جهود المملكة لتمكين الذكاء الاصطناعي وتحقيق رؤيتها المستقبلية
تدرك المملكة العربية السعودية الأهمية الاستراتيجية للذكاء الاصطناعي، ودوره المحوري في تحقيق رؤية 2030، وقد تبنّته كأداة قوية لدعم التحول الرقمي وتعزيز النمو الاقتصادي، حيث يمثل الذكاء الاصطناعي فرصة لتحسين الكفاءة في القطاعات الحيوية مثل الطاقة، والرعاية الصحية، والتعليم، والنقل، والبنية التحتية.
وعلى الصعيد الاقتصادي، يسهم الذكاء الاصطناعي في زيادة الإنتاجية من خلال أتمتة العمليات وتحليل البيانات الكبيرة بشكل أسرع وأكثر دقة، ما يمكّن من اتخاذ قرارات مبنية على معلومات دقيقة، كما يساعد على دعم الابتكار وريادة الأعمال، من خلال تمكين الشركات الناشئة والمبتكرين من تطوير حلول ذكية تلبي احتياجات السوق المحلية والعالمية.
ومن الناحية الأمنية، فإن الذكاء الاصطناعي يلعب دوراً مهماً في تعزيز الأمن السيبراني وحماية البيانات الحساسة، وهو أمر حيوي في العصر الرقمي، بالإضافة إلى ذلك يمكن استخدامه في تحسين الاستجابة للأزمات والتنبؤ بالأحداث المستقبلية، ما يعزز من قدرة المملكة على مواجهة التحديات الإقليمية والدولية.
استشراف الذكاء الاصطناعي في المملكة
رغم حداثة التركيز على الأهمية الاستراتيجية للذكاء الاصطناعي، فإن السعودية استشرفته وعملت على الاستعداد له مبكراً، باقتحام عالم الرقمنة والاتصالات وتجهيز البنية التحتية الرقمية، ودعم الاعتماد على البيانات والذكاء الاصطناعي كأحد المحفزات للتطور السريع.
وكانت المملكة قد أقرت مبلغ 20 مليار دولار للاستثمار في هذا المجال حتى عام 2030، في إطار خطة طموح تهدف إلى تنويع الاقتصاد وتقليص الاعتماد على النفط، خاصة إثر ظهور وباء "كوفيد-19" عام 2020.
لم يكن تركيز السعودية على الذكاء الاصطناعي سوى تجسيد لـ"رؤية 2030"، التي وُضعت كأساس لكل تخطيط أو استراتيجية حكومية، ومنذ إطلاق الرؤية في إبريل 2016 تعيش المملكة حالة من الانتعاش التقني في كل القطاعات الحكومية والخاصة، بسبب التبني الواضح والقوي لاستراتيجيات التحول الرقمي، حيث تسعى حكومة المملكة إلى تعزيز القدرات، وتجهيز البنية التحتية، وتدريب الفرق العاملة، لتكون لديها المقدرة لمواكبة وإدارة المنتجات الناشئة عن تطبيقات الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي.
اقرأ ايضًا| "OpenAI" تختبر محرك "SearchGPT" لمنافسة "غوغل"
وترجمـة لهـذا التوجـه صـدر أمر ملكي في أغسـطس 2019 بإنشاء الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعــي "سدايا" في العاصمة الرياض، لتكون المرجع الوطني فيما يتعلـق بالبيانات والـذكاء الاصطناعـي من تنظيـم وتطوير وتعامل.
قامت الهيئة منذ تأسيسها بقيادة التوجه الوطني للبيانات والذكاء الاصطناعي، وعملت على توحيد الجهود وإطلاق المبادرات بشأنهما وتحقيق الاستفادة المثلى منهما، وكان لافتاً اهتمام الهيئة بالانتهاء من مكونات البنية التحتية التشريعية والتنظيمية التي تتعامل مع سياسات حوكمة البيانات الوطنية، وإعدادها معجم البيانات والذكاء الاصطناعي.
وفي أغسطس 2023، أصدرت الهيئة تقريراً عن الذكاء الاصطناعي التوليدي والنماذج اللغوية الكبيرة، في خطوة تستهدف رفع مستوى الوعي العام بهذه التقنيات، وكانت السعودية قد أطلقت الاستراتيجية الوطنية للبيانات والذكاء الاصطناعي "نُسدي" في أكتوبر 2020، وهي الاستراتيجية التي قامت عليها الهيئة أيضاً، لتكون المملكة ضمن الاقتصادات المستدامة المعتمدة على البيانات والذكاء الاصطناعي.
ومنحت المملكة الجنسية السعودية إلى الروبوت "صوفيا" الشبيهة بالبشر في أكتوبر 2017، لتكون بذلك أول روبوت يحصل على جنسية دولة، ووفقاً لصحيفة "فايننشال تايمز" فإن السعودية اشترت ما لا يقل عن 3000 من رقائق H100 من "إنفيديا" عالية الأداء، لتعزيز بناء برامج الذكاء الاصطناعي في البلاد.
اقرأ أيضًا| "الفراولة": تفاصيل جديدة حول مشروع OpenAI السري لتطوير الذكاء الاصطناعي
ارتقاء المملكة على مؤشرات التنافسية الرقمية الدولية
انعكست مردودات جهود المملكة في هذا المجال سريعاً، على نحو ما تمثل في ارتقاء السعودية على مؤشرات التنافسية الرقمية الدولية وإنترنت الجيل الخامس، والتوسع في تغطية شبكة الألياف الضوئية، والتحول الرقمي في المدفوعات الإلكترونية، فحصلت المملكة على المركز الأول عالمياً في مؤشر الاستراتيجية الحكومية للذكاء الاصطناعي، الصادر عن "تورتويس إنتليجينس Tortoise Intelligence"، والمركز 31 في إجمالي مؤشرات هذا المقياس الذي يتضمن أكثر من 60 دولة، كما حصلت الرياض على المركز 53 عالمياً في مؤشر IMD للمدن الذكية، وحققت المركز الخامس في ترتيب المدن الذكية في عواصم دول العشرين.
اقرأ أيضًا: سلاح ذو حدين: كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يغير قواعد اللعبة في الاستثمار؟
البنية التحتية للذكاء الاصطناعي في المملكة وتطبيقاته
تجسدت تقنيات الذكاء الاصطناعي في السعودية في مبادرات عديدة منذ سنوات، وهناك حراك تكنولوجي تشهده المملكة في هذا المجال، كان من مظاهره إنشاء الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي، وتأسيس شركة "واكب" الرائدة بمجال الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا المعلومات في مدينة الرياض، وإنشاء "الشركة السعودية للذكاء الاصطناعي SCAI"، بهدف جذب التمويل الفعال والمستقر للفرص الاستثمارية بمجال البيانات والذكاء الاصطناعي، وتحفيز منظومته، وتأسيس بنك البيانات الوطني، لحفظ البيانات الوطنية في مستودع مركزي وموثوق.
كما تجسدت بعض مظاهر ذلك في انتشار معارض الذكاء الاصطناعي، التي كان على رأسها القمة السنوية العالمية للذكاء الاصطناعي، وقد عقدت أول قمة بصورة افتراضية في أكتوبر 2020، بعنوان الذكاء الاصطناعي لخير البشرية، والمعرض السعودي للروبوتات في مارس 2019، بمشاركة عدد من الخبراء والباحثين في الذكاء الاصطناعي.
وواكب هذا الحراك، انتشار تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي تساعد المواطنين على الحصول على المعلومات، وجرى إنشاء "منصة استشراف"، التي تعتمد على استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة وقدرات التحليل، في إعطاء تنبؤات متقدمة لصناع القرار بشأن السياسات الاقتصادية والاجتماعية، وأُنشئت منصة "بروق" للاتصال المرئي الآمن، وجرى تأسيس السحابة الحكومية "ديم" عام 2018 لتوفر أصولاً تقنية مأمونة ومرنة لجميع الجهات الحكومية وشبه الحكومية.
وفي مجال الحكومة الخضراء وصداقة البيئة، تذكر الهيئة الوطنية للذكاء الاصطناعي "سدايا" على موقعها الإلكتروني أنها حققت عدداً من المنجزات بمجال الاذكاء الاصطناعي، التي ساهمت في جعل حياة الفرد وسلوكه عوناً وصديقاً لبيئة صحية مستدامة، وذلك بتوفير منتجات تستبدل التعاملات التقليدية الورقية بتعاملات إلكترونية، وتشير إلى أن أبرز منتجاتها هي منصة "النفاذ الوطني"، التي ساهمت في الاستغناء عن الورق وتحقيق الاستدامة البيئية وتقليل نسبة التلوث واستنزاف مصادر الطاقة والمواد الخام، كما يقدم تطبيق "توكلنا خدمات" أكثر من 140 خدمة يحتاج إليها المواطن والمقيم.
فيما تعمل الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي على تطبيق التنمية المستدامة بمفهومها الشامل الذي يرتبط بالاستفادة من كل الموارد المتاحة، دون المساس بحق الأجيال القادمة في هذه الموارد.
"نيوم" في صدارة مشروعات المملكة القائمة على الذكاء الاصطناعي
يأتي في صدارة مشروعات المملكة القائمة على الذكاء الاصطناعي مشروع "نيوم"، الذي يمثل أهم المشروعات الطموح في تطبيق تقنيات الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء، حيث يقوم المشروع بأكمله على أحدث التطبيقات والتقنيات الخاصة بذلك، وبتكلفة هائلة تخطت نصف تريليون دولار تم وضع الأساس لمدينة "نيوم NEOM"، التي تستند إلى الذكاء الاصطناعي، والتي ستفوق أعداد الروبوتات فيها أعداد البشر، إذ يتأسس مشروع "نيوم" على التقنية الذكية من بنية تحتية ذات طابع ذكي من شبكات المياه والطاقة والاتصالات.
ويأتي المشروع متوافقاً مع رؤية 2030، التي تهدف إلى تحفيز الابتكار وجذب الأفكار والاستثمارات الخاصة بالتقنيات الصناعية الحديثة.
وقد عزز اتجاه المملكة نحو توظيف واستثمار تقنيات الذكاء الاصطناعي، إطلاق مشروع مدينة "ذا لاين" في "نيوم"، الذي يُعد نموذجاً لما يمكن أن تكون عليه المجتمعات الحضرية مستقبلاً، حيث تضم المدينة مجتمعات إدراكية مترابطة ومعززة بالذكاء الاصطناعي على امتداد 170 كم.
وستدار مجتمعات "ذا لاين" بالاعتماد الكامل على تقنيات الذكاء الاصطناعي، لتسهيل عملية التواصل مع الإنسان بطريقة تمكنها من التوقع والتفاعل بقدرات غير مسبوقة، مما يوفر وقت السكان والشركات، وستكون المجتمعات مترابطة افتراضياً فيما بينها، حيث سيتم تسخير نحو 90% من البيانات لتعزيز قدرات البنية التحتية في المدينة.
الممر العالمي للذكاء الاصطناعي
وفي 13 سبتمبر 2022، أطلقت شركة النفط السعودية العملاقة "أرامكو" مشروع منصة "الممر العالمي للذكاء الاصطناعي"، بالتعاون مع شركة "بيوند ليميتس" و"جامعة كالتيك"، بهدف ربط الرياض بمدينة "كاليفورنيا"، وهو مشروع تبلغ قيمته 250 مليون دولار، ويتضمن بناء مركز "تميز" لحلول الذكاء الاصطناعي، ومواجهة التحديات الوطنية والعالمية، ويركز على الطاقة ومكافحة تغير المناخ، ودعم التحول الرقمي والابتكار.
اقرأ أيضًا| OpenAI تخفي اختراقًا أمنيًا: مخاوف حول سرية البيانات!
القمة العالمية للذكاء الاصطناعي
تعمل المملكة العربية السعودية بهمّة لتكون نموذجاً عالمياً رائداً في مجال الذكاء الاصطناعي، بحكم ما تحققه مستهدفاتها من إنجازات في أزمنة قياسية، وبجودة أعلى، في ظل ما تتبناه حكومة خادم الحرمين الشريفين وولي عهده من توفير أحدث التقنيات؛ استيراداً وشراكةً وتوطيناً.
وما اختيار المملكة لتنظيم القمة العالمية للذكاء الاصطناعي، في نسختها الثالثة، إلا تأكيد للنجاحات الكبيرة التي حققتها النسختان الأولى والثانية؛ كون الذكاء الاصطناعي جسّد "رؤية 2030"، التي وضعت المنطلقات الحيوية لكل تخطيط أو استراتيجية حكومية، ما عزز الانتعاش التقني في القطاعات الحكومية والخاصة كافة، بفضل التبني الواضح والقوي لاستراتيجيات التحول الرقمي، وتعزيز القدرات، وتجهيز البنية التحتية، وتدريب الفرق العاملة، لتكون لديها المقدرة لمواكبة وإدارة المنتجات الناشئة عبر تطبيقات الذكاء الاصطناعي.