تقنية النانو .. ماذا تعرف عنها؟
قصي المبارك – دبي:
تقنية النانو، الكلمة التي نسمعها كثيرا هذه الأيام، وقد يتساءل البعض ما معنى "نانو"؟
النانو هو جزء من البليون من المتر، ومثالا على ذلك، سمك شعرة الإنسان يبلغ 80.000 نانو، أما تقنية النانو فهي العلم الذي يهتم بدراسة خواص المواد والتعامل معها بهذا المقياس الصغير الذي يتيح تطوير خصائصها واستحداث وظائف جديدة لها، ولكن يبقى السؤال كيف يتم ذلك؟
إن خواص المادة مثل التوصيلية الحرارية أو التوصيلية الكهربائية أو الخصائص الميكانيكية كالصلابة ونقطة الانصهار وغيرها من الخصائص تعتمد بشكل أساسي على حجم المادة بحسب القوانين الفيزيائية المعروفة، ولكن تقنية النانو أتاحت التحكم بهذه الخصائص لأي حجم من المادة دون التقيد بالقوانين التقليدية من خلال التعامل مع المادة على أنها دقائق صغيرة مكونة من بضع ذرات أو جزيئات حيث إن المادة في هذا الحجم ستعطينا خصائص مختلفة تماما عن الحجم الكبير للمادة ذاتها.
وهذا يعني أن مفهوم تقنية النانو يعتمد على اعتبار أن الجسيمات التي يقل حجمها عن مائة نانومتر تُعطي للمادة التي تدخل في تركيبها خصائص وسلوكيات جديدة. وهذا بسبب أن هذه الجسيمات تُبدي مفاهيم فيزيائية وكيميائية جديدة تقود إلى سلوك جديد يعتمد على حجم الجسيمات.
وبشكل عام فإن تقنية النانو هي تلك التي تتعامل مع تراكيب متعددة من المواد ذات أبعاد من رتبة النانومتر.
كيف يمكن لهذه التقنية أن تغير الأشياء من حولنا؟
تطبيقات تقنية النانو غير محدودة، فمثلاً التعامل مع المادة بمقياس النانو سيتيح لنا مستقبلاً تصنيع "روبوتات" صغيرة جدا تستطيع الدخول إلى جسم الإنسان لمحاربة الخلايا السرطانية مثلاً، وسيتاح أيضا من خلال تقنية النانو تحسين كفاءة الأدوية وزيادة دقة تشخيص الأمراض، أما في الصناعة فيمكن من خلال هذه التقنية تغيير خصائص المواد لكي تصبح ذات جودة أفضل، كصناعة قماش لا يتأثر بالماء أو الحرارة على سبيل المثال، أو صناعة زجاج عازل للحرارة و لا يتأثر بالظروف الجوية، وكذلك صناعة حواسيب أسرع بمئات المرات وبتكلفة وحجم أقل بكثير من الحواسيب الحالية.
تاريخ تقنية النانو:
يعود الاهتمام الواسع بتقنية النانو إلي الفترة ما بين 1996 إلى 1998 عندما قام مركز تقييم التقنية العالمي الأمريكي (WTEC) بدراسة تقويمية لأبحاث النانو وأهميتها في الإبداع التقني، وخلصت الدراسة إلى نقاط من أهمها أن لتقنية النانو مستقبلاً عظيماً في جميع المجالات، الطبية والعسكرية والمعلوماتية والإلكترونية والحاسوبية والبتروكيميائية والزراعية والحيوية وغيرها، وأن تقنية النانو متعددة الخلفيات فهي تعتمد على مبادئ الفيزياء والكيمياء والهندسة الكهربائية والكيميائية وغيرها إضافة لتخصص الأحياء والصيدلة.
وقد كان عالم الفيزياء الأميركي ريتشارد فاينمان أول من أشار إلى هذا المجال العلمي الجديد، ودعا إلى استكشافه وهو مجال "المتناهي الصغر"، وذلك في محاضرة ألقاها في ديسمبر/كانون الأول 1959، ولم تشهد علوم النانو انطلاقتها الحقيقية إلا بعد اكتشاف "مجهر المسح النفقي" عام 1981 الذي يستخدم لرؤية مكونات الذرة ودراسة تركيب الجزيئات.
وجاءت الفكرة في أواسط الثمانينيات لثلاثة باحثين من جامعة رايس في بوسطن بـ"رصف" 60 ذرة من الكربون في شكل غير مألوف سابقا في الطبيعة، وهو على هيئة كرة على سطحها أشكال خماسية وسداسية كما يوجد في كرة القدم. وسميت هذه المادة الجديدة الفوليرين، ومن هذه المادة تم صنع أول أنبوب نانوي من الكربون عام 1991.
توظيفات تقنية النانو :
في المجال الطبي:
تمكّن فريق من الباحثين الأميركيين في معهد ماساشوستس من تصنيع جسيمات صغيرة متناهية الدقة يمكن أن تصور الأوعية الدموية من الداخل وتكشف عن تشكل أي نوع من الخثرات فيها.
وطبياً أيضاً، يسعى علماء سويديون لتطوير تقنية تعتمد على "النانو" لمحاربة الأورام عبر تدمير الخلايا السرطانية ذاتيا، في خطوة قد تساهم في علاج أنواع من السرطان دون اللجوء للعلاج الكيماوي والإشعاعي.
وتمكن باحثان من تطوير جزيئات بتقنية النانو ومسيطر عليها مغناطيسيا لاستهداف أنواع من الخلايا السرطانية مع الحفاظ على ما يحيطها من خلايا سليمة، مما يعطي بارقة أمل لملايين المصابين بالسرطان.
كما تمكن العلماء من صنع آلات دقيقة في حجم كرات الدم يمكنها معالجة العديد من الأمراض التي تستدعي عمليات جراحية كإزالة الأورام أو الانسدادات داخل الشرايين، كما يعمل العلماء في إدارة الطيران والفضاء الأميركية "ناسا" على صنع آلات دقيقة لحقنها داخل أجسام رواد الفضاء وذلك لمراقبة الحالة الصحية للجسم والتعامل مبكرا مع الأمراض التي قد تصيبهم دون الحاجة إلى طبيب.
وفي المجال الطبي أيضاً، قام الطبيب والباحث الإيطالي سيلفانو دراغونييري من جامعة باري بابتكار أنف إلكتروني محمول يستعمل أنابيب الكربون نانوية قادر على تشخيص أمراض مثل السرطان من خلال تحليل الهواء الذي يخرج من الرئتين خلال الزفير والذي يحتوي على أكثر من 3000 مركب عضوي طيار، ومن المعلوم أن الوسيلة الوحيدة للكشف عن هذا المرض حاليا هي جهاز المسح "السكانر".
في مجال الطاقة:
تعكف العديد من فرق البحث في مناطق مختلفة من العالم على ابتكار أجهزة لتخزين الطاقة بصفة عامة، وستساعد تكنولوجيا النانو على إنتاج بطاريات تخزن كميات كبيرة من الطاقة لفترات طويلة، وهو ما سيساهم بإنتاج سيارات تعمل بطاقة نظيفة بكلفة أقل ويخفض الاعتماد على النفط.
كما يسعى الباحثون إلى تطوير خلايا شمسية شفافة ذات مردودية عالية جدا تقترب من 100%. مع العلم أن الخلايا الشمسية المستعملة اليوم لا يتجاوز مردودها المتوسط 20%.
كما ظهرت في السنوات الأخيرة تطبيقات عديدة أخرى لتكنولوجيا النانو، من ذلك الملابس الذكية القادرة على إنتاج الطاقة أو إزالة الأوساخ والميكروبات ذاتيا، وزجاج طارد للأتربة وغير موصل للحرارة، وصناعة مواد ذات صلابة تفوق الفولاذ مع خفة وزنها، وابتكار شاشات مجسّمة (ثلاثية الأبعاد) شفافة وقابلة للطي.
إعادة تدوير البطاريات
نتيجة قلة كثافة الطاقة في البطاريات بصورة نسبية فإن وقت التشغيل محدود، بالإضافة إلى الحاجة لإعادة الشحن مرة أخرى، هذا بالإضافة إلى أن العدد الضخم للبطاريات المستنفذة تخلق مشكلةً في التخلص منها، ومن ثم فإن استخدام البطاريات ذات كمية الطاقة الأعلى بداخلها أو تلك القابلة لإعادة الشحن مرةً أخرى أو حتى استخدام المكثفات الفائقة ذات معدلات إعادة الشحن العالية باستخدام المواد النانوية قد تكون مفيدة بصورةٍ واضحةٍ لحل مشكلة التخلص من البطاريات المستهلكة.
وفي مجال الشحن والبطاريات أيضاً، استطاعت شركة "ستور دوت" الاسرائيلية تطوير تقنية خاصة تسمح بإعادة شحن الهواتف المحمولة في 30 ثانية فقط، والسيارات الكهربائية في دقائق، وذلك بالاستعانة بتكنولوجيا النانو لتطوير بطاريات خاصة يمكنها تخزين كم أكبر من الطاقة مع إمكانية إعادة شحنها بمنتهى السرعة.
وكشفت الشركة عن نموذج أولي ضخم لا يناسب الهواتف الذكية، لكنها أوضحت أنها تقوم بالتحضير لإنتاج بطاريات أصغر حجما تناسب الهواتف في 2016، يمكن شحنها في 30 ثانية لتكفي حاجة المستخدم طوال اليوم.
الفضاء
ستمثل المواد الأخف والأقوى فائدةَ هائلةً في مجال تصنيع الطائرات، مما يزيد من كفاءة الأداء.
كما ستستفيد مركبات الفضاء من تلك المواد حيث يلعب الوزن عاملاً حيوياً، كما ستساعد تقانة النانو من تقليص حجم المركبة ومن ثم تقليص استهلاك الوقود المطلوب لتحليقها في الجو.
و لربما يسفر استخدام تقنية المواد النانوية عن تقليل وزن الطائرة بدون محرك إلى النصف تقريباً في حين يتم زيادة قوتها ومتانتها، هذا بالإضافة إلى أن تقانة النانو تقلل من كتلة المكثفات الفائقة والتي ستستخدم بصورةٍ متزايدةٍ في توفير القوة للمحركات الكهربائية المساعدة وذلك بهدف إقلاع الطائرة بدون محرك عن الأرض المنبسطة إلى التحليق في الأجواء العالية.
حماية الأجهزة الذكية:
ابتكرت العديد من الشركات ومنها شركة "ليكويبيل Liquipel " الأمريكية تقنيات تحمي الأجهزة الذكية وتحولها إلى أجهزة مقاومة للماء اعتماداً على تقنية النانو، وذلك من خلال درع مضاد للماء لا يمكن رؤيته بالعين المجردة، وتتم هذه الحماية بعدة مستويات، حماية من التعرض السطحي الخفيف والعارض للسوائل مثل حالات سكب السوائل وتطايرها بطريقة غير مقصودة، والحماية من التعرض السطحي المتوسط والعارض للسوائل مثل حالات سكب السوائل أو انزلاق الجهاز في أحد أحواض الماء، والحماية من التعرض السطحي الشديد والعارض للسوائل مثل حالات التدفق الغزير للسوائل فوق الجهاز أو حتى سقوطه في حوض السباحة.
وفي مجال الأجهزة الذكية أيضاً، لم يعد ارتداء القفازات عقبة أمام استخدام الهواتف الذكية والحواسب اللوحية ذات الشاشات اللمسية، إذ تمكنت العديد من الشركات من تطوير قفازات يمكن للشاشات اللمسية الاستجابة لها بشكل كامل .
البصريات
تسمح تقنية النانو بتطوير نظارات شمسية تستخدم طلاءات البوليمير الرقيقة جداً والحامية والمضادة للانعكاس، كما توفر تقانة الصغائر في مجال البصريات طلاءات سطحية مقاومة للخدش باستخدام مكونات نانوية، فضلاً عن أن بصريات النانو قد تسمح بزيادة دقة تصحيح بؤبؤ العين والأشكال الأخرى من جراحات ليزر العين، وايضاً تستخدم في صناعة قرنية للعين.
هل هناك أضرار صحية لتقنية النانو؟
في ظل الانتشار المتسارع لهذه التكنولوجيا، بدأت تظهر خلال السنوات القليلة الماضية دراسات طبية تؤكد خطورة المواد المصنعة باستعمال الأنابيب النانوية الكربونية على الصحة.
وأشارت هذه الدراسات إلى أنها توصلت إلى ما يؤكد تسبب مواد النانو الكربونية الجديدة بظهور أورام خبيثة لدى الأشخاص الذين يتعاملون معها بشكل مباشر.
فالطابع المجهري لهذه المادة يجعل من السهل دخولها للجسم عبر المسام الجلدية أو الاستنشاق، ولا يوجد اليوم أي علاج طبي يمكن من التخلص من هذه المواد إذا دخلت الجسم.
وعلى ما يبدو، فإن هذه التحذيرات لن توقف قطار العصر الجديد "عصر تقنية النانو" بعد تحوله إلى السرعة القصوى، ومن المتوقع حسب الدراسات المستقبلية أن تبلغ هذه التكنولوجيا ذروتها في الاستغلال في حدود عام 2030، وبحسب دراسة حديثة سيصل الحجم السنوي لسوق المنتجات التي تعتمد على تكنولوجيا النانو إلى نحو 2.5 تريليون دولار بنهاية عام 2015.
مخاطر محتملة:
المشكلة تكمن في أن البشر تعرفوا على كوامن وإمكانيات هذه التقنية ظاهرياً لكنهم يجهلون ماسيترتب عليها من أضرار ومخاطر محتملة أو كامنة على الصحة والبيئة.
عندما كان هذا المجال في نطاق الخيال العلمي وفي مرحلة المفاهيم النظرية، نشر العالم والمهندس الأمريكي "إريك دركسلر" سنة 1986 كتاباً تناول فيه ما يمكن أن ينجم عن هذه التكنولوجيا من مشاكل تحت عنوان هندسة الخلق مجيء عهد النانو تكنولوجيا الذي توقع فيه تبعات تطوير هذا النوع من التكنولوجيا على البشر.
وذكر المؤلف أن القرن الواحد والعشرين سيشهد ظهور نوع جديد من المواد الشديدة المقاومة وبكلفة أقل بكثير ستحدث تطورات هائلة ولكن في حالة سوء استخدام هذه التكنولوجيا، يمكن أن يترتب عليها التسبب في نهاية العالم ووقوع كوارث يصعب التنبؤ بنتائجها التدميرية.
ولكن في حالة تأطير هذا المجال ومراقبته العلمية الشديدة واتخاذ الاحتياطات اللازمة للحد من اضراره فإنه يمكن أن يحقق إنجازات علمية جبارة للبشرية وتحسين شروط حياة الناس في كل مكان على وجه الأرض ومنع تحولها إلى قوة مدمرة مستقلة تماماً عن إرادة وقدرة البشر.