من أرشيف الرجل.. الحسن الثاني: أهوى الطبخ.. وتمنيت لو كنت مؤرخاً
من ارشيف الرجل في نوفمبر – تشرين الثاني 1995، يقول العاهل المغربي الملك الحسن الثاني، إنه كان دوماً يتمنى ان يصبح مؤرخاً لو لم يكن ملكاً. وهذا الولع بالتاريخ يبدو جلياً في حياة الملك وقراراته.
وفي هذا السياق يحكي واقعة لها دلالتها، مع والده الملك الراحل محمد الخامس، فيقول: "حين حصلت على شهادة البكالوريا (الثانوية العامة)، ذهبت عند والدي لأفسر رغبة تحدوني لدراسة التاريخ. فاجابني قائلاً:
"لا داعي؛ عليك ان تدرس الحقوق، لأنك ستجد دائماً مهندساً ليبني القناطر، ومؤرخاً ليكتب التاريخ ولكن القانون وحده يمكنك من الدفاع عن نفسك وعن حقوق شعبك".
ويبدو اليوم العاهل المغربي مقتنعاً جداً باختياره الدراسي، إذ إنه كثيراً ما يتحدث عن عشقه لمهنة المحامي، لذلك نجده يقول "كثيراً ما كنت اقول مازحاً، كان في الامكان ان اصبح محامياً".
ولكن كيف يرى الحسن الثاني مهنته ملكاً؟
اريد ان اكون جدافاً ماهراً، فالمرحلة التي نجتازها تتّسم بتحولات هائلة في الحضارة والعالم؛ فنحن نبحر في مياه جارفة، فإما ان ننجو منها او نغرق فيها. وما اتمنى ان يقال عني، هو انني احسنت التجديف بقاربي، الذي هو المغرب".
ان محاولة كتابة صورة عن قرب، او حتى صورة شديدة الاتساع عن الحسن الثاني، تقتضي تتبع خطى هذه الشخصية منذ الصغر.
وُلد الحسن الثاني في التاسع من يوليو/ تموز 1929، وقد تربّى منذ صغره ليكون ملكاً. ولا تبدو عملية تربية شخصية، ذات طابع خاص، مسألة هينة، خاصة اذا ما عزم في الاساس تهيئتها لمهام مستقبلية كبيرة. لذلك حين سئل ذات مرة: كيف تتمّ تربية الملك؟ اجاب: "المسألة في غاية التعقيد. وأعتقد انه ينبغي قبل كل شيء ان يكون الاب مربياً من الدرجة الاولى".
وتبدو تربية العاهل المغربي، قد سارت على منوال خطى ابيه الذي كان حريصاً على تربية ابنه، بما تقتضيه ضرورات تكوين شخصيته رجلاً، لا بدّ ان يتحلى بصفات الفروسية، وملكاً لا بدّ ان يتحلى بصفات العرش. لذلك لا يتحرج العاهل المغربي بالقول: "الى حدود العاشرة من عمري او الثانية عشرة، تلقيت ضربات بالعصا، وكان يسعدني ان اتلقاها من ابي لا من غيره".
مرحلة الصبا
كما حرص المغفور له الملك محمد الخامس، على تربية ابنه أسرياً واجتماعياً وسياسياً، حرص كذلك على تعليمه العالي. ورغم ما اعترض حياة الملك محمد الخامس من عقبات ونفي، فإنه استمرّ في حرصه على تلقي ابنه افضل تعليم ممكن، خاصة التعليم الديني.
وكان الملك الحسن الثاني، قد التحق بالمعهد المولوي في الرباط، مع ثلة من ابناء الشعب، الى ان حصل على البكالوريا. ومن أساتذته خلال تلك الفترة، الفقيه القصبي (الفقه والتوحيد)، وتوفيق الخياط (المطالعة والإنشاء)، ومحمد الفاسي (التاريخ)، وهو الرجل الذي يقول عنه الملك الحسن الثاني انه تعلم منه الوطنية، وعبد الرزاق البرنوصي (النحو والصرف)، وعبد الرحمن بن موسى (القرآن الكريم)، وموريس دوفال (اللغة الفرنسية)، وسلييري (الجغرافيا)، وفوريس (التاريخ)، وهينو (الرسم والتصوير)، وميرامير (الموسيقى)، والضابط لافوري (الفروسية)، وبيرتلو (الاشغال اليديوية)، ومحمد ابا حنيني (لادب)، والمهدي بن بركة (الرياضيات)، وعبد الهادي بو طالب (النحو).
وقد تابع الملك دراسته الجامعية في الحقوق، الى ان نال شهادة الدكتوراه، السلك الثالث، من جامعة "بوردو" في القانون. وخلال تلك الفترة تلقى تكويناً عسكرياً على ظهر الباخرة الفرنسية العسكرية جان دارك.
والى جانب الدراسة شارك العاهل المغربي، والده الملك محمد الخامس في جميع الانشطة السياسية، كما نُفي معه في اغسطس / آب 1953، وظل الى جانبه حتى تُوّج ملكاً بعد وفاته في 3 مارس / اذار 1961.
وتبدو نشأة الحسن الثاني، وجودة تربيته وتعليمه وخبرته المبكرة لأروقة السياسة الداخلية والخارجية، والمواقف الحرجة التي مرّ بها في حياته، صقلت شخصيته، ومكنته من ان يصبح واحداً من ابرز القادة العرب، وسيد "التوازنات السياسية"، التي استطاع من خلالها ان يحقق للمغرب قدراً عالياً من الاستقرار، على الصعيد الداخلي، فضلاً عن قدر اكبر من الاحترام والثقل الدولي على الصعيد الخارجي.
صيد و موسيقى
وسط الكم الكبير من مشاغل الملك، يبقى هامش متاح للهوايات الخاصة، وهي متعددة بطبعها، بما ينسجم وروح الملك الشابة والرياضية. فهو يعشق الموسيقى. ولا تزال صورته وهو يعزف على آلة "الاكورديون"، ذات مرة، منطبعة في اذهان الكثيرين. كما انه من هواة الصيد والقنص. وعادة ما يمارس هذه الهواية فوق "جبال الاطلس"، او في ضواحي مدينة مراكش. وهو فوق كل ذلك من عشاق رياضة "الغولف"، التي يكاد يمارسها يومياً. اما السباحة، فهي رياضة الصيف المحببة، فضلاً عن الفروسية. ويميل الملك الحسن الثاني كثيراً الى قراءة كتب التاريخ والتراث. ولديه ولع خاص بكتب الطب. وقد بلغ من ولعه هذا أن اخترع جهازاً لتنظيم ضربات القلب، رغم انه لم يدرس الطب دراسة اكاديمية. كما يحلو له في بعض الاحيان، العمل داخل مختبر كيميائي ملحق بالقصر الملكي.
دلالة المكان
اما بالنسبة لأماكن وجود الملك، فذلك يرتبط باعتبارات عدة، من بينها الظروف المناخية، والدلالة الخاصة لكل مكان في نفسيته. فعلى سبيل المثال، تجده حريصاً على قضاء شهر رمضان في الرباط، حيث تنظم (الدروس الرمضانية) التي يلقيها علماء من مختلف انحاء العالم، قبل موعد الافطار بساعة. وفي الصيف يقيم في قصر "الصخيرات" الذي يقع على بعد 25 كيلومتراً من الرباط، قبالة المحيط الاطلسي. وفي الدار البيضاء خلال فصل الشتاء، او آخر السنة. وفي الربيع يقيم في مراكش، وأحياناً في فاس.
اما اذا اراد ان يخلو لنفسه، ويتخذ قرارا له اهمية، فإنه يفضل منتجع "افران" الشتوي، الذي يقع فوق مرتفعات جبال الاطلس المتوسط، وهو من اكثر الاماكن هدوءاً، وله طبيعة خلابة، حيث توجد فيه منطقة بحيرات، وتحيط بالمدينة أشجار الأرز الباسقة.
وفي الآونة الاخيرة كان الحسن الثاني يقيم بانتظام في قصر "بوزنيقة"، الذي يقع على بعد 35 كيلومتراً الى الجنوب من الرباط، وتُربّى فيه خيول عربية اصيلة.
يوم الملك
يوزع العاهل المغربي ساعات يومه بكيفية متوازنة، بين العمل الرسمي والامور الخاصة. ولعل افضل وصف لحياة الملك اليومية نجده في مقتطفات مما كتبه عبد الوهاب بلمنصور، مؤرخ المملكة المغربية، عن "يوم في حياة الملك".
يقول بلمنصور: ينهض الملك في الصباح باكراً، فيستحم ويحلق ذقنه ويؤدي صلاتي الفجر والصبح، وهو يتلو ما تيسر من القرآن الكريم. بعدها يقرأ قصاصات الصحف اليومية وخلاصات الانباء المحلية والدولية. ثم يمارسة لوناً من الوان الرياضة التي يتقنها جميعاً، وهذه الالوان تختلف باختلاف الفصول والسنوات؛ فتارة تكون ركوباً على صهوات الخيل، وتارة جولة خفيفة بالسيارة، وقد تكون مجرد تمارين لترويض الاعضاء وتنشيط الدورة الدموية.
وغالباً ما يكون الملك مصحوباً ببعض مساعديه ورجال حاشيته. وفي التاسعة صباحاً يحضر الى المكان الذي قرر ان يتناول فيه فطوره، مرة يتناوله في غرفة الاكل العادية، وأخرى في الهواء الطلق. ويتكون طعام الفطور من فواكه وأطعمة عصرية وعتيقة.
ولكن لا يأكل منها الا القليل، ويأمر بتوزيعها على من يشاء من سكان القصر. وقد يبعث احياناً بالشهيّ منها الى بعض المسؤولين في منازلهم. ويفضل الملك ان يشرب قهوته الصباحية ممزوجة بالعسل لا بالسكر. وهو لا يفطر منفرداً، بل يستدعي بعض وزرائه وكبار موظفي دولته اثناء الفطور او بعض مساعديه، (وفي الآونة الاخيرة بات يحرص على أن يشاركه وجبة الافطار احد احفاده او حفيداته).
ينصرف بعد ذلك الى مكتبه الخاص داخل القصر، بعدما يكون رؤساء المطبخ تلقوا التعليمات في ما يخص طعام الغداء.
وفي مكتبه يراجع التقارير، او يستفسر عن الاحوال، او يأمر بإنجاز عمل من اعمال الدولة. وفي نحو العاشرة يخرج من المنزل، فتؤدي له فصيلة من الحرس الملكي تحية الصباح، ويجد في انتظاره عدداً من ذوي الحاجات الذين يحضرون بموعد او استدعاء، وكذلك مجموعة من المساعدين الذين جرت العادة ان يحضروا في مثل ذلك الوقت من كل يوم، فيتقدمون للسلام عليه ويعرضون عليه قضاياهم. وبعد ذلك يذهب الى مكتبه في الديوان الملكي مشياً إذا كان في الرباط، او يذهب اليه بالسيارة اذا كان في قصر من قصوره الاخرى.
ويستقبل الوزراء والسفراء وكبار الموظفين وباقي الضباط، ممّن دعي للحضور. ويبقى في الديوان الى ما بعد الظهر ثم يعود الى قصره. واذا لم يكن هناك من الامور المستعجلة ما يدعو الى الذهاب الى الديوان في الصباح، يذهب للعب الغولف، وهي هوايته الرياضية المحببة.
فيجد في انتظاره في باب الملعب عدداً ممن اعتادوا التباري معه ، وأحياناً بعض اللاعبين الاجانب. ثم يشرعون في التباري ساعة او ساعة ونصف، حسب عدد الاشواط المقرر.
وأثناء ممارسة الغولف يستدعي بعض مساعديه او احد وزرائه، للتفاوض معهم في امر من الامور. كما يتلقى باستمرار مكالمات هاتفية من مختلف الجهات، او يصدر تعليماته بوساطة جهاز هاتف نقال. ومن العادة ان يستريح الملك في وسط الملعب بضع دقائق، توزع خلالها المطاعم اللذيذة والمشارب السائغة والفواكه الشهية على اللاعبين والمرافقين. ثم يستأنف اللعب كما بدأ.
بعد ذلك يدخل الملك الى منزله فيستحم ويستريح قليلاً. ثم يلقي نظرة على ملخصات الانباء الداخلية والخارجية وبعض التقارير. وفي نحو الواحدة والنصف، يحضر الى قاعة الاكل، او الى اي مكان آخر يختاره للغداء، فيعرض عليه طباخو المطبخ العتيق ما اعدوه من اطعمة، وكذا طباخو المطبخ الحديث، فيختار منها.
ومن عادته الا يأكل منفرداً. وخلال الغداء ومثله العشاء يجري بينه وبين مدعويه نقاش في مختلف القضايا، تتطرق الى مواضيع الادب والفن والعلم، التي يرغب دائماً ان يخوض فيها. وقد يستلزم الامر احيانا الاستشهاد بوثائق او بنصوص، فيرجئ اكمال الحديث الى يوم آخر. وكثيراً ما تقطع الاحاديث، التي تكتسي احياناً طابع المناقشة الجدية، مكالمات هاتفية او مراسلات مكتوبة، ما يدخل في المستعجلات التي لا تقبل التأجيل.
وقبل ان ينهض الملك عن المائدة، يتلقى المسؤول عن المطبخ العتيق والمسؤول عن المطبخ الحديث تعليماته الخاصة بالعشاء. ثم يدخل الملك الى غرفته ليستريح. وفي نحو الخامسة والنصف، يخرج لاستئناف مهامه. ويستمر في بعض الاحيان الى التاسعة ليلاً. وبعد ذلك يبدأ العمل الذي قد يكون رئاسة مجلس وزاري مكبر او مصغر، او رئاسة لجان خاصة، او مقابلة سفراء او موظفين كبار، أو ضباط سامين او وفود منظمات واحزاب وطنية، او أشخاص دعوا إلى مقابلته، او طلبوا مقابلته.
ومن عادة الملك الحسن الثاني، ان يحضر معه اثناء كل مقابلة الوزير او الوزراء الذين لهم علاقة بالموضوع الذي سيطرقه مع مخاطبيه. واذا لم تكن هناك اجتماعات ولا استقبالات عكف الملك على النظر في ما بين يديه من ملفات واوراق، مؤشرا بقلمه عليها، ليقوم المسؤولون بعد ذلك بتنفيذ مضمون التعليمات. وإذا دخل وقت صلاة، أمر بإحضار اللبدة التي يصلي عليها.
مسامرات قبل النوم
بعدما يستريح الملك في غرفته بعض الوقت، يخرج للعشاء في نحو التاسعة مساء. فتجري العادات والترتيبات فيه مثلما جرت في الغداء. وبعد العشاء يسمَرُ الملك قليلاً مع من حظو بالعشاء معه، فيتطرقون الى مواضيع دينية، او ادبية، او علمية او فنية. ويطلب من محاوريه مناقشته بمنتهى الحرية، وألّا يسلموا بالنظريات والاحكام تسليماً مبنياً على مجرد الهيبة والاحترام، بل على الايمان والاقتناع. وإذا تعارضت الانظار واختلفت الآراء وأصر كل واحد او كل فريق على رأيه، قبل تحكيم عالم متخصص، أمر بإحضار الشواهد والنصوص. وبعدما تنتهي المناظرات والمسامرات يأذن لمجالسيه بالانصراف. ثم يشهد، في الغالب، فيلماً او يطالع فصلاً من كتاب قبل ان ينام.
هذا هو ترتيب وقت الملك الحسن الثاني في الايام العادية، اثناء وجوده في الرباط او احدى المدن الاخرى.
وقد يحلو له عندما يوجد في مدينة من المدن ان يزور المنشآت والمشاريع التي هي في طريق الانجاز، حتى لو لم تكن في اطار برنامج زيارته الرسمية.
طبخ وتذوق
يبدو واضحاً، لمن يتابع البرنامج اليومي للحسن الثاني، حرصه على ان يشاركه اكبر عدد من مساعديه تناول وجبات الطعام، خاصة اذا كان في رحلة داخل النغرب او خارجه. ويسمّي هذا التقليد "ديموقراطية المائدة".
وعن الطبخ قال مرة انه يحب الطبخ، وأشار الى ان من هواياته التذوق وابتكار اصناف الطعام. مضيفاً أن "المرء اذا كان يطبخ بنفسه قد لا تبقى له رغبة في الاكل".
ويتذكر العاهل المغربي تجربته مع الاكل والطبخ فيقول: "كنت ما ازال صغيراً، وكنت اهوى مراقبة عمل الطباخين عند اعدادهم لطرائق طهوهم".
ويذكر أنه خلال سنوات المنفى، كان، فضلاً عن دراسة الطب، يستغل اوقات الراحة لابتكار اصناف جديدة من الطعام. ويقول عن هذه الهواية: "عليّ ان اقول ان هاته الالوان التي كنت اطبخها على مهل، كانت في الواقع جيدة، ولكم ان تسألوا من ذاقوها. ان التذوق مسألة خيال، فلا بدّ ان تتجانس التوابل في ما بينها، مثلما يقع للعطور والالوان، ومعنى ذلك أنها مسألة أناقة".
أمراء وأميرات
للعاهل المغربي خمسة ابناء هم: الامير سيدي محمد وليّ العهد، والامير مولاي رشيد، وللّا مريم، وهي كريمته الكبرى، متزوجة من فؤاد الفيلالي (رجل أعمال) ولها بنت هي للّا سكينة، وابن هو مولاي ادريس. ثم للّا سماء وهي متزوجة من خالد بوشنتوف (رجل اعمال) ولها كذلك ابن هو مولاي اليزيد وبنت هي للّا نهيلة. والاميرة للّا حسناء، اصغر كريماته، وهي متزوجة من بن حربيط (طبيب).
وتقضي تقاليد الدولة العلوية، بعدم ممارسة زوجة الملك لأنشطة عامة. ويفسّر العاهل المغربي ذلك بالقول: "في المغرب لا توجد ملكة بل توجد أم للأمراء والأميرات".
اما كريمات العاهل المغربي وشقيقاته، فيمارسن عادة انشطة ذات طابع اجتماعي، ويترأسن جمعيات خيرية او في مجال الطفولة والامومة. والوحيدة من كريماته التي تتولى منصباً رسمياً هي الأميرة للّا مريم، التي تدير الشؤون الاجتماعية في القوات المسلحة الملكية المغربية.