علامات الجازلايتنج في العلاقات: هل أنت ضحية التلاعب النفسي؟
هل سبق أن حاول أحدهم إقناعك بأن ما تشعر به ليس صحيحًا، أو أن ذكرياتك ليست دقيقة رُغم أنك متأكدٌ وواثقٌ مما تشعر به وتفكر فيه؟!
إذا كان الجواب بـ"نعم"، فربما يكون هذا الشخص صادقًا، وأن الأمر لا يعدو أكثر من تهيؤات سطرت هذه الأشياء في عقلك، أو أن هذا الشخص يتلاعب بعقلك قاصدًا فيما يُسمى بـ"الجازلايتنج"!
ما "الجازلايتنج"؟
"الجازلايتنج Gaslighting"، وترجمته بالعربية "الإضاءة الغازية، مصطلح يعني "التلاعب بالعقل"، وهو شكلٌ من أشكال الحيل النفسية، يستخدمه شخصٌ ما لإرباك "ضحيته"، وجعله يشك في سلامة عقله أو ذكرياته أو إدراكه للواقع، وعادةً ما يشعر الشخص الذي يتعرض لهذا النوع من الحيل بالارتباك أو القلق أو عدم الثقة في النفس، وهذا منطقيّ للغاية.
ويعود مصطلح "الجازلايتنج" إلى القرن الماضي، تحديدًا إلى المسرحية البريطانية التي تحمل اسم "Gas Light" والتي عُرضت عام 1938، ثم تحولت إلى فيلمٍ شهير في 1944، وفيها نرى زوجًا يستخدم مجموعةً من الحيل النفسية، تتضمن التلاعب بمستوى "الإضاءة الغازية" في المنزل لإرباك زوجته وتشكيكها في سلامة عقلها وإدراكها، من هنا ظهر المصطلح لوصف محاولات التلاعب النفسي.
غالبًا ما يُقوم مُمارس هذا الفعل غير الأخلاقي بالكذب، والإنكار، والتبجح في تحريف الحقائق للحد الذي يجعل الشخص المُستهدف يفقد صوابه، وينسى أحداثًا كاملةً كان مُتأكدًا منها ومن تفاصيلها، حيث تتزعزع ثقة الضحية في نفسه، ومن ثم ينسى الأحداث مهما بلغت درجة أهميتها، وهذا الأمر يعتمد بالطبع على مهارة المتلاعب أيضًا.
ويكثر استخدام آلية "الجازلايتنج" أو "التلاعب النفسي" في العديد من السيناريوهات والمناسبات، حيث تُستخدم في أشياء تمتد من العلاقات المهنية أو السياسية وحتى العلاقات العاطفية، وطبعًا يُمكن لهذا النوع من التلاعب النفسي، وغيره، أن يتسبب بأضرارٍ نفسية شديدة منها: التوتر والقلق وحتى الاكتئاب.
وعلى سبيل المثال لا الحصر؛ تعرضت 74% من ضحايا العنف الأسري من النساء لهذا النوع من التلاعب، وفقًا لإحصائيةٍ حديثة تعكس الانتشار والحاجة المُلحة لفهم "الجازلايتنج" ومعالجته في مختلف السياقات.
كيف يمارسون "الجازلايتنج"؟
هناك عدة أساليب أو طُرق يشيع استخدامها من قِبل الكثيرين -بعلمٍ أو غير علم- لحرق ذكريات الآخرين "بالإضاءة الغازية"، وعادةً ما تبدأ بـ:
- إنكار الأحداث: يبدأ "الجازلايتنج" بإنكار المتلاعب لوقوع أحداث معينة، ما يدفع الضحية للتفكير ثم الشك، فيما إذا كانت هذه الأحداث وقعت بالفعل أم لا، وعلى سبيل المثال، قد يقول المتلاعب: "لا، لم أقل ذلك، أنت فقط تتخيل الأمور".
- التقليل من المشاعر: هنا يقوم المتلاعب بالتسفيه من مشاعر الضحية، وجعله يشعر بأنه حساس أو مبالغٌ فيه، وفي بعض الأحيان يتهمه مباشرةً بتزييف الحقائق أو إنكارها.
- تشتيت الضحية: أحد أهم الحيل التي يستخدمها الشخص المُتلاعب، وإذا نجحت، عادةً ما تنجح العملية بُرمتها ويحصل على مراده، وفي هذه الخطوة يقوم المتلاعب بتشتيت الضحية كلما وجد دليلًا يُدعم أفكاره وما يشعر به، وبشكلٍ عام، يرفض المتلاعب الانخراط في المحادثات أو مشاركة المعلومات، مما يُشتت الضحية ويقطع حبل أفكاره، لا سيما إن كان المحتال ماهرًا في ذلك.
- اللجوء للصورة النمطية: في كثيرٍ من الأحيان يستغل المحتال جنس أو عرق أو جنسية أو سن الضحية ليؤثر عليها، وعلى سبيل المثال، قد يقول المحتال لامرأة: "أنتِ تنصاعين لعاطفتك كون كل النساء عاطفيات".
- إسقاط اللوم على الضحية: يتهم المتلاعب الضحية بسلوكيات هو نفسه مُذنبٌ بها، محاولًا إبعاد اللوم عن نفسه.
- اللعب على المشاعر بالكلمات: في أحيانٍ كثيرة، يلجأ المحتال لاستخدام كلمات رحيمة كسلاح أو كوسيلة لقلب الطاولة أو ما شابه، ما يُصعب على الضحية اكتشاف الفخ، مثلًا قد يقول المتلاعب للضحية: "أنا أفعل ذلك لأنني أحبك، أرجوك صدقني".
هذه الحيل والأساليب، وغيرها، يجب أن تُفهَم جيدًا، لأن ذلك يمكن أن يكون الخطوة الأولى في سبيل الحماية من "الجازلايتنج".
أنواع "الجازلايتنج"
من الوارد أن يحدث "الجازلايتنج" في أي نوع من التفاعلات أو العلاقات البشرية، لكنه شائعٌ بشكلٍ خاص في:
- العلاقات العاطفية: في هذا النوع يُمارس الشخص المُسيء التضليل أو الخداع العقلي لعزل شريكه، وتقويض ثقته، وأحيانًا السيطرة عليه.
- العلاقات الأسرية: قد يقوم الآباء أو مقدمو الرعاية بخداع أطفالهم للتقليل من شأنهم بشكلٍ أو بآخر، مثال: يبكي الولد فيقول له الوالد: "أنت حساسٌ للغاية، الرجال لا يبكون"، هنا يتوقف الولد عن البكاء خجلًا من نفسه ويتوقف عن التعبير عن مشاعره.
- التضليل العنصري: قد يُمَارس التضليل العنصري ضد شخصٍ أو مجموعة من الأشخاص، حيث يُقال لمجموعة عرقية أو إثنية مثلًا إنهم متخلفون بسبب لون بشرتهم الداكنة، وهذه جريمة وليس مجرد اتهام.
- التضليل في مكان العمل: وفقَ دراسةٍ نُشرت في مجلة "Frontiers in Psychology"، فإن التضليل في مكان العمل يحدث من قِبل الأشخاص ذوي السلطة، كأن يُمارس المدير سلطته تجاه أحد الموظفين، وتقول الدراسة أيضًا إن هذا النوع من "الجازلايتنج" الموجه للأفراد يُحمّل الموظفين مشاعر سلبية كثيرة.
والحقيقة أن هناك أنواعًا كثيرة من "الجازلايتنج"، وإذا فكرت في عدد المجالات أو المناسبات التي قد يُمارس فيها هذا الفعل، فستجد أنها كثيرة جدًا، لذلك، كن حذرًا دائمًا وتيقن من أن الإدراك هو أولى خطواتك نحو النجاة من هذا الفخ.
اقرأ أيضًا: تصفية الذهن وتخفيف التوتر.. فوائد ركوب الأمواج للصحة النفسية
لماذا يُمارسون "الجازلايتنج"؟
غالبًا ما يكون الشخص الذي يمارس هذا النوع من التلاعب مدفوعًا بشيءٍ من اثنين: إما تجنب المسؤولية على سلوكٍ ما، أو الرغبة في السيطرة على سلوك ضحيته للحصول على شيء ما.
جدير بالذكر هنا، أن الباحثين أجروا مقابلات مع الناجين من التلاعب العقلي، واعتمدوا على تفسيرهم لدوافع المتلاعبين، ويقول الضحايا إن الأشخاص الذين يمارسون التلاعب العقلي -وهو سلوكٌ خادعٌ بطبيعته- قد يكونون أقل وضوحًا حيال دوافعهم، لدرجةِ أنهم قد يحاولون التلاعب بالباحثين أنفسهم.
ولكن كما أشرنا، من الصعب أن يخرج السبب وراء هذا الفعل السيئ من حيز التفسيرين المطروحين، لا سيما التفسير الأول المتعلق بتجنب تحمل المسؤولية، وإن كان التفسير الثاني شائعًا ومنطقيًّا أيضًا.
كيف تتصرف في حال التعرض "للجازلايتنج"؟
هناك أكثر من طريقة للتصرف، والنجاة من عملية "الجازلايتنج"، على سبيل المثال: يُمكنك أن تلجأ للأصدقاء أو العائلة، أو تسجيل الأحداث فور وقوعها حتى يتكون لديك دليل ملموس يمكنك الرجوع إليه، بدلًا من الشك في ذاكرتك. كذلك تستطيع، ويُفضل، أن تضع حدودًا واضحة ومباشرة للشخص المتلاعب الذي يحاول السيطرة عليك وعلى أفكارك، كأنك تقول له: "أنا أعلم جيدًا ما أقوله لك، من فضلك صدقني أو أنهِ هذا الموضوع"، باختصار، احرص على التمسك بهويتك وأفكارك ما دُمت متيقنًا منها.
كيف تنجو من "الجازلايتنج"؟
من أجل أن تنجو من هذا الفخ، أو بمعنى آخر تتعامل مع من يمارس عليك هذا النوع من التلاعب، كل ما عليك فعله والتفكير فيه هو الخطوتان الآتيان:
1. جمّع الأدلة التي تُدعّم موقفك:
ليس لإقناع المُتلاعب، فهو يعلم أنه يتلاعب بك وأنك على حق، وإنما لإثبات الحقيقة لنفسك أنت، والبرهنة لها أنك لا يُخيَّل إليك أو أنك لا تنسى الأمور، علاوة على ذلك؛ تكون الأدلة مفيدةً للغاية حال أردت أن تتخذ إجراءات قانونية ضد الشخص المتلاعب، فإذا كان هناك أي احتمالٍ بأن الشخص الآخر سيؤذيك، فحاول أن تُبقي هذه الأدلة سرية وبعيدة المنال قدر الإمكان، ويُمكنك أيضًا أن تُشرك صديقًا أو شخصًا تثق به في الأحداث بحيث يكون شاهدًا، ويا حبذا لو أشركته منذ بداية شكوكك.
2. ضع خطة استباقية:
إذا شعرت أن أحدهم قد يستخدم "الجازلايتنج" ضدك، فعليك أن تضع خطةً استباقية تنفذها حال وقوع هذا النوع من التلاعب، ففكر في كل شيء وتوقع كل شيء؛ وحدد قائمة بالأشخاص والأماكن التي قد تحتاج إلى اللجوء إليها، واكتب كل التفاصيل الممكنة وضع في الاعتبار أنك قد تحتاج إلى طلب الدعم المتمثل في الشرطة أو أيًا يكن، نعم، فالشخص الذي يُمارس "الجازلايتنج" قد يصل به الحال إلى الرغبة في إيذائك جسديًا إن لم يحصل على مراده وهو خداعك وإذهاب عقلك.
في النهاية، تذكر أن "الجازلايتنج" لا يتم تمييزه بسهولة، وذلك لأنه ليس مجرد وسيلة للتضليل، وإنما أداةٌ خبيثة تزعزع الثقة بالنفس وتشوه الذاكرة والإدراك، ولعل معرفة أساليب وأعراض هذا النوع من الاحتيال يقيك من مشكلات كثيرة قد لا تتخيلها، فكن واعيًا حذرًا، واحتفظ بدوائر الدعم لأنك قد تحتاج إليها؛ فلا تستهن بالأمر.