رحيل... ورحيل
هل تمضي الحياة كما كانت؟ هل تبقى الأشياء كما هي، ويأتي صباح جديد، وتغادر الناس إلى أعمالها، وكأن ما حدث لم يحدث؟ كيف هي الحياة التي تختطف أجمل ما في حياتنا وتركض بعيداً عنا، ومن ثم تأخذنا إلى عالمها، نعيش أحداثها ويندمل جرح؛ لكنه لا يطيب.
تعيش لفترات تعتقد أن ما يحدث في العالم من حولك لا يمكن أن يصيبك، وكأن لديك حماية استثنائية خصك بها الخالق. تسمع عن أحداث وأخبار وأشخاص رحلوا، وناس في خضم الركض غادروا. وتعود إلى منزلك ركضاً. تحتضن أمك لتشعر بالأمان، وتتحسس يد والدك لتقبلها فترتوي بالخير. برنامج يومي يبدأ في ركض الحياة وينتهي بجمعة الأسرة في حضرة الوالدين، وتكون الجلسة مفتوحة لحوارات ونقاش أفكار وكتب وأحداث، وكأنها ندوة تلفزيونية، نستجمع فيها الفكر، ونتغذى منها بالعاطفة.
لا يمهلك الزمن كثيراً. سُنة الحياة. يوماً ما طرق القدر الباب. أمك أغلى ما تملك يتسلل إليها المرض. يوم فاصل قبله مرحلة وعمر، وبعده حياة ثانية. لحظة كنت تخافها وتخشاها وتلغيها من تفكيرك؛ لكنها الحكمة الإلهية، وما علينا إلا الاستسلام والقبول. ويختبر القدر قوة إيمانك، وتلجأ إلى الله تطلب منه الصبر والمعونة.
لكنها الأم التي لا يهزها المرض ولا تستسلم؛ بل بقيت كعادتها كياناً ثابتاً، نبراساً للأبناء، ومصدراً للعطاء. تحتضن الجميع، توزع الابتسامات، وتخفي ما تستطيع إخفاءه، وتبقي التفاؤل والفرح، وكأن المرض زائر يحضر معه السعادة. تتعالى عن المرض بقوة الإيمان وصدق التفاؤل والثقة فيما يختاره الله.
وأتت اللحظة الصعبة. وغادرتِ يا أمي، وغادرتْ معك أشياء وأشياء. سبحان من ينزل الصبر في قلوب المحتسبين. فاحتسبنا أمرنا لله. الإيمان في اللحظات الصعبة خير علاج. غادرتِ يا أمي إلى مكان أفضل مما كنتِ فيه بإذن الله.
رحيلك لم يكن سهلاً. أتحسس مكانك وأترقب جلستك. وأنسى أنك غادرتِنا، أدخل إلى مكانك لكي أقبل يدك، وأبدأ يومي كعادتي بدعوتك، فأكتشف أن المساحات مهجورة وباردة. أين الدفء الذي كان يملأ المكان؟ أين الصوت الذي لزمته الثابتة الدعاء: «الله يجعل لك يا ولدي في كل خطوة سلامة، ويسخر لك القلوب». رحيلك صعب يا أمي.
غيابك صعب علينا يا أمي، وما أصعبه على أبي، فبعد عشرة عمر وحياة مشتركة لأكثر من نصف قرن يصعب الفراق.
كان والدي الدكتور فهد بن جابر الحارثي كعادته كبيراً في كل شيء. يستند إلى إيمان عميق وقبول بالقدر. ندرك، نحن الأبناء، أن رحيلها خطف منه أشياء لا تعوض؛ لكنه يستند إلى إيمانه القوي، وتماسكه المثير. وإذا ما شعر بموج من الشوق يهز كيانه لجأ إلى صديقه الأبدي، القرآن، الذي يرافقه دوماً في الهزيع الأخير من كل ليل.
كنت أنظر إليهما وأتعجب من الحب والألفة بينهما رغم السنين. قصة حب نراها كل يوم، يتشاركان في كل التفاصيل، ويحرصان على الجلسة العائلية المشتركة التي تجمع الأسرة في المساء، أياً كانت الالتزامات. وأبتسم منهما، فأمي حتى في أيامها الأخيرة إذا ما سمعت صوت أبي قفزت كمراهقة مرتبكة تستعد للقاء، ووالدي منذ طفولتنا لا أتذكر أنه سافر ما لم تكن إلى جانبه. سعادتهما كانت باختصار وجود بعضهما إلى جوار بعض.
بقيت يا أبي كما عرفك محبوك وأصدقاؤك نهراً من العطاء، بشوشاً في وجوه الآخرين، محباً للخير، مجلسك يجمع مختلف الشرائح في المجتمع، وكل شخص يشعر أنه الأقرب إليك. تفرح لحضور الناس، وتقلق لغياب من اعتاد الحضور. وتسأل عن أحوال من تعرف، ويصل خيرك سراً لمن يحتاج، فكسبت الرضا في الدنيا، والأجر في الآخرة.
كم كان وداعك مهيباً يا أبي. آلاف الأشخاص من كل مكان، أعرف بعضهم، وكثيرون لا أعرفهم، هذا أحد طلابك قبل أربعين سنة يحكي ودموعه تسبقه، كيف غيرت مسار حياته. وهؤلاء مجموعة من حملة الدكتوراه، يحكون حينما كانوا معلمين في المدارس الابتدائية، كيف حفزتهم لإكمال تعليمهم، ومنحتهم استثناء وهم على رأس العمل. سبحان الله! الخير يثمر حتى ولو بعد حين.
ونحن نصلي عليك في بيت الله الحرام، ونودعك الوداع الأخير، تذكرت كم كان هذا البيت عشقك وشاغلك. تتأخر علينا كل مرة، فنتصل عليك فتقول: «هزني الشوق إلى بيت الله، فذهبت إلى هناك». وكأنك تدرك أنه سيكون موعدك الأخير، ومكانك الذي اخترته لتوديع أهلك ومحبيك.
هل تفي لك الدموع التي سكبت عليك، أم الدعاء الذي لم ينقطع من محبيك لأجلك؟ تغادر يا أبي وترحل معك الطمأنينة التي تضفيها على من حولك، وذاك الحب الذي تبثه في محيطك. كيف للمساءات أن تكون من دونك، وتلك الزوايا من يملأها غيرك؟ والنقاشات المثيرة من يبدأها في غيابك؟ كيف يا أبي... أصارع الشوق والحنين إليك؟
ما يخفف علينا المصاب أنك بإذن الله في مكان أفضل. تعود إلى حبيبتك ورفيقة عمرك أمي، تجتمعان سوياً. فأنا أشعر أنها في شوق لك، وأنت في لهفة إليها. لذلك لم تطل الانتظار فتبعتها بعد شهور بسيطة، وكأنك تسابق الزمن للقائها. وكأن المستحيل فراقكما، والطبيعي اجتماعكما.
ونحن نتلهف إلى لقائكما ونستبشر بما يكتبه القدر، ولا ندري من يكتب الله له ساعته أولاً؛ لكن أسأل الله أن يجمعني بكما، فهذه هي جنتي ومرادي. والحمد لله على كل حال. ونبقى دائماً بروح التفاؤل والسعادة والعطاء، فهذه دروسكم ووصاياكم، ونحن عليها سائرون.