الشدة واللين في التعامل
محمد النغيمش
تحدى كل من الشمس والريح أحدهما الآخر في من ينجح منهما في دفع ذلك الرجل إلى خلع معطفه. فبدأت الرياح تندفع إليه بقوة فلجأ الرجل إلى شجرة مجاورة ليتشبث بها. وكلما اشتدت وطأة الرياح وسرعتها زاد تشبثه في الشجرة حتى استسلمت الرياح. أما الشمس فشرعت ترسل إلى الرجل بهدوئها المعتاد أشعتها الدافئة التي تصاعدت تدريجيا حتى بدأ يتصبب عرقا فخلع معطفه فورا.
هذه القصة الرمزية تذكرنا بمجريات النقاشات اليومي. فهناك من يظن أن الشدة في الطرح هي السبيل الأوحد للتأثير في الآخرين أو تغيير سلوكهم فيما يلجأ آخرون بهدوء إلى الحكمة أو اللين أو المنطق فيكسبوا الجولة. ذلك أن الإنسان بطبيعته حينما يشن عليه هجوما لفظيا حادا يجد نفسه في موقف دفاعي لا شعوري. كأن تقول لمحاورك "إن مشكلتك كذا" أو "عيبك الوحيد كذا وكذا" فينبري في الدفاع عن نفسه قبل أن يتأمل طبيعة النقد. غير أن المرء حينما يعامل برفق ولين بعيدا عن الفظاظة يأخذ النقاش معه مسارا مريحا بطبيعة الحال.
وقد لفتتني دراسة حديثة لجامعة فلوريدا نشرت العام الجاري تشير إلى أن الفظاظة أو الشدة في التعامل ليست مزعجة فقط بل هي «معدية في أروقة العمل لأنها تنتشر مثلما ينتشر الزكام». وتبين أن التعامل الحاد الفظ لا ينتشر لفظيًا فقط بل حتى كتابيًا.
وهذا يعني أن الحدة في التعامل لا تزعج المتضرر منها وحده بل تمتد منغصاتها كالزكام لمن حوله. إلا الباحثين قالوا إن «الزكام قد ينتهي من دون مضاعفات، غير أن الفظاظة تأتي بعواقب وخيمة على الناس في مؤسساتهم».
والأصل في التعامل الإنساني اللين ويستثنى من ذلك ضرورات الشدة والحزم والقسوة المدروسة. وهو أسلوب محمود ولذا كانت العرب تمتدح من يتحلى بهذه الفضيلة فتقول فلان رفيقٌ، سهلٌ، سَمْحٌ، ليِّن العَرِيكة. وتنتقد ذلك الخشن، الفظ، العنيف، القاسي الذي يظن واهما أنه بهذه الطرق الصدامية يحقق مراده. ونسي هؤلاء أن حلاوة اللسان هي عمود الخيمة في تعاملاتنا الإنسانية والتجارية. وهو ما يذكرنا بقصة بائع العسل الذي قال لبائع الخل: ما بال الناس يشترون منك ويتركونني؟ فقال: أنا أبيع الخل بلسان من عسل وأنت تبيع العسل بلسان من خل!
وصدق الله تعالى القائل في محكم كتابه: "وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ".