وغاب "البدر".. محطات في حياة الأمير الراحل بدر بن عبدالمحسن سردها لـ"الرجل" قبل 30 عامًا
أعلن الديوان الملكي السعودي وفاة الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن اليوم السبت خارج البلاد، والصلاة عليه غدًا الأحد في الرياض.
وقال الديوان الملكي: "وفاة صاحب السمو الملكي الأمير بدر بن عبدالمحسن بن عبدالعزيز آل سعود، خارج المملكة، وسيصلى عليه ـ إن شاء الله ـ يوم غد الأحد، بعد صلاة العصر في جامع الإمام تركي بن عبدالله في مدينة الرياض".
فلسفة خاصة
وفي نوفمبر 1994 اختارت مجلة "الرجل" الأمير والشاعر الراحل بدر بن عبدالمحسن شخصية الشهر، وكان عنوان الغلاف فلسفته الخاصة به " أحارب حتى لا أشبه غيري".
حينها كان الأمير بدر في العقد الرابع من عمره، و"الرجل" تجري لقاءً موسعاً معه عبر الزميل جاسر الجاسر، وتصوير الزميلين صالح العزاز وحمد العبدلي اللذين التقطا له صوراً في فناء منزله، وكذلك مع ابنته الأميرة سلمى.
موهبة منذ الصغر
في 1949 في حي الفوطة في الرياض ولد الأمير والشاعر الراحل بدر بن عبدالمحسن ليكون شاعرًا تملأ كلمته الدنيا وفقًا لخطة وضعها له الإله، ورغم اعتقاده بأن الشعر في حياته كان "صدفة" ومقرونًا بـ"فشله في التجارة". وأول المواهب التي حظي بها الرسم، إذ كان يرسم بكثافة في صغره.
كتب الشعر "مراهقًا"، وأفرج عن العديد من قصائده الخالدة والمبدعة، بعد نجاح أول عمل له والذي قدمه طلال مداح - رحمه الله- وهي أغنية "عطني المحبة"، تلك التي تغير كل شيء عند "البدر" بعدها من الناحية الشعرية.
وبين القصائد الشعرية والأعمال الوطنية وجد كل ما دونّه رواجًا كبيرًا في منطقة الخليج العربي، ومغروسًا في ذاكرة السعوديين خاصة، ويبدو ذلك نتيجة ما سماها بـ"حالة الإلهام" عند كتابة القصيد، وفسرها بأنها فترة يكون الإنسان فيها بين الوعي واللاوعي، وعند الانتهاء من ذلك الوضع تأتي مهمة الصياغة والتشذيب والتي تأخذ منه وقتًا طويلاً.
ثقة مُبْصِرة تحلى بها "البدر"، عيناها حاسّته وقناعاته، فهو لا يمتلك مستشارين في الشعر، ولا يهتم بطرق وسائل الإعلام في تعاطيها للنصوص الشعرية.
قصائد شعرية
ورغم مدلولات العديد من قصائده الشعرية، إلا أنه شخص غير "رومانسي" على الدوام، لكن الرومانسية حالة تمر به وتذهب -على حد وصفه-.
وقال البدر إن شعره لا يتأثر بمدى عاطفته واندفاعه، كما أن صبغة من الألم والحزن تغلب على الرومانسية فيما ينثر من الشعر.
العناد الفني الذي تمتع به، شكّل حمايةً له من التضليل - كما كان يرى-، فهو رفض اقتراح العديد من أصدقائه الرسم بمشاركة فنانين آخرين، لذا يجد من الأفضل إنتاج أعماله الفنية بشكل مستقل كليًا وبعيدًا عن المؤثرات الخارجية.
وبصعوبة بالغة تُكتب السطور الأخيرة لحياة الأمير بدر بن عبدالمحسن، إذ يخالجها الحزن والأسى وهي تحاول التعبير بفصاحة عن حالة الشارع الثقافي بعد نبأ رحيله صباح السبت 4 مايو 2024، لكن العزاء يبقى في نثره الخالد وشعره الذي بات جزءًا مهمًا من تاريخنا.
حوار مع "الرجل"
وإلى نص الحوار الذي أجرته مجلة "الرجل" مع الشاعر والأمير الراحل:
- طفولتك ماذا تتذكر منها؟
ولدت سنة 1949 في حي "الفوطة" بمدينة الرياض. اتذكر بيتنا الطيني، وأروقته الفسيحة المشمسة، وشرفته المطلية بالجصّ، والطرق الترابية الضيقة التي تفصل بيتنا عن الجيران..كانت الحياة بسيطة تتوقف بعد صلاة العشاء، و ما يثير اهتمامي حالياً هو تغيّر الاحوال والبلد نفسه في فترة ليست طويلة.
- وهل كانت تربيتك في فترة الطفولة صارمة، أم انك كنت طفلاً مدللاً؟
الام في مجتمعنا غالباً مايكون الحب والخوف الشديد على اطفالها من فطرتها. والأب هو المعلم والموجه. وانا كطفل اخذت نصيباً وافراً من الدلال، وتعرّضت لكثير من الصرامة. وانا مدين لكلهيما بما انا فيه الآن.
مع الشعر
- الميول الشعرية، هل كانت لديك منذ مراحل حياتك الأولى ؟
احببت الرسم في طفولتي، وكانت ميولي الفنية واضحة. اما الشعر فقد كتبته في مراهقتي وصادفني النجاح. ولست ادري الآن، هل هذه المصادفة جيدة ام لا؟
- إذن لو فرضنا ان نجاحك الفني رساماً سبق نجاحك شاعراً، فهل كنت ستترك الشعر وتتجه للرسم كلياً؟
اعتقد انني لو فشلت في كتابة الشعر، فإن الرسم كان الاقرب، فهو الاساس.
- أول قصيدة غنّيت لك، هل طلبت منك، أم انك عرضتها بنفسك؟
اول اغنية لي عرضتها وبإلحاح. وبالمصادفة لقيت احدى اغنياتي وهي "عطني المحبة" نجاحاً باهراً. ولو ان الفنان طلال مداح تردد في تقديمها وغنائها على المسرح لربما تغيّر كل شيء.
- هناك نقطة لافتة، وهي انه اذا كان توجهك للشعر مصادفة، او فيه جانب عبثي ما، فإن لغتك الشعرية مختلفة ومتميّزة، بينما من المنطقي ان يكون توجهك هو تقليد التقنيات السائدة، كونها النموذج الناجح، فكيف حققت هذا التفرد؟
قبل ان اجيب عن السؤال، تأكد ان المصادفة تلعب دورا خطيراً وكبيراً في حياة الناس. وكل ظرف او حادثة يصادف ان يواجهها الإنسان تغيّر في مجرى حياته.
كما قلت سابقا، فقد كنت ارسم وبكثافة في صغري. والفن بالنسبة لي هواية، بل اشبه بالشيء الذي خلق معي وفيَّ. اذا كنت لا امتلك ان اختار ملامح وجهي، فأنا لا امتلك ان اختار او اغيّر في ملامح فني. قد اقصّ شعري بالطريقة التي تعجبني. ربما اقلد الاخرين فيها، ولكن ليس لي انف ولا شفاه تشبه احداً تماماً. اختلافي قدري ليس لي فضل فيه، بل ربما حاولت ان اقلّد ولم استطع. بل اتكلم وأتصرّف احياناً بطريقة مختلفة. وربما استفدت من هذا الاختلاف في الشعر فقط.
شخصية مستقلة
- قصائدك فيها غالباً تركيبات مستحدثة جمالياً احيانا قد يكون للفن التشكيلي علاقة بها، عندما تكون الجملة اقرب إلى الصورة البصرية، وأحيانا تبدو انها نتيجة قراءات مكثفة في الشعر الحديث، فكيف تكونت لديك هذه الشخصية؟
الرسم والكتابة لديّ لا يمكن فصل أي منهما عن الآخر، اما بالنسبة لقراءاتي في الشعر الحديث فهي اقل من عادية. انما تأثير كل جديد جيد علي، بالغ من ناحية المضمون اولا، وفي الشكل بدرجة ثانية. وفي الواقع ان كل حديث يشدني، بسبب انني وببساطة لا اجد في المكرر والمعاد قيمة. والقديم كان حديثاً في يوم ما، وسيظل ابتكار شاعره الاول وإبداعه، حتى لو تكرر في قصائد آلاف الشعراء بعده. بالنسبة لي، شخصيتي الشعرية او الفنية ولدت معي لا اكثر ولا اقل.
- هل تخضع لحالة معيّنة عند كتابتك للشعر؟
الى حد كبير، القصيدة بالنسة لي قد تكون حالة إلهام. وعند كتابة قصيدة، أشعر بأنني في حالة اللاوعي او لنسمّها حالة بين الوعي واللاوعي. ولكن بعد هذه اللحظة، اي بعد ذهاب شيطان الشعر، تأتي فترة الصياغة او التشذيب، وهي مسألة معقدة تستغرق وقتاً طويلاً، حتى تظهر بالشكل الجيد.
- هل في شعرك أصداء لعلاقات خاصة؟
بالامكان اعتبار ذلك رافداً. وكل علاقة شخصية او غير شخصية تنفع ان تكون شعراً، من حق الشاعر استغلالها. وكل شيء في الدنيا هو في الواقع صدى للشعر، ويجب ألا يكون الشعر صدى لحدث او علاقة. وهذا يجرّني لعبارة قلتها في أحد لقاءاتي، وهي ان الشاعر يسخّر حتى الحبيبة لشعره. وقاد اخذ البعض معناها السطحي، عندما يكتب الشاعر، يجب ان يبحث عن الشعر لا الحبيبة. الحبيبة بالنسبة للشاعر احد جمهوره ومتلقيه، قد يعجبها ما كتب او العكس، لحظة الشعر يجب ان يكون الشعر فيها هو الاول. وتسخير كل شيء للوصول اليه، اذا انتهت هذه اللحظة او اللحظات، فإنه حتى كوب الشاي الساخن يصبح له الاولوية على الشعر.
- تبدو شخصاً رومانسياً، ميالاً للعشق بأنواعه، وعندما تعشق امرأة او اي شيء آخر، فإنك تندفع في عواطفك بدرجة كبيرة. فهل هذا صحيح؟
لا اعتقد اني إنسان رومنسي؛ الرومانسية حالة تمرّ بي وتذهب. كذلك لا اعتقد انّي مندفع مع عواطفي لدرجة كبيرة، شعري لا يتأثر بمدى عاطفتي واندفاعي. العلاقة بين شعري واحاسيسي هي ان اجد في هذه الاحاسيس ما استطيع ان اكتبه شعراً او يستحق ان يكون شعراً. في الكثير من شعري خشونة. وأحيانا صبغة الالم والحزن تغلب على الرومانسية فيه.
- عندما تقرأ قصيدتك كناقد فهل تخضعها للمحاذير الاجتماعية والعائلية، كأن تسقط اشياء ذات خصوصية معيّنة يجب التكتم عليها؟
ليس هناك محاذير معيّنة اضعها في الحسبان. ولكني بطبعي تعوّدت ان لا اخرج عن القيم الاجتماعية والعائلية. ولست اجد ما اضيفه إلى شعري بالخروج عن هذه القيم.
- عودة إلى القصائد المغنّاة، إذا كنت كتبت قصيدة وشعرت أنها أثيرة لديك، من هو المطرب الذي تفضل ان يغنيها؟
هك قصائد اثيرة، وليس شرطاً ان تلاقي نجاحاً كبيراً اذا غُنّيت. وأنا دوماً افضل المطرب الذي يتفاعل مع ما اكتب ويحسّ به.
- وبالنسبة لبدر بن عبد المحسن، من يكون هذا الفنان؟
هناك فنانون عدة وليس فناناً واحداً.
تعاون غير وثيق
- وبالنسبة للمطربين الجدد؟
تعاوني مع المطربين الجدد غير وثيق، لسبب ان اللون الجديد لا يناسبهم كما اعتقد. والذي يناسبهم لا يمكنني كتابته. وأنا كشاعر لا انتظر مردوداً مادياً لقصائدي، وما يهمّني هو المردود المعنوي. والاغنية التي يقدمها معظم المطربين الجدد آخر همها النص الجيد.. هم يبحثون عن الرقص والصفقة، وأنا اميل للفن والشعر. وأنا هنا لا ألوم احداً، ولكن يجب ان نعترف شئنا ام ابينا، بأن التجارة واستهلاكية العرض والطلب هي سمة هذه الايام.
- عودة للتفرد، انت ترغب باستمرار في تقديم نصوص جيدة ومتميّزة، ولكن الا تمر بك لحظات تشعر فيها انك غير قادر على تقديم اي شيء جديد؟
هذا صحيح؛ وأنا حالياً في هذه اللحظات التي امتدت لأيام وأشهر وقد تستمر. يتخلل تلك اللحظات قصائد قليلة تميل الى التبسيط والوضوح. وعدم قدرتي على تقديم الجديد عائد إلى انشغال ذهني بهموم اخرى، وقلة صبري على المحاولة. وأنا لست مستعجلاً على شيء، ولن اغتصب القصيدة..لها ان تأتي او لا تأتي.
- الملاحظ حالياً ان بدر بن عبد المحسن بدأ يعود للنمط التقليدي للقصيدة، فهل هذا تراجع عن النزعة الصدامية أم هي رغبة في الحفاظ على المتلقي؟
أنا لم أسع إلى المتلقي يوماً ما؛ فأنا اظل مهما حاولت هاوياً، وان كانت هذه الهواية اكثر من حرفة لي. وأنا لم اتراجع عن الصدامية ان صحّ هذا القول، انما كنت ومازلت احنّ إلى القديم. وها انا اعود بشكل او بآخر. وكما ان المتلقي حرّ فيما يعجبه ، فأنا حرّ كذلك.
لا استشير أحداً
- الا تشعر احياناً بأن الذين تستشيرهم او وسائل الاعلام قد يجعلون لنصك قيمة خاصة، لمجرد المجاملة، ما قد ينتج عنه تضليل في الجودة الفنية؟
كما قلت سابقاً، انا اعتمد في الدرجة الاولى على حاسّتي وقناعتي، وليس لي مستشارون في الشعر. اما وسائل الاعلام فقد تعطي اي نص سواء كان لي او لغيري اكثر ممّا يستحق. ولكن تأكد انه لن يكون اجمل ما لديّ. ولا افضل مثل هذا التعامل، لأن الخوف على المتلقي اكثر من الخوف على الشاعر الصادق، فالمتلقي اقرب لأن يضلل..
- هل يعني ذلك انك شخصية عنيدة ومعتدة بذاتها؟
نعم انا عنيد الى ابعد حدود، وهذه الصفة تحميني من التضليل. احيانا يقترح علي بعض اصدقائي ان ارسم بمشاركة فنان آخر، ولكنّني ارفض ذلك، فأنا احب انتاج عملي بشكل مستقل كلياً، لكي اكون بعيدا عن كل المؤثرات الخارجية.
- خالد الفيصل، السامر، طلال الرشيد، عبد الرحمن بن مساعد؛ من هو الاقرب إليك في اللغة وفي التكوين الشعري؟
انا احارب كثيراً حتى لا اشبه الذين سبقوني. وأعتقد ان الذين جاؤوا بعدي يحاربون حتى لا يشبهونني. وإذا كان بالامكان القول إن في شعري اشياء من السابقين لي، فإن الذين من بعدي فيهم شيء من شعري، وذلك لمجرد السبق فقط.
- هل تعتقد ان اللقاءات عموماً قدمتك بشكل صحيح او مغلوط؟
احيانا صحيحة وأحيانا خاطئة، لأن لقاءاتي فيها عفوية وارتجال.. احسّ بهذا منذ زمن، واعترف به. والعفوية رغم مميّزاتها خطرة لأنها قد تخلو من التركيز والاستعداد.
- لمن يقرأ بدر بن عبد المحسن ؟
قراءاتي متنوعة، وليس هناك كتاب معينون اقرأ لهم، وعادة يجذبني الكتاب اكثر من الكاتب. وللأسف انني اتورط في كتب رديئة احيانا، اذ يجذبني الكتاب من عنوانه او لطبيعة موضوعه، ولكن عندما اقرأه قد اجده عملاً هزيلاً.
بعيداً عن الشعر
- أوقاتك هل تحب قضاءها في المنزل وفي جوّ عائلي، أم تميل إلى الحركة؟
معظمها في البيت، وفي كل سنة تزيد فترات بقائي في البيت، حتى انني اخشى بعد عدة سنوات ان لا اغادر المنزل ابداً. وخروجي من البيت قليل جداً.
- هل يعني ذلك أنك ميّال للمنزل، ام هو تغير في طبيعتك؟
الاقرب انه تغيّر في طبيعتي. فأنا عندما لا يتلاءم برنامجي مع برامج اصدقائي اغيّره ليتلاءم معهم.
واعترف ان زياراتي قليلة جداً، مع اني اعرف ان عليّ واجبات ارغب في ادائها، ولكني مقصّر في ذلك. ومن يعرفني جيداً يدرك ان السبب ليس ابتعاداً او كراهية، ولكنه انعزالي وتقوقعي بشكل لا ارادي، وآمل بأن اصحّح هذا الوضع.،
- تقضي اوقاتاً كثيرة في جدة فما الذي يجذبك اليها؟
انا لا اقضي اوقاتاً كثيرة في جدة، رغم وجود اسباب كثيرة يفترض معها ان اكون فيها اكثر من اي مكان آخر. أولاً عشت فيها فترة طويلة، منذ ان كان عمري عشر سنوات الى ان بلغت الثانية او الثالثة والعشرين. ثانياً وجود والدتي وأخويّ سعود ووليد هناك. وحتى الان فإنني عندما اقود سيارتي في جدة، اعرف شوارعها اكثر مما اعرف الرياض، رغم انني عشت السنوات الاخيرة في الرياض. وربما يكون السبب هو انني حينما كنت في جدة كنت اكثر حركة وتجوالاً.
- ألا تعتقد ان السبب هو طبيعة المدن، فالرياض مدينة منغلقة وجدة مفتوحة، ما يشجّع على الحركة؟
كل المدن الساحلية تختلف عن المدن الداخلية، ولكن لكل واحدة طعمها الخاص. فإذا امضيت وقتاً طويلاً في جدة، حننت الى الرياض والعكس صحيح.
- هل تمنح نفسك إجازة سنوية منظمة ام ان إجازاتك مزاجية؟
انا لم اشعر يوماً انني في اجازة، وأفتقد الاحساس بطعم الاجازة، بل حتى اثناء سفري لا يكاد برنامجي يتغيّر.
- هل أنت مجامل؟
انا مجامل الى حد كبير، وأعتقد ان مجاملتي في غير مكانها في احيان كثيرة. وانا شخص من الصعب ان اقول "لا"، مع اني قد اقولها بطرق كثيرة. ودائماً اواجه مشكلة مع الناس الذين لا يفهمون هذه "اللا" غير المباشرة. وسأضرب لك مثالاً، فقد يأتيني صديق ويطلب مني ان اذهب مشواراً معيّناً، فأعتذر منه لانني مرتبط ولكنه يلحّ كثيراً، فأقول له كما تحب. ولكنني اعرف انني لن اذهب مهما حدث. وهذا النوع من التعامل مع الذين لا يستعملون عقولهم في استيعاب الرفض غير المباشر يتعبني. هؤلاء بحاجة إلى ان تقول لهم: لا ألف لا، لا، حينذاك يفهمون. ولكنني لا اعرف ان اقولها، لأنني دائما اعتقد ان الاعتذار بارتباطات اخرى يكفي لفهم عدم الرغبة في الذهاب لمكان ما او فعل اي شيء معين. ولذلك اقول للطرف الآخر "لا" بشكل يحترم عقله وإحساسه ولكن للاسف ان كثيرين لا يفهمون هذه اللغة.
- أصدقاؤك المقربون كيف تختارهم؟
بصراحة في الفترة الاخيرة لم يعد لي اصدقاء خاصون، والسبب في ذلك هو شخصيتي، اذ إنّني انقطع احيانا لفترات طويلة ما يجعل بعض الاصدقاء يظنون ان ذلك عدم رغبة في لقائهم، او كره فيهم وأن نظرتي لهم تغيّرت، وهذا يؤلمني كثيراً. وبودّي لو يفهمون انهم اصدقائي ومحبّتهم لا تزال موجودة، ولكني شخصياً اجد صعوبة مع مرور السنوات في ان اكون على المستوى نفسه من التواصل، اذ اجد نفسي ازداد بعداً وانعزالاً بدون قصد. اعتقد انه ميل ذاتي إلى العزلة اكثر من اي شيء آخر.
- في هذه العزلة ألا تشعر بالوحدة؟
الشعور بالوحدة ليس جديداً وليس مرتبطاً بالكثرة او القلة. احيانا اكون مع الناس واشعر بالوحدة، وأحياناً اكون وحيداً وأشعر بأنني اعيش في حركة وصخب. ولكني عموما استمتع عندما انفرد بنفسي وبيني وبينها احاديث كثيرة، ولكن عندما تكون هذه الحوارات الذاتية متعبة، احاول التخلص منها بالاختلاط بالاخرين، ولكن عندما اكون في حالة بهيجة احب الوحدة والتأمل.
- ألا يسبب التأمل والوحدة أرقاً؟
مهما كانت حالتي النفسية او طبيعة المشكلة التي اشعر بها، لا اعاني من عدم النوم، بل أنام مباشرة مهما كانت المشكلات التي تملأ رأسي. مثلاً نحن الان مقبلون على دورة الخليج، فلو كانت لديّ مشكلات مرهقة، فإنني حالما اضع راسي على الوسادة، اتخيّل انني اشكل فريقاً للعب، ولا اكاد اقطع شوطاً في هذه اللعبة حتى انام. وأعتقد انها مقدرة ايجابية على تخفيف التوتر وامتصاصه.
- هذا النمط من العلاقات اي الاقبال على الآخرين ثم الانقطاع عنهم فجأة وبدون مقدمات، ألاتراه مربكاً للمحيطين بك، ويجعلهم عاجزين عن فهم شخصيتك؟
نعم اعتقد ان هذه مشكلة كبرى. ولكنني مدرك تماماً بان هذا النمط من التعامل انما يعود لظروف أمرّ بها. ولو كانت هذه الطريقة في الاقبال والانقطاع جزءا من طبيعتي العامة، لقلت انها طبيعة شبه مرضية. ولكن ما يحدث هو انني عندما امرّ بظروف غير مناسبة، يعزّ عليّ ان يلاحظ الاصدقاء ذلك. وهو جانب احرص عليه، لأنّني تعودت ان اكون مسيطراً على احاسيسي، ولا احب ان اظهر عدم ارتياحي الا في حالة رغبتي في ذلك. وفيما عدا ذلك اكتم عدم ارتياحي، ولكني احيانا اشعر انني فاقد القدرة على القيام بذلك فألجا للانقطاع.
- اذا سمحت لي فإن من الممكن القول ان هذه النقطة فيها ازدواجية، فمن جانب انت شخص متحدّ عنيد لا يتردد في مجابهة ما لا يرضيه، ومن جانب آخر تحافظ الى اقصى حد ممكن على احاسيس الاخرين. الا يسبّب لك هذا صراعاً داخلياً من اجل الموازنة بين هذين الجانبين. اي تحقيق ذاتك والمحافظة على احاسيس الآخرين في الوقت نفسه؟
طبعا وهذا الصراع يؤذيني كثيراً. لا احب الانقطاع عن اصدقائي، وفي الوقت نفسه لا احب ان اظهر امام احد في حالة افقد فيها السيطرة على تصرفات الغضب، ومن النادر رؤيتي متأثراً.
- هل هذا السلوك تكوين ذاتي أم جزء من عملية التربية؟
اعتقد انه نتاج عوامل كثيرة، ولكن ما اتذكره عن طفولتي هو انني كنت عصبياً جداً، ولا أطاق احياناً. وكنت اسبب مشكلة كبيرة لأهلي، لأنني سريع الغضب وسريع البكاء، فلا يعرفون كيف يتعاملون معي، ولا يكون للضرب نتيجة، لأنني اصلاً في حالة بكاء. في طفولتي كنت اشعر ان هذه الطريقة تعطيني القوة لقول ما أريد أو فعله، وكنت اجدها لعبة ممتعة توصلني إلى أهدافي. ولكن في مرحلة المراهقة فكرت في الامر بطريقة مختلفة بعدما وجدت انني اثور، ليس امام امي او بقية اهلي ولكن امام اي احد. ومن هنا بدأت عملية السيطرة على سلوكي وتصرفاتي. ونحن لدينا قول هو أن اسوأ شيء للفرد ان يعرف الناس منتهاه. والغضب هو الحالة التي تجعل الفرد مكشوفاً تماماً امام الآخرين، لذلك وجدت ان تأخير الغضب يعطي الانسان قوة، لأن الانسان الهادئ لا يعرف الاخرون ما هي اسلحته الكامنة ولذلك يتحسبون لها كثيراً.
- وهل ما زلت تطبق هذه التقنية؟
حاليا اطبقها بطريقة عادية، لأنها اصبحت جزءاً من سلوكي، وهذا لا يعني انني لا اغضب، ولكن عندما اغضب، فإنني لا اتراجع عن موقف، ولست مقتنعاً بان يتراجع الانسان عن المواقف التي يتخذها في حالة الغضب، لأن السبب الذي يدفع به الى الوصول هذا المستوى من الثورة، لا يمكن ان يكون تافهاً، فهو حينها يكون اسير انفعالاته.
خط رجعة
- وهل هذا هو السبب في ان قصائدك المتضمّنة لحالات الفراق والخصام ليس فيها خط رجعة، بل إن الفراق اذا حدث فهو نهائي وحاسم؟
طبعاً؛ فأنا لا اقامر في هذا ولا اعترف بالانقطاع من اجل الضغط. ولو حاول احد اياً كان ان يقطع علاقته بي ثم اراد العودة، فإنني اغلق الباب نهائياً؛ فالمسألة ليست لعبة، لأن بالإمكان التعبير عن مواقف الرفض او الاستياء بطرق اخرى، اما تكون الحالة يوماً خصاماً وآخر مصالحة فهذه مسألة عبثية. وسبق ان قال لي صديق ذات مرة (You are on the Edge) وأعتقد ان كلامه صحيحا، فأنا احياناً امشي على حافة الخطر، ولكني لا اصل الى الهاوية او ادفع بأمر اليها اذا كنت اقصد ذلك تحديداً.
واحياناً تصل بعض علاقاتي الى حد الخطر، ولكني لا اقول سأفارق ما لم اكن اعني ذلك بالضبط.
- هل تعتقد انك حققت احلامك على الاقل تلك التي خططت لها في مراحل من عمرك؟
التعامل في هذه النقطة يخضع لعوامل عديدة. في هذه اللحظة اشعر انني حققت اكثر احلامي. ولكن لو سألتني بالامس لربما كان جوابي مختلفاً، لأن هذه مسألة نفسية. احياناً عندما اكتب قصيدة جميلة احسّ وكان ليس في الدنيا شاعر سواي، وأمتلئ غروراً وفخراً لا يمكن ان تتصوره، وفي اوقات اخرى اعجز عن الكتابة، فألقي بالقلم واقول لنفسي بانني طارئ على الشعر وليس لي علاقة به.
ولكن اذا نظرت إلى المسألة من جانب عقلاني اجد انني حققت بعض الاشياء، وفي ذلك الوقت فما اتمناه لم احققه ولا اعتقد ان من السهل تحقيقه. على سبيل المثال، وضعت لنفسي قبل ما يقارب خمسة وعشرين عاماً تواريخ لطموحاتي. في سنة كذا اكون مشهورا على نطاق السعودية وفي سنة كذا سأكون معروفاً على نطاق العالم العربي. وطموحاتي فعلاً لا تحد، والواقع ان التواريخ مضت دون انجاز هذه التوقعات، ولو انها تحققت فعلاً، لربما كنت الان معروفاً في منغوليا. (ضاحكا).