"التكنولوجيا القابلة للارتداء".. تطور متسارع ينافس الخيال!
لا يحظى مصطلح "التكنولوجيا القابلة للارتداء"، أو ما يُعرف بالـ"Wearables"، بالمكانة التي يستحقها، فهو لا يُعبر عن مجرد ساعة تحسب الخطوات، وإنما مجموعة كبيرة من الأجهزة والتقنيات التي لم نكن لنتصور وجودها في يوم ما، فالتطور الذي وصلنا إليه يتخطى الانتقال من "الفونوجراف" إلى "الووكمان" أو حتى أجهزة الـ iPod بأميال وأميال، وربما المستقبل القريب يحمل مفاجآت لا يمكن تصورها.
ما هي التكنولوجيا القابلة للارتداء؟
لعل الوصف الأمثل لهذه التكنولوجيا التي تُعرف بالـ"wearables" أنها "hands-free"، أو التكنولوجيا التي يُمكن استخدامها دون يد؛ وهي فئة من الأجهزة يتم ارتداؤها كإكسسوارات، أو تُنسَج بالملابس، أو حتى تُوضع كوشم على الجلد، حيث تُزوَّد بمعالجات صغيرة جدًّا microprocessors، وتكون قادرة على إرسال واستقبال البيانات بكل سهولة.
تضم الأجهزة القابلة للارتداء مجموعة كبيرة من الإلكترونيات مثل الأساور، والساعات، والقلائد، والخواتم، وحتى الملابس الذكية، كما تلقى رواجًا واسعًا من قِبل عامة الناس، سواء كانوا من المحبين والمهتمين بالمجال التقني أم لا.
ففي عام 2018 على سبيل المثال، بيع نحو 10.4 مليون وحدة من طرازات هذه الأجهزة الرائدة في السوق، وسنأتي إلى مزيدٍ من الإحصائيات الباهرة لاحقًا.
بدايات تكنولوجيا الارتداء
إذا أردنا أن نستقصي تاريخ هذه الأجهزة منذ البداية، فسنرى أن جذورها تعود إلى أكثر من 800 عام، وبالتحديد مع اختراع النظارات، التي لم تكن ذكيةً بالطبع، غير أنها ستصبح كذلك فيما بعد، وسيستخدم نسخها الذكية الملايين حول العالم، كنظارات الواقع الافتراضي ونظارات Ray-Ban وMeta الذكية وشبيهاتها.
أما البداية الحقيقية لتكنولوجيا المواد القابلة للارتداء فكانت في الخمسينيات؛ بعد سنوات قليلة من ظهور تكنولوجيا الحواسيب. في ذلك العقد كانت التكنولوجيا التي نتحدث عنها مختلفة تمامًا عما هي عليه الآن؛ وقتها ظهر راديو الـ"Sony TR-55"، والذي يعد النموذج الأولي أو حجر الأساس لكثيرٍ من الأجهزة المحمولة التي نستخدمها اليوم، بدايةً من الـiPod وحتى الـGame Boy.
وفي الستينيات، وضع مخرج الأفلام الأمريكي "مورتون هايليج Morton Heilig"، أساس الواقع الافتراضي بتقديمه لجهاز Teleshpere، الذي كان أول شاشةٍ توضع على الرأس وتعرض أفلامًا ثلاثية الأبعاد بصوت محيطي. صحيحٌ أن أجهزة الـVR ظهرت بعد ذلك بكثير، ولكنها ظهرت في النهاية متأسيةً بجهاز "هايليج".
وجاءت السبعينيات، لنرى أول ساعة بآلة حاسبة، التي ظهرت في أفلام شهيرة جدًّا مثل Back to the Future، واكتسبت صيتًا ذائعًا في كل مكان، ولكن هل تصدق أن تكلفة الساعات آنذاك كانت تتجاوز الـ3000 دولار بأسعار اليوم؟!
في العقد نفسه ظهرت النسخة الأولية لكاميرا الـGoPro للمكفوفين، حيث كانت تساعدهم على إدراك ولو شيء بسيط من البيئة المحيطة، عن طريق صنع اهتزازات ملحوظة.
وفي نهاية السبعينيات، ظهر جهاز "الووكمان" وأصبح الرفيق الموسيقيّ للكثيرين خلال العقد اللاحق؛ لدرجة أنه باع أكثر من 200 مليون نسخة، وهذا يرجع بشكلٍ أساسي لفكرته الرائدة وقتها: "مُشغل كاسيت يمكنك الاستماع إليه في أثناء التجول"، هكذا وصفه "أكيو موريتا"؛ أحد الشركاء المؤسسين لـ"سوني".
اقرأ أيضًا: نظارات وساعات ومنسوجات إلكترونية.. الأجهزة القابلة للارتداء تمهد لثورة تكنولوجيّة
وبحلول الثمانينيات، وتحديدًا في عام 1987، ظهرت أجهزة المساعدة السمعية التي أحدثت ثورة طبية، خاصة أن أجهزة تتبع اللياقة وُلدت هي الأخرى في ذلك العقد، وكانت ضرورية للغاية للرياضيين المحترفين الذين يعانون مشكلات صحية، وكما نعرف جميعًا ظلت هذه الأجهزة تتطور إلى أن أصبحت قادرةً على حساب السعرات المحروقة وقياس المؤشرات الحيوية المعقدة.
إلا أن القفزة الكبيرة كانت في ديسمبر 1994، عندما طور الباحث الكندي "ستيف مان Steve Mann"، أول "ويب كام" لاسلكية، لتمهد الطريق أمام إنترنت الأشياء IoT؛ التقنية التي تقوم عليها الأجهزة القابلة للارتداء، والمنازل الذكية، وغيرها الكثير من المفاهيم التقنية المستقبلية.
كيف تغيرت التكنولوجيا القابلة للارتداء على مر السنوات؟
مرحبًا بالألفية الجديدة؛ هل تتذكر جُملة "1000 أغنية في جيبك"؟
نعم، إنها الجملة الشهيرة المرتبطة بالـiPod، والذي مثّل قفزة نوعية وعصرية كبيرة رُغم ظهور "الووكمان" قبله بعشرات السنين، فهذه المرة لم تعد بحاجة إلى الأقراص أو شرائط الكاسيت التي كانت تشغل حيزًا كبيرًا، على عكس جهاز "أبل" المُبتكر الذي تستطيع أن تحمله معك في أي مكان.
أيضًا في تلك الفترة، ظهرت تقنية "البلوتوث" الثورية، التي تقوم عليها الكثير والكثير من الأجهزة القابلة للارتداء اليوم، والتي تعتمد على تقنية البلوتوث في كل شيء يخص هذه الأجهزة تقريبًا.
العقد الثاني للقرن الحادي والعشرين كان الانطلاقة لكل ما نشهده اليوم، مع دخول الـ"Google Glass" على الخط في 2013، متبوعةً بساعة "أبل" في 2015، ثم الـOculus Rift من Meta في 2016، وإن كانت نظارات "جوجل" قد قوبلت بفشلٍ ذريع ومفاجئ بالنسبة للشركة وقتها، إلا أن هذا لا ينفي ريادتها واستشرافها الدقيق للمستقبل.
ومنذ بدايات العقد الثالث للقرن الحادي والعشرين، وقبله ببضع سنوات، ونحن نحظى بانفراجةٍ هي الأقوى في تاريخ الأجهزة القابلة للارتداء. مئات الملايين من المستخدمين يعتمدون على هذه الأجهزة بشكلٍ أساسي في حياتهم اليومية، والفضل في ذلك يرجع لتطور المستشعرات والبطاريات، التي باتت تدوم لفترات أطول، دون الحاجة إلى الشحن المتكرر، ناهيك بتحسّن تقنيات الاتصال أيضًا.
أحدث الابتكارات في عالم الأجهزة القابلة للارتداء
لقد ساعد كل ما سبق على تحقيق تقدم متسارع ولا يتوقف في عالم تكنولوجيا الأجهزة القابلة للاتداء، ولعلنا نعرج هنا على أحدثها حتى كتابة هذه السطور.
- الملابس الذكية:
"الملابس الذكية Smart Clothing" هي ملابس مصنوعة من نوع خاص من النسيجِ المتقدم، وتأتي مزودةً بمجموعة من أجهزة الاستشعار القادرة على تقدير القياسات الحيوية المختلفة، بدايةً من درجة حرارة الجسم، وحتى معدل ضربات القلب، وإذا رصدت هذه الملابس شيئًا غير مألوفٍ، فإنها تُنبهك بإشعارات على هاتفك، لمراقبة صحتك ولياقتك البدنية.
وقد بدأت العديد من الشركات بالاستفادة من هذه التقنية، ودمجها في مجال الموضة، لدرجة أن الأمر وصل إلى الأحذية والجوارب!
من الأمثلة الجيدة على الملابس الذكية سترة "Levi's® Commuter X Jacquard By Google Trucker Jacket"، والتي ترتبط بهاتفك عن طريق البلوتوث، وتُستخدم في الكثير من الأمور مثل تشغيل وإيقاف الموسيقى، وإجراء المكالمات الهاتفية، والحصول على اتجاهات السير، وذلك لمدة 14 يومًا (مدة البطارية)، ولكن في كل الأحوال لا أحد يرتدي الملابس لمدة 14 يومًا.
- الإكسسوارات والمجوهرات الذكية:
لا يقتصر استخدام التكنولوجيا في عالم الأزياء على القمصان والجاكيتات، حيث شهدنا الإكسسوارات أو "المجوهرات الذكية Smart Jewelry"، والتي تشمل الخواتم والأساور والقلادات والأقراط، وطبعًا الساعات الذكية.
تستطيع هذه المجوهرات أو الإكسسوارات أن تتبع النشاط البدني، ومعدل ضربات القلب، وجودة النوم، وغيرها، ومن الأمثلة على هذه الأجهزة: خواتم Oura، وأساور Fitbit، وقلادات Ringly، ومتتبعات Tile tracker لإيجاد المفاتيح، والمحافظ، والهواتف، وطبعًا ساعات "أبل" و"سامسونج" الذكية، إلخ.
- أجهزة الواقع الافتراضي وشرائح الدماغ:
على رأس قائمة تطبيقات الأجهزة القابلة للارتداء تأتي أجهزة الواقع الافتراضي وعائلتها (الواقع المعزز والواقع المدمج)، بالإضافة إلى شرائح الدماغ التي تقدمها شركات مثل Neuralink الغنية عن التعريف وSynchron.
أما أجهزة الواقع الافتراضي (والمعزز والمدمج) فتشمل الـOculus Quest 2، وMeta Quest 2، وApple Vision Pro، وغيرها من الأجهزة التي تقدم تجارب رقمية، واقعية هاربةً من الخيال العلمي!
وأما الشرائح الدماغية للشركات المذكورة فلها استخدامات عديدة في مجال الابتكارات الصحية، تتلخص أهمها في علاج الأمراض العصبية المستعصية مثل "ألزهايمر" وإصابات الحبل الشوكي.
اقرأ أيضًا: هل يمكن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في قرارات الاستثمار المالي؟
كيف تعمل الأجهزة القابلة للارتداء؟
تعتمد طريقة عمل الأجهزة القابلة للارتداء على الفئة التي تندرج تحتها، سواء كانت الصحة، أو الترفيه، أو الرياضة، إلخ، وعادة ما تعمل بتآزر ثلاثة مكونات رئيسة هي المعالجات الدقيقة microprocessor، والبطاريات، والاتصال بالإنترنت حتى تستطيع استقبال وإرسال البيانات من وإلى الأجهزة الأخرى، مثل الحواسيب والهواتف الذكية.
لفهم الأمر بدرجةٍ أكبر، دعونا نستشهد بسوار تتبع اللياقة البدنية، والذي يقوم بعدة وظائف، منها حساب عدد الخطوات وعرضها على الشاشة؛ في هذا المثال يقوم المعالج الميكروي بتولي مهمة جمع بيانات النشاط وعرضها على الشاشة، التي تعمل بدورها عن طريق البطارية، وعن طريق الاتصال بالإنترنت، تتزامن البيانات وتظهر تحليلات أكثر عمقًا من مجرد عدد الخطوات.
مستقبل الأجهزة القابلة للارتداء في حياتنا اليومية
في السنوات الأخيرة أصبحت الأجهزة الذكية القابلة للارتداء جزءًا أساسيًا من تطبيقات كثيرة في حياتنا اليومية، وهذا ينعكس على سوقها العالمي المقدر في 2022 بنحو 45.9 مليار دولار؛ الرقم الذي يُتوقع أن يصل إلى 137.7 مليار دولار بحلول 2030، أي بمعدل نمو سنوي مركب قدره 14.7% منذ العام الماضي وحتى 2030.
وبشكلٍ عام فإن معظم الإحصائيات تُشير إلى إمكانية تطور الأجهزة القابلة للارتداء بشكلٍ مهول، لا سيما أن الكثير من الشركات التقنية تعمل الآن على قدم وساق في سبيل تحقيق ذلك، ولكن ما الذي قد نراه؟ ألم تصل المواد التقنية القابلة للارتداء لذروتها بعد؟
عوَّدتنا التكنولوجيا ألا نضع حدودًا لأي شيء، فما نستخدمه الآن لم نكن لنجرؤ حتى على التفكير فيه، لقد قطعنا شوطًا طويلاً في تطوير المواد القابلة للارتداء، غير أن الاحتمالات لا حصر لها؛ وقد نصل في وقتٍ قريب إلى تصميم "Wearables" غير مرئية، يُمكن وضعها على أي شيء وفي أي مكانٍ لأغراضٍ معينة.
وقد نرى الأجهزة القابلة للارتداء تستمر لفترات طويلة جدًّا دون الحاجة إلى دورة شحن واحدة، بل ربما تعمل تطبيقات هذه الأجهزة (مثل الملابس الذكية) بطاقة الشمس أو بالطاقة الحركية أو ما شابه.
وأخيرًا وليس آخرًا، قد نرى الأجهزة القابلة للارتداء تُستخدم في عمليات المُصادقة وتأكيد الهوية، فنرى الموظفين يؤكدون حضورهم بزيٍّ ذكي، بينما يتم تسهيل الدخول إلى أماكن محددة، والحصول على التراخيص والتصاريح بكل سهولة دون الحاجة لبطاقات الهوية، إلخ.
الجانب المظلم من التكنولوجيا القابلة للارتداء
على الرغم من كل مميزات المواد التكنولوجية القابلة للارتداء واستخداماتها الواعدة، فإن لها جوانب مظلمة تستحق أن نُسلط الضوء عليها، منها:
1. مشكلات الخصوصية والأمان:
تجمع التكنولوجيا القابلة للارتداء كميات مهولة من البيانات الشخصية، بما في ذلك الموقع، والحالة الصحية، وغيرها الكثير من المعلومات التي غالبًا ما يتم مشاركتها مع طرف ثالث، سواء كانوا مطورين أو مُعلنين، كذلك نظرًا لأنها تقنية جديدة على الساحة، على الأقل بشكلها المعاصر، فإن مستويات الأمان بها مقلقة بعض الشيء، وقد تكون لقمة سائغة بالنسبة للهاكرز.
2. مشكلات الإدمان:
معظمنا يدمن الهواتف والأجهزة التكنولوجية بالفعل، لأنها تُسهل علينا الكثير، فما بالك أن ترتدي جهازًا يكون معك في كل مكانٍ حرفيًا، ويمدك بكل ما تحتاج إليه من المعلومات، وأيضًا يُسليك في كل وقت؟
فمن المتوقع أن يتخطى إدمان هذه الأجهزة الحدود، ويفصلنا عن الواقع أكثر مما نحن عليه الآن، ربما لا يحدث هذا الأمر في المستقبل القريب، ولكنه سيحدث عاجلاً أم آجلاً عندما تتطور هذه الأجهزة، وتصبح سهلة الاستخدام مثل الهواتف الذكية.
3. المشكلات الصحية:
أخيرًا وليس آخرًا، يمكن أن تُشكل التكنولوجيا القابلة للارتداء خطرًا حقيقيًّا على صحة مرتديها، فقد تتسبب بالحساسية وتهيج الجلد، ناهيك بالإجهاد المتكرر، خاصة إذا كنا نتحدث عن النظارات الذكية أو الأجهزة التي تُوضع على الرأس بشكل عام.
وختامًا، لا يوجد شك بأن التكنولوجيا القابلة للارتداء تتطور وستتطور بسرعة كبيرة، المسألة فقط مسألة وقت حتى نرى هذه الأجهزة تُستخدم على نطاقٍ واسع، وتدخل في الكثير من التطبيقات، ولكن السؤال هنا: هل سنندم على تطويرها؟