تسببت في حروب ومنحت العالم نكهاته! مختصر تاريخ التوابل
يُقال إنه منذ ما يزيد على القرنين، كان التجار العرب يتناقلون روايةً عن طائرٍ أسطوريّ أطلقوا عليه اسم "طائر القرفة"، ووفقًا للروايات التي وصلتنا، فإن هذا الطائر كان يعيش في عِشة من أعواد القرفة الرفيعة، وعندما يذهب لتناول الطعام، كان تجار العرب يُغرونه بقطعةٍ كبيرة من اللحم حتى يحملها لعشه، فينهار جرّاء وزنها وتسقط أعواد القِرفة على الأرض، ليجمعها التجار ويبيعونها!
بغض النظر عن أن هذا الطائر لم يكن سوى خرافة، وبغض النظر عن أن هذه القصة كانت -على الأرجح- حيلة مبتكرة وناجحة لإبعاد المنافسين عن معرفة المصدر الحقيقي للقرفة، فهل من المنطقي أن يكون هذا الصنف من التوابل مُهمًا أكثر من اللحم؟ وهل كان هناك داعٍ لاختلاق هذه القصة؟ في الحقيقة، كان هذا أقل ما يمكن فعله من أجل التوابل!
حرب من أجل التوابل!

في مطلع القرن السادس عشر، كانت تجارة التوابل في البحر الأحمر كنزًا يلهث الجميع خلفه، وقتها أرادات البرتغال أن تفرض توسعها البحري لتُسيطر على هذه التجارة، لكن نظرًا لأهميتها، تَكَوّن تحالفٌ قوي في شمال غرب الهند، انضم إليه المماليك، والدولة العثمانية، ومدينة البندقية، ومدينة كاليكوت (أو كوزهيكود، وهي مدينة في جنوب الهند)، وغيرها من المناطق، التي كانت ترى أن توسع البرتغال يُهددهم ويهدد مكاسبهم من هذه التجارة.
اصطدم هذا التحالف بالبرتغال مباشرةً في معركة "ديو" سنة 1509، وعلى الرغم من امتلاكه لـ100 سفينة مقابل 18 سفينة برتغالية فقط، فإن البرتغال استطاعت حسم الأمور لصالحها، بسبب تقدمها العسكري، ولكن ما الذي جعل التوابل بهذه الأهمية؟
أهمية التوابل عبر العصور
يعود تاريخ استخدام التوابل إلى 6 ملايين سنة تقريبًا، حيث بدأ الإنسان البدائي يعرف خصائصها واستخداماتها المتنوعة بالتدريج، وذلك ليس لإضفاء نكهة مميزة على الأطعمة فقط، بل أيضًا للاستفادة من فوائدها الجمة التي لاحظوها بالصدفة.
في البداية، كان الصيادون وجامعو الثمار يستخدمون أوراق الشجر لتغليف اللحوم، وبشكلٍ غير مقصود، اكتشفوا أن ذلك يُحسن من المذاق، ومع مرور الوقت لاحظ الصيادون أيضًا أن مواد أخرى مثل المكسرات والبذور والتوت وحتى لحاء الأشجار تجعل الطعام مميزَ النكهة، ومع مرور السنين، تطور الأمر لتدخل التوابل والأعشاب في استخدامات أخرى، مثل حفظ الطعام وعلاج الأمراض، صحيحٌ أنه لم يكن هناك تمييز بين التوابل المستخدمة في الطعام وتلك المستخدمة في العلاج، لكن ذلك أتى بالتدريج.
فيما يلي نسرد لكم دور التوابل والأعشاب الكبير على مر العصور:
المصريون القدماء واستخدامات التوابل

من أوائل الحضارات التي استخدمت الأعشاب والتوابل الموجودة في بيئتهم لعلاج الأمراض وتخفيف حدة الآلام، فكما نعرف جميعًا، حقق المصريون القدماء تقدمًا ملحوظًا في مجال الطب، تشهد عليه الاكتشافات الأثرية والكتابات القديمة، مثل "بردية إيبرس" التي تعود إلى عام 1550 قبل الميلاد، والتي تُعد مدخلًا مهمًا لفهم ممارساتهم الطبية، وبحسب هذه البردية، وبجانب الأعشاب، استخدم المصريون القدماء نكهات مميزة من التوابل مثل الهيل والقِرفة، التي كانوا يحضرونها من "إثيوبيا".
التوابل في الحضارة الصينية
تمتلك الحضارة الصينية أيضًا تاريخًا طويلًا وغنيًا يعود إلى آلاف السنين، ويُعتبر الإمبراطور "شين نونج"، الذي يُنسب إليه الحُكم سنة 2700 قبل الميلاد، مؤسس هذا المجال وصاحب أقدم المؤلفات الصينية في مجال الصيدلة والأعشاب الطبية، ويُقال إن "شين نونج" وصف أكثر من 365 مادة طبيعة معظمها من النباتات، منها ما يُسمى بـ"الكاسيا" أو "كوي Guì"، وهذه الكلمة بالصينية تُشير إلى نوعٍ من القرفة المختلفة عن القرفة الحقيقية، لكنها تتشابه معها في انتمائها لنفس العائلة النباتية، وامتلاكها عديد من الخصائص العلاجية والنكهات العطرية.
التوابل في الصين القديمة، وتحديدًا في جنوب الصين، كانت تُستخدم بأكثر من طريقة وفي أكثر من شيء، حيث كانت تدخل في الطعام وفي الطب التقليدي وفي صناعة البخور والعطور وغيرها.
اقرأ أيضًا: رعب وغموض.. أغرب 5 حدائق في العالم! (فيديوجراف)
التوابل في بلاد الرافدين

دونّ السومريون والآشوريون، في بلاد الرافدين، أنواع التوابل التي كانوا يستخدمونها على ألواح طينية تعود إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد، ويُروى أن الملك "مردوخ بلادان" امتلك في حديقته الملكية 64 نوعًا من النباتات، كما اعتاد استخدام السمسم كزيت للطهي، وكان البابليون يعتقدون بضرورة جمع الأعشاب الطبية في ضوء القمر للحفاظ على فاعليتها وقوتها العلاجية.
الهند القديمة:
في الهند، كانوا يستخدمون التوابل المتنوعة كالفلفل الأسود والكركم والهيل لأغراض الطهي والعلاج، وفي القرن الرابع قبل الميلاد، استخدم الجراح "سوشروتا" الخردل الأبيض لطرد الأرواح الشريرة، كما قام بوضع السمسم على الجروح كمادة مطهرة، واعتمد الطب الهندي القديم "الأيورفيدا" على استخدام القرنفل والهيل للمضغ بعد الطعام، بهدف تحسين عملية الهضم.
اليونان والرومان:
كانوا يستوردون التوابل الشرقية مثل القرنفل والزنجبيل، وكانوا يستخدمون الكزبرة في النبيذ، والثوم في الطهي الشعبي. والطبيب الغني عن التعريف "أبقراط" مثلًا، كتب عن أكثر من 400 علاج عشبي يُستخدم نصفهم إلى الآن، فيما كان الرومان تحديدًا مهووسين بالتوابل، ومستعدين لدفع مبالغ طائلة مقابل الفلفل الأسود.
التأثير العربي والإسلامي:
من المعروف عن العرب أنهم كانوا أذكياء للغاية في التجارة، وكانوا يبيعون التوابل للرومان والإغريق دون أن يخبروهم بمصدرها الحقيقي، حتى يُسيطروا على السوق، كما أوضحنا في سردية "طائر القرفة". وفي القرن التاسع الميلادي، كان العرب روّادًا في تقطير الزيوت العطرية وصنع الشراب المميز بالأعشاب.
أوروبا في العصور الوسطى:
سعر التوابل كان مرتفعًا للغاية في أوروبا بالعصور الوسطى، لدرجة أن سعر رطل من الزعفران كان يساوي سعر حصان، بينما كان يُسعر الرطل من الزنجبيل بسعر خروف، والفلفل كان يُستخدم كعملة لسد الإيجارات والضرائب، ولم تبدأ أسعار التوابل في الانخفاض إلّا بعد الحروب الصليبية، ولحسن الحظ أنها بدأت تتوافر لتُغطي على مذاق الطعام الفاسد.
التوابل في التاريخ الأمريكي:

عندما وصل "كريستوفر كولومبوس" إلى الأمريكتين، أحضر معه الفلفل الأحمر والفانيليا. والمُستعمرون الأوربيون في الولايات المتحدة كانوا يستخدمون التوابل بكثرة، والأمريكيون أنفسهم كانوا يستهلكون المشروبات العُشبية بدلًا من الشاي كنوعٍ من مقاومة البريطانيين. وبحلول القرن الثامن عشر، بدأت أمريكا تتوسع في تجارة التوابل مع آسيا وأوروبا.
اقرأ أيضًا: أسطورة الشجاعة والتضحية.. من هو "رامبو"؟
عودة لحروب التوابل:
أتينا في البداية على ذِكر معركة "ديو" لنُدلل على أهمية التوابل، ثم تحدثنا -سريعًا- عن استخداماتها على مر العصور، والآن، نود ختام هذا التقرير بالعودة لأشهر الحروب التي قامت بسبب التوابل، لنؤكد أهميتها، ومنها:
الحرب الهولندية-البرتغالية (1609-1597)
وفيها استولى الهولنديون على نحو 30 سفينة تجارية مُحمّلة بالتوابل والبضائع القيمة، مما أثر بشدة على التجارة البرتغالية في المنطقة.
احتلال البرتغاليين لسريلانكا
سيطرت البرتغال في القرن السادس عشر على تجارة التوابل في الهند، ثم دخلت على سريلانكا وفرضت سيطرتها هناك، مُجبرةً الملك بدفع جزية ضخمة من القرفة والأحجار الكريمة والفيلة. مزيج غريب لكن ما يهمنا أنه يتضمن نوعًا من أنواع التوابل.
حملة "فاسكو دا جاما"
وصل "فاسكو دا جاما" للهند بأسطولٍ ضخم، وكان هدفه السيطرة على طرق التجارة التي كانت تحت إمرة المسلمين في ذلك الوقت، وبدأ هجماته فورًا على سواحل العرب مدمرًا مدنًا ساحلية؛ حيث قتل الحُجاج والصيادين وأرهب الجميع لفرض الهيمنة البرتغالية.
مذبحة جُزر "جوزة الطيب" بإندونيسيا
كانت "جوزة الطيب Nutmeg" من أغلى التوابل في أوروبا، وكانت تنمو فقط في جُزر "باندا" الإندونيسية، التي كانت تحت حُكم الهولنديين وقتها، وقد احتكر الهولنديون التجارة، ومنعوا تصدير الأشجار، وكانوا يغطون هذا النوع من التوابل بالجير، لئلا يُصبح صالحًا للزراعة مرةً أخرى، لك أن تتخيل أن من كان يُفكر في تهريب جوزة الطيب كان مصيره الإعدام!
وذات يوم، تمرد سكان الجزر، فأمر القائد الهولندي بقتل كل الرجال الذين تخطى عمرهم الـ15 عامًا، وقطع رؤوس زعماء القرى ووضعها على عُصيّ ليكونوا عبرة لمن يعتبر، وفي 15 عامًا فقط، انخفض عدد سكان تلك الجُزر من 15 ألف شخص إلى 600 شخص فقط!
في النهاية، تؤكد كل هذه الحروب أن التوابل لم تكن مجرد نكهات تُحسن من مذاق الأطعمة، وإنما كنزٌ حقيقي تُدفع به الجزية وتُسعّر الكميات المتواضعة منه بالأحصنة والفيلة، وهذه القيمة ما زالت قائمة في بعض المناطق لبعض أنواع التوابل بالمناسبة، ففي 2018، وصل سعر كيلو الفانيليا في مدغشقر لأكثر من 600 دولار، وهذا الرقم كان أعلى من سعر الفضة آنذاك!
وقد أغرى هذا السعر الجنوني لكيلو الفانيليا المزارعين في مدغشقر لقطع الغابات بمعدلٍ مخيف، ليزرعوها بالفانيليا ويجنوا الكثير من ورائها، غير أن هذا الأمر دمّر المحاصيل، وأتى بنتائج عكسية على أشياء أخرى بالطبع.