الأرستقراطي الذي صار جنديًّا وجاسوسًا وراهبًا.. من هو "هنري كوم تينانت"؟
"هنري كوم تينانت" الثري البريطاني المنحدر من عائلة تسمى على اسمها إحدى مقاطعات ويلز، خدم في الجيش البريطاني ثم عمل مع أجهزة الاستخبارات، وعمل في الشرق الأوسط في فترة إقامة دولة إسرائيل، واختار أن يتحول إلى راهب في أواخر حياته قبل 40 عامًا.
وُلد "هنري كوم تينانت" عام 1913 في نيث جنوبي ويلز في المملكة المتحدة في عائلة ثرية كانت وراء إنشاء قناة "تينانت" من أجل شحن الفحم والمعادن المصنعة من أودية جنوب ويلز إلى سوانزي في القرن التاسع عشر، كما تحمل منطقة في سوانزي اسم العائلة، وهي منطقة بورت تينانت.
التحق بمدرسة إيتون ثم جامعة كامبريدج، وعندما بلغ سن الرشد عام 1934 قُدرت ثروته الصافية بنحو 50 ألف جنيه إسترليني، مع بدل سنوي قدره 4 آلاف جنيه إسترليني.
وكما يسرد موقع الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، خدم "هنري" في الجيش البريطاني في أثناء عمليات الحرب العالمية الثانية، وشارك في عديد من العمليات الخاصة، بما في ذلك عملية أوفرلورد، وهي عملية إنزال الحلفاء في نورماندي عام 1944 التي انتهت بإنهاء وجود هتلر في جنوب فرنسا.
وخط المؤرخ والمؤلف "برنارد لويس" قصته الرائعة في سيرة ذاتية جديدة بعنوان "بطل ويلز المجهول: جندي، جاسوس، راهب - حياة هنري كومب-تينانت".
نشأة غير مألوفة
يوضح "برنارد لويس" أن عائلة "هنري كوم" في الأساس "كانت صديقة لرئيس الوزراء ديفيد لويد جورج"، ويضيف أن "والدته وينيفريد كانت ناشطة سياسية ووسيطة روحانية معروفة، وكان هنري ثمرة علاقة خارج إطار الزواج مع غيرالد شقيق رئيس الوزراء السابق آرثر بلفور. لكن علاقتهما لم تكن علاقة عادية، فقد كانا يؤمنان بعقيدة معينة شرعا على أساسها عن عمد في إنجاب طفل، بمساعدة من عالم الأرواح بحيث يصبح ولدهما (هنري فيما بعد) هو المسيح القادم".
ويؤكد المؤرخ "لويس" أن "هنري وأخوه لم يكونا يعرفان بتلك العقائد التي جاءا للدنيا على أساسها إلا في أربعينيات القرن الماضي".
ولم يكن هنري طفلاً ضخمًا، ومن ثم لم يتفوق قط في الرياضة وكان صبيًّا هادئًا ونحيلاً، ولكن لديه إرادة حديدية ورغبة في العمل.
جندي متذمر
عام 1936، انضم "هنري" إلى الحرس الويلزي، وكان يبدو عليه "التذمر"، وحينها اندلعت الحرب العالمية الثانية وكانت بالنسبة إليه "في وقتها المناسب تماما". شارك في العمليات الخاصة ثم نفذ بعد الحرب مهمات لحساب جهاز الاستخبارات البريطاني "إم آي".
كان يفكر في ترك الخدمة بالجيش في أواخر الثلاثينيات، لكن عندما اندلعت الحرب عام 1939 وجد نفسه يخدم في هولندا ومنطقة بولون بفرنسا. بعدها وقع في الأسر واقتيد إلى معسكر أسرى الحرب في واربورغ وسط ألمانيا.
هروب هنري الكبير
وتضيف "بي بي سي"، أنه في مايو من عام 1940، ساعد "هنري كوم تينانت" في الحفاظ على طريق حيوي إلى ميناء هوك أوف هولاند مفتوحًا، ما سمح للعائلة المالكة الهولندية والحكومة بالهروب قبل وصول النازيين إليهم.
وبعد أسبوعين، كان يشارك في عملية يائسة لوقف تقدم الجيش الألماني في غابات بولون الفرنسية ومساعدة مئات الآلاف من قوات الحلفاء على الهروب في دانكيرك. وهناك، قُبض عليه واُقتيد إلى معسكر أسرى الحرب في واربورغ وسط ألمانيا، ثم هرب منه بعد تلك الواقعة بعامين.
وأوضح "لويس": "قطع هنري و20 أو 30 من زملائه الأسرى التيار الكهربائي في سجنهم ليحولوا سلك الكهرباء إلى وسيلتهم نحو الحرية".
ومن بين الثلاثين الذين فروا من واربورغ، عاد "هنري" واثنان آخران إلى بريطانيا عبر هولندا ثم بالقطار عبر بلجيكا وفرنسا وإسبانيا المحايدة وأخيرًا إلى جبل طارق فجرى نقلهم إلى بريطانيا.
اقرأ أيضًا: "الإخوة الأعداء".. كيف نشأت إمبراطوريتا "Adidas" و"Puma"؟
مسار طبيعي ليتحول إلى جاسوس
بعد استراحة قصيرة تخللها فرص للقاء الملكة إليزابيث الثانية "الأميرة إليزابيث آنذاك" وتناول الشاي مع الملك والملكة في ساندرينغهام، غادر "هنري" الحرس الويلزي، وأدت تجربته في الهروب من الأسر خلف خطوط العدو إلى أن يتم تجنيده في العمليات الخاصة "إس أو إي"، التي أدارت مهمات لدعم المقاومة الفرنسية.
وفي الأشهر التي أعقبت عمليات الإنزال في نورماندي، نشط عبر مئات الأميال داخل الأراضي التي تحتلها ألمانيا، ما ساعد على تعطيل خطوط القطارات ومواقع العدو.
وقال "لويس": "بعد الحرب كان مساره بطبيعة الحال أن ينتقل من العمليات الخاصة والجيش إلى أن يصبح جاسوسًا في جهاز الاستخبارات البريطاني (إم آي 6)".
وأضاف: "في البداية، عمل على مواجهة أنشطة العملاء الروس في لاهاي بهولندا، بالإضافة إلى أنه حاول استغلال اتصالاته بالمؤسسة العسكرية الهولندية كي لا يصدر قرارًا بإرسال قوات إلى المحيط الهادئ ردًا على نزاع إقليمي في تلك المنطقة".
ومع أن الكثير ملفاته في الاستخبارات ما زال الكثير منها يقع تحت تصنيفات الملفات السرية، إلا أنه من المعروف، حسب ما أوردته هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" أن "هنري" عمل في ملف فلسطين في وقت قريب من تاريخ إقامة إسرائيل في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، قبل الانتقال إلى العراق في عام 1959.
وحينها حدث له في العاصمة العراقية بغداد شيء أدى إلى تغيير نظرته في الحياة تغييرًا جوهريًّا.
مهمة دينية
"هنري" لم يكن مؤمنًا معظم حياته، إلا أنه التحق بالكنيسة الكاثوليكية عندما عاد إلى بريطانيا عام 1960، وأصبح راهبًا في دير داونسايد آبي بالقرب من مدينة باث.
ويبرر المؤرخ "لويس" هذا التحول في معتقدات "هنري" قائلاً: "لقد ألقى هنري محاضرة عام 1965، قال فيها إنه في بغداد عام 1959 وقع تحت تأثير آلام نفسية وجسدية أدت به إلى استشعار تواصل روحاني، فهل اعتقل وقد يكون عُذب على يد قوات الشرطة العراقية أو عملاء دولة أخرى مثلا؟ لقد كان لروسيا نشاط ملحوظ في العراق في ذلك الوقت. لكن للأسف، نحن لا نعرف بمنتهى البساطة فما زالت كثير من ملفات هنري سرية ولا نستطيع الوصول إليها".
وظل "هنري" راهبًا ضالعًا في حياة الرهبانية بمنتهى النشاط حتى وفاته في عام 1989، ولم يتحدث مرة أخرى عن حياته أيام الجاسوسية.
وستظل ملفاته في جهاز الاستخبارات البريطانية تحظى بالسرية 40 عامًا أخرى، وحينها ربما سنعرف على وجه اليقين ما حدث لـ"هنري كوم تينانت" وما نقطة التحول تلك في حياته وما هو نوع الألم أو المعاناة التي تعرض لها.