استثمارات النخبة: كيف يوزع الأثرياء العرب أموالهم بين المخاطرة والمحافظة؟
لم يعد الأثرياء العرب يستثمرون أموالهم في قطاع واحد، فقد تعلموا على مدى سنوات طويلة مخاطر الاعتماد على نوع معين من الاستثمار، ومن ثم باتوا يختارون مجالات متباينة ومتنوعة.
ولكن هناك توجهات مختلفة بين الجيل القديم والجديد. وحسب استطلاع للرأي أجراه "بنك لومبادر أوديه" السويسري، تبين أن الفئات الأصغر سناً من الأثرياء العرب تركز على تحسين نمط الحياة، والمحافظة على الثروات، مع توجه لجني المزيد منها، بينما تهتم الفئات الأكبر سناً بالإرث المالي وبناء السمعة، وهذه التفضيلات تنعكس بلا شك على نوعية الاستثمارات، مثلما تؤدي إلى الانتقال من عقلية تجنب الخسائر إلى المخاطرة من أجل جني عائدات أعلى.
في عالمنا العربي وكما في كل العالم، تتجه الاستثمارات نحو القطاعات التي تحمل إمكانيات النمو، كالذكاء الاصطناعي والتقنيات المالية والاستدامة وغيرها، وذلك لتعزيز مكانة المستثمرين كمستثمرين رئيسين على الساحة الدولية، فيما تبرز بعض القطاعات الهامة.
الاستثمار في قطاع العقارات
حال الأثرياء العرب كحال أثرياء العالم، يفضلون الاستثمار في مجال العقارات، سواء داخل بلادهم أو خارجها، وهناك مجموعة من الأسباب التي تدفع بهم في هذا الاتجاه، إذ غالباً ما يُعد هذا القطاع من القطاعات الآمنة مقارنة بالأسهم أو السندات، كما أنه يوفر عائدات إيجابية مستقرة، وعلى سبيل المثال عائدات الإيجار في السعودية تتراوح بين 5.7% إلى 8.3%، وهو ما يجعله جذاباً للمستثمرين الباحثين عن المداخيل الثابتة.
وحين نضيف إلى ذلك التوقعات الإيجابية للنمو الإقتصادي لهذه الدول، 1.9% لعام 2024، و 4.2% لعام 2025 وفق تقرير البنك الدولي، فإن الإقبال عليها يصبح أكثر من مبرر، وهي بالإضافة إلى كونها من أنواع الاستثمارات الأكثر استقراراً تميل إلى ارتفاع القيمة على المدى الطويل، يضاف إلى ذلك قيام الحكومات بدعم هذا القطاع.
وفي المملكة العربية السعودية على سبيل المثال، من المتوقع أن يستثمر الأفراد من أصحاب الثروات نحو 2 مليار دولار في قطاع العقارات في مكة والمدينة، وذلك لأن 92% من عملاء هذا السوق يتطلعون إلى شراء وحداث سكنية في هذه المدن، وفق تقرير صادر عن شركة الاستشارات العقارية العالمية "نايت فرانك"، فيما تبرز إمكانات النمو المدعومة برؤية 2030، والتي رفعت التوقعات بزيادة الطلب على التمويل العقاري في المملكة إلى 500 مليار ريال بحلول 2026، وذلك وفق "الشركة السعودية لإعادة التمويل العقاري"، وتشير هذه الأرقام حسبما يتضح إلى التوجه نحو مصادر العائدات، حيث الطلب مرتفع وثابت.
دولة الإمارات العربية المتحدة أيضاً من الوجهات المفضلة للاستثمار العقاري، ويتراوح مستوى العائد الاستثماري على شراء العقار فيها بين 6% و9% سنوياً، مع متوسط عائد يبلغ 9% في دبي، وبشكل عام فإن الاستثمارات العقارية في الدول العربية الأخرى تتنوع وفق الأوضاع الاقتصادية والسياسية، ففي الدول المستقرة تسير الاستثمارات باتجاه تصاعدي.
الاستثمار بالاستراتيجيات الإسلامية
بالعودة إلى تقرير "بنك لومبادر أوديه" السويسري عن الأثرياء العرب، يتبين أن 89% من الأفراد من ذوي الثروات الضخمة في الشرق الأوسط يحتفظون بأصولهم داخل المنطقة، ولعل الاستطلاع الذي ركز على جيل الألفية من الأثرياء العرب أظهر بوضوح تفضيل الغالبية الساحقة القوي لاستراتيجيات الاستثمار الإسلامية، حيث خصص 91% منهم الأصول لها.
وهذه الاستثمارات المتوافقة مع الشريعة، تخضع لأحكام الشريعة والمبادئ الأساسية للإسلام، لضمان توافق الأرباح مع الشريعة، وهي تشمل فئات عديدة متنوعة، كالأسهم الخاصة والعقارات والائتمان الخاص والتكنولوجيا والرعايا الصحية والطيران وغيرها، وفي الطليعة تبرز السندات الإسلامية "الصكوك"، التي هي البديل للسندات التقليدية، والتي قدرت قيمتها العالمية بنحو 823.4 مليار دولار في عام 2023، وفق "وكالة فيتش".
منتجات البنوك الإسلامية من حسابات توفير وصناديق الاستثمار والتأمين تلبي الاحتياجات الخاصة للمستثمرين، ومع التوقعات بأن تصل قيمة سوق التمويل الإسلامي في الشرق الأوسط إلى 2 تريليون دولار بحلول عام 2024، ونموها بمعدل سنوي يصل إلى 5.12% سنويًا لتصل إلى 2.57 تريليون دولار بحلول عام 2029، فإن حجم الاستثمار في هذا المجال سيتضاعف.
فيما تتفاوت نسبة الاستثمار في التمويل الإسلامي بين بلد وآخر، ففي السعودية يمثل التمويل الإسلامي 74.9% من إجمالي أصول البنوك، وفي الكويت 51%، وقطر28.6%، والإمارات 25%، والأردن 17.8%، وعمان والبحرين نحو 16%، وذلك وفق إحصائيات "إس آند بي جلوبال ترايدينج".
الاستثمار في التكنولوجية الناشئة والمالية
شهد الاستثمار في الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا، وخاصة التكنولوجيا المالية "فينتك" نمواً ملحوظاً، فمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا شهدت بين عامي 2020 و2023 زيادة بنسبة 650% في تمويل التكنولوجيا المالية، وفي النصف الأول من عام 2024، جمعت الصناعة 186 مليون دولار، من خلال 50 صفقة، وذلك وفق تقرير صادر عن شركة "ماجنت".
ومع التحول الرقمي في المنطقة، وتزايد الطلب على الخدمات المالية الرقمية الحديثة، والحلول المدعومة بالذكاء الاصطناعي، والتقنيات الحديثة لتعزيز الكفاءات، تقوم الحكومات العربية بدعم هذا التحول، والتشجيع على الاستثمار فيه، وفي الواقع يمثل قطاع التكنولوجيا المالية نحو 24% من إجمالي الاستثمارات خلال العام الحالي، ما يجعله واحداً من أكثر القطاعات تمويلاً وتداولاً.
هذه الأرقام يدعمها كذلك استطلاع "بنك لمومبارد أودييه"، الذي أشار إلى أن 79% من الأثرياء يجدون في القطاعات الرقمية والتكنولوجيا مجالات للاستثمار، بحكم أن هذا المجال سينمو.
ولعل التمويل والدعم الحكومي ليسا فقط من عوامل الجذب، فالشركات الرقمية هي الأسرع نمواً في المنطقة، بمعدل 1906%، حيث استقطبت استثمارات بقيمة 727 مليون دولار خلال النصف الأول من عام 2023، مع تسجيل زيادة بنسبة 192%، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، وفق تقرير "جلودمان ساكس".
الاستثمار بالتوجه نحو الاستدامة
هناك توجه لدى الأثرياء العرب، وبشكل خاص الجيل الجديد، نحو الاستثمار في القطاعات التي تقود الانتقال إلى اقتصاد خالٍ من الانبعاثات الكربونية، إذ يؤمن 74% من أثرياء الجيل الجديد بإمكانية العثور على فرص أعمال جديدة في القطاعات المستدامة، ولذلك يميلون إلى الاستثمار في مجالات الطاقة المتجددة، وإعادة التدوير، والزارعة المستدامة.
وغالبية الأثرياء من الجيل الجديد، وتحديداً 81% منهم، يضعون الاستدامة بالحسبان عند اتخاذ قرارات الاستثمار، و88% يخططون لزيادة المخصصات للاستثمار في هذا المجال، وفق تقرير "بنك لومبادر أوديه".
وفي تقرير لـ"بي دبليو سي PWC"، فإن 4 من كل خمسة رؤوساء تنفيذيين للشركات، باتوا يضعون الاستدامة ضمن إستراتيجة شركاتهم، والتقرير نفسه أشار إلى أن 50% من الشركات في المنظقة تعهدت بصفر إنبعاثات كربونية، من ضمنها شركات ضخمة مثل "الاتحاد للطيران"، وهذه الأرقام إن دلت على شيء، فإنها تدل على تحول كبير في آلية التفكير، وفي المجالات التي يتم الاستثمار فيها.
اقرأ أيضًا: المحافظ الاستثمارية..أنواعها والخطوات الأهم في بنائها
الاستثمار في العلامات التجارية المعروفة
بطبيعة الحال فإن الاستثمار في هذا المجال، العلامات التجارية المعروفة، يستقطب أصحاب الثروات، لكون القيمة السوقية لهذه العلامات الشهيرة ضخمة، فعلى سبيل المثال شركات مثل: "أبل" و"جوجل" و"مايكروسوفت" تعتبر الأكثر استقرارًا في السوق، ما يجعلها خيارات مفضلة للمستثمرين الذين يبحثون عن استثمارات ذات مخاطر منخفضة وعوائد مستقرة.
وبشكل عام فإن الاستثمار في العلامات التجارية العالمية والمحلية المعروفة يشهد نموًّا ملحوظًا، مع تركيز خاص على قطاعات مثل الأغذية والمشروبات والاتصالات، وغيرها، وذلك لأنه وسيلة فعالة للمستثمرين لتوسيع نطاق أعمالهم، والاستفادة من قوة العلامات التجارية المعروفة.
وعلى سبيل المثال، فإن الإمارات التي تستثمر في العلامات التجارية الفندقية، تصدرت عائدات تحالف الفنادق العالمي، وزادت العلامات التجارية الفندقية التابعة للتحالف بنسبة 31% لتصل إلى 176مليون دولار في النصف الأول من عام 2024، مقارنة بنحو 135 مليون دولار من العام الماضي، وفق أرقام صادرة عن التحالف العالمي للفنادق.
الاستثمار في الأعمال الخيرية
استثمار الأثرياء العرب في الأعمال الخيرية تزايد بشكل كبير خلال السنوات الماضية، وشهد تحول يقوم على الشفافية، ما يعزز الفعالية ويحقق الفوائد الاجتماعية، وتشير التقديرات إلى تخصيص ما يصل إلى 24 مليار دولار من الاستثمارات للأنشطة الخيرية، ولعل من أبرز المبادرات "مبادرة عبدالله الغرير"، الذي تبرع بثلث ثروته التي تقدر بـ 6.4 مليار دولار، لإنشاء "مؤسسة عبد الله الغرير للتعليم" وذلك وفق "تحسين للاستشارات".
الاستثمار في الأعمال الخيرية لا يحقق الأرباح بشكلها التقليدي كما هو حال الأعمال التجارية، رغم أنه قد يكون له عوائد مالية واجتماعية كبيرة.
التوجه الجديد هذا يقوم على الشفافية والعلنية، حيث يفضل الأثرياء إظهار مساهماتهم لتعزيز العطاء في المجتمع، وحتى أن البعض جعل الأعمال الخيرية جزءاً من العمل المؤسساتي، حيث تدار بشكل استراتيجي بدلاً من الأسلوب التقليدي.
وتتنوع الأسباب وتختلف، بعضها اجتماعي يتمثل برد الجميل للمجتمع، ودعم الفئات الأقل حظاً، وبعضها مدفوع بالقيم الدينية كالزكاة والأوقاف، ولكنها باختلاف دوافعها تسهم بالتأكيد في دعم خطوات المجتمعات ومسيرة تقدمها.
الاستثمار في البورصة
لطالما استثمر الأثرياء في البورصة، وذلك لكونها من الاستثمارات التي تحقق العائدات المالية المرتفعة، رغم كونه سوقًا متقلبًا، لكن بعض الأثرياء يجدون في التقلبات فائدة، حيث يرون في انخفاض الأسعار فرصة للشراء، ما يتيح لهم تحقيق مكاسب عند ارتفاع الأسعار لاحقًا.
ولعل تنويع المحافظ الاستثمارية من الأسباب التي تدفع بالأثرياء تجاه البورصة، فعلى سبيل المثال، من المتوقع أن تصل الأصول المدارة في نهاية العام 2026 إلى 368 مليار دولار في السعودية، وفق "هيئة السوق المالية لشؤون التمويل والاستثمار السعودية".
بالإضافة إلى ذلك، فإن الأثرياء العرب عادة يملكون استراتيجيات استثمار متقدمة، ما يتيح لهم الاستفادة من تحركات السوق بشكل أكبر، وهم بشكل عام يكونون أكثر دراية بالأسواق المالية، ومن ثم بالقرارات التي يستطيعون اتخاذها، والمبنية على تحليلات دقيقة، وتشكل البورصة هنا فرصة للاستثمار في القطاعات الناشئة خصوصاً التكنولوجيا.