ثمنه. نهاية مأساوية لرجل لم يقلده العالم بأسره حينها فحسب، بل وضع الخطوط الأساسية لموضة الرجال كما نعرفها اليوم. اليوم يرتفع تمثال برونزي له في شارع جيرمن، وهو شارع تاريخي في لندن ومركز أفضل صناع الموضة في البلاد وأسفل التمثال حفرت مقولة له «لتكون أنيقاً فعلاً، يجب ألا تلفت الأنظار».. مقولة تناقض نمط حياته فهو الرجل الذي لم تتم ملاحظته فحسب بل تم تقليده في كل ما يقوم به ما أدى الى ثورة ذكورية في موضة الرجال.