التأثير الخفي "للسُلطة" على تصرفاتك
محمد النغيمش*
فوجىء طبيب حينما كتب إلى ممرضته في قصاصة ورقية عبارة مختصرة بالإنجليزي تطلب منها أن تضع عددا محددا من أعواد التنظيف القطنية في الأذن اليمنى للمريض. فكتب الطبيب في الوصفة الطبية بعجالة "Place in R ear" أي ضعيها في الأذن اليمنى وحرف R هو اختصار من الحرف الأول لكلمة يمين. غير أن الممرضة فهمت بأن الطبيب يقصد كلمة Rear أي المؤخرة فسارعت بوضع الأعواد في مؤخرة المريض!! وهنا صعق الطبيب بل الأعجب أن المريض لم يستنكر ولم تتأكد الممرضة من صحة ما قرأت. الأمر الذي يشير إلى قوة السلطة وكيف أن الناس تأخذ كلامك كمسؤول على محمل الجد والتسليم. جاءت هذه الحادثة في دراسة لباحثين متخصصين بالصيدلة وهما "ديفيز" و"كوهين" كان عنوانها "أخطاء الأدوية: الأسباب وكيفية تجنبها" ونشرت بمجلة JRDE.
وهناك في الواقع دراسات عديدة وأمثلة عملية تظهر قوة السلطة Power في التأثير على الناس. من هذه الأمثلة، ارتداء المديرين في المتاجر والمطاعم والمقاهي الكبرى زيا رسميا مختلفا عن سائر الموظفين. وهو علاوة على إشعاره الموظفين بترقيهم في السلم الوظيفي، ليعد أسلوبا نفسيا فعالا في التأثير على العملاء والمراجعين. فَلَو لم يقتنع الزبون، مثلا، بكلام الموظفين أو لم يتجاوبوا مع شكواه فإن دخول المدير بزيه المميز وأسلوبه يشعره بأن الموضوع صار بيد سلطة أعلى يمكن أن يثق بها عند الشكوى أو السؤال. ولذا لم يعجبني توجه بعض التخصصات الطبية كطب الأسنان الذي تخلى فيه كثير من الأطباء عن ارتداء معطفهم الأبيض التقليدي وصاروا يرتدون زيا يشبه زي الهيئة التمريضية.
وتظهر قوة تأثير السلطة على من يتردد في تسليم مفتاح سيارته الفارهة إلى شخص ذي ملابس رثّة يَدّعي أنه موظف "الڤاليه باركينج" (خدمة صف السيارات)! أو لدى أشخاص يعنفهم آخر زاعما أنه شرطي لكنه لا يرتدي زيا يعكس صدق كلامه.
أذكر أنني كنت في اجتماع مع جهة خارجية خدمية، فقال ممثلها الأجنبي الأشقر بنبرة متعالية، وهو يضع رجلا على رجل قبل أن نبدأ الاجتماع: من منكم صاحب القرار؟! فقلت جميعنا أصحاب القرار، لأبين له أننا فريق عمل، لكن يبدو أنه شعر بأنني أنا صاحب القرار، فصار يوجه أنظاره إلي حتى نهاية الاجتماع متجاهلا بغباء باقي الزملاء. أدركت حينها أن الناس بطبيعتهم يتأثرون بأصحاب السلطة وإن لم يظهروا ذلك.
وقد حاول عدد من العلماء دراسة هذا الأمر ومنهم دراسة للباحث هوفلينغ التي قاس فيها مدى استجابة الطاقم التمريضي لمطالب من يدعي عبر الهاتف أنه طبيب فتبين أن نحو 95 في المائة من الممرضين والممرضات مستعدون لتقديم : "أدوية غير آمنة ليس لسبب سوى أن هذا المتصل الطبيب قد طلبها".
وليس هذا فحسب بل تبين علميا أنه حتى المظهر الخارجي للسلطة يغير تصرفاتنا، وذلك حينما أظهر الباحث بيكمان في دراسته أن الناس يستجيبون أو يذعنون لطلبات رجل الأمن حينما يرتدي زيه الرسمي حتى وإن كانت طلباته ليست ضمن إطار مسؤولياته كأن يطلب من شخص أن يرفع كيسا مرميا على الأرض وما شابه. واللافت أيضا أن البعض مستعدون للإنقياد لتعليمات فرد يتجاهل حركة المرور مخالفا بذلك أنظمة السير (Jaywalker) لمجرد أنه يرتدي بدلة وربطة عنق وذلك بنسبة ثلاثة أضعاف ونصف من يرتدي بنطالا وقميصا عاديا، بحسب الدراسة التي كانت بعنوان "التأثير الاجتماعي للزي الرسمي".
أنا شخصيا وجدت نفسي أقف فجأة بسيارتي في منتصف الطريق حينما رأيت مجموعة من رجال الأعمال الشرقيين يحاولون عبور الشارع ويسيرون بسرعة لافته يتقدمهم شخص حسبته رئيس وزراء إحدى الدول أو سفرائها ولا أعلم حتى الآن من هو!
نحن في الواقع بشر نتأثر بأشكال الناس مهما حاولنا التظاهر بغير ذلك. وهذه ليست دعوة لخداعهم بالمظهر على حساب المخبر بل هي دعوة للاستفادة من هذه التجارب من حولنا والدراسات التي تؤكد أنه يمكن التأثير في تصرفات الإنسان إيجابا ودفعه نحو سلوك معين كالشراء أو البيع أو الإقتناع أو الثقة بِنَا، ضمن إطار أخلاقي مقبول.