"جدار برلين".. ماذا تعرف عن الحاجز الذي حوّل ألمانيا إلى بلدين؟
في الثالث عشر من أغسطس 1961، بنى الحزب الشيوعي جدارًا عازلاً شطر ألمانيا إلى نصفين، نصف شرقي تحت زعامة السوفييت ونظامهم المناهض للرأسمالية، ونصف غربيّ رأسماليّ تدعمه الولايات المتحدة. أصبحت ألمانيا "ألمانيتين" وحُرِم الشعب الألماني من وَحدته التي كان عليها. فبأي مُناسبة بُني هذا الجدار؟ وما علاقة الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة بألمانيا؟
الحلفاء يقسّمون ألمانيا الجريحة
عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبالتحديد في يونيو 1945، انتهز الحلفاء، وأبرزهم الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، هزيمة ألمانيا المذلة وقرروا أن يتقاسموا أراضيها فيما بينهم. وبالفعل، انقسمت ألمانيا -بشكل أساسي- إلى جزءٍ شرقي "ألمانيا الشرقية" من نصيب الاتحاد السوفيتي، وجزءٍ غربي "ألمانيا الغربية" تابع لبريطانيا العظمى وفرنسا وبالتأكيد الولايات المتحدة.
كل شيء كان على ما يُرام والأطراف ارتضوا بالتقسيم، فيما عدا العاصمة برلين. فحدود تلك المدينة كانت تابعة بشكلٍ كاملٍ إلى ألمانيا الشرقية، أي تحت زعامة الاتحاد السوفيتي بقيادة "جوزيف ستالين" وقتها، وهذا ما لم تكن بقية دول الحلفاء لتسمح به، فالسيطرة على العاصمة هي أفضلية واضحة. لهذا السبب تم الاتفاق على تقسيم برلين نفسها إلى قطاعات أصغر، يحتفظ السوفييت بالجزء الشرقي منها، وبعضها الآخر الواقع في الغرب يكون من نصيب أمريكا وبقية الرأسماليين.
شوكةٌ في الحلق
بالنسبة للسوفييت، لم تُمثل لهم ألمانيا الغربية نفسها مشكلة، ولكن الجزء الغربيّ من برلين، كان مثل الشوكة في الحلق، وحتى أن الرئيس السوفيتي الذي خَلَف "ستالين"، وهو "نيكيتا خروتشوف"، وصف الوضع ليس بالشوكة، وإنما بـ"العظمة العالقة في الحلق". نتيجةً لذلك، وقبل أن يُحكِم الحلفاء الرأسماليون سيطرتهم على الجزء الغربي من برلين، فرض السوفييت حصارًا على ذلك الجزء، وجوعوا قاطنيه علَّ وعسى أن يتمكنوا من طرد أمريكا وبريطانيا وفرنسا، ولكن هيهات هيهات.
إذ لم يكن من أمريكا وحليفيها سوى العناد، حيث أرسلوا إمدادات جوية من الوقود والغاز والطعام وصل حجمها إلى 2.3 طن في خلال عامٍ واحد فقط، ما جعل السوفييت نفسهم ييأسون ويفكون الحصار في عام 1949 ما أدى إلى استتباب الوضع قليلاً.
اقرأ أيضًا:كيف امتلكت "بيبسي" سادس أقوى جيش في العالم؟
الألمان الشرقيون يحرجون السوفييت
يمر عقدٌ من الزمان، وتحديدًا 9 سنوات، وتتوتر الأمور مرة أخرى في عام 1958. ففي تلك الفترة كانت الحرب الباردة محتدمة؛ السوفييت ينجحون في إطلاق القمر الصناعي الشهير "سبوتنيك" إلى الفضاء، ولكنهم يعانون اقتصاديًا أمام الحلفاء الرأسماليين، والدليل أن سكان ألمانيا الشرقية كانوا يهاجرون بشتى الطرق إلى ألمانيا الغربية، وهذا الأمر ضايق الاتحاد السوفيتي وجعله يشعر بالحرج.
وبصراحةٍ شديدة حُقَ للسوفييت أن يشعروا بالإحراج، فأعداد المهاجرين من "أراضيهم الشرقية" إلى ألمانيا الغربية كانت كبيرة للغاية، إذ اقترب عدد المهاجرين إلى ألمانيا الغربية منذ فك الحصار المذكور إلى 3 ملايين شخص من مختلف طبقات الشعب: الأطباء والمدرسون والمهندسون والحرفيون ومعظم الأشخاص الذين تسنى لهم الهرب من قبضة الشيوعية كانوا يفعلون ذلك.
في عام يونيو 1961، بدأ الأمر يخرج عن السيطرة، فالآلاف ينزحون كل شهرٍ من الشرق إلى الغرب، إذ إنه في يونيو ذاك، فرَّ ما يقرب من 20 ألف ألماني شرقيّ إلى ألمانيا الغربية، بينما تمكن 30 ألفًا من الارتماء في أحضان الرأسمالية في الشهر اللاحق، أما في أول 11 يومًا من أغسطس، فاستطاع 16 ألف شخص من ألمانيا الشرقية أن يفعلوا الشيء نفسه، بل الأدهى أنه في يومٍ واحدٍ فقط، 12 أغسطس، كان العدد قد وصل إلى نحو 2400 شخص، وهو أكبر عددٍ في التاريخ يغادر ألمانيا الشرقية في يومٍ واحد.
لقد طفح الكيل!
في تلك الليلة، 12 أغسطس 1961، أعطَى "نيكيتا خروتشوف" الضوء الأخضر للحكومة لكي توقف ذلك التدفق الشعبي الذي يصب في ألمانيا الغربية. وفي غضون أسبوعين فقط، أكملت قوات الشرطة، بمساعدة عددٍ ليس بقليل من العمال والمتطوعين، بناء جدارٍ مؤقت من الخرسانة والأسلاك الشائكة عُرِف بـ"جدار برلين The Berlin Wall"، وإن كانت تلك النسخة من الجدار ليست سوى نسخة أولية. وبالفعل، نجح الجدار في الحد من تدفق سكان ألمانيا الشرقية إلى الجانب الآخر، ولكنه لم يقض على تلك الظاهرة.
لم تكن فكرة جدار برلين سيئة بالنسبة لمقياس نزع فتيل الحرب، وحتى أن الرئيس الأمريكي وقتها "جون كينيدي" قال: إن الجدار أفضلُ كثيرًا من الحرب.
ولكن مثلما قلنا، لم يمنع جدار برلين رغبة الألمان الشرقيين الجارفة في العبور إلى الجانب الآخر، وهذا أدى إلى مقتل حوالي 171 واحدٍ منهم على الأقل، ولكن في الفترة ما بين 1961 "سنة تشييد الجدار" وحتى السنة التي هُدِم فيها "1989"، تمكن أكثر من 5000 شخصٍ "من بينهم 600 جندي من ألمانيا الشرقية" من الفِرار بطرق مختلفة، فمنهم من كان يستخدم المناطيد، ومنهم من كان يلجأ إلى المجارير، وطبعًا كانت هناك محاولات كثيرة لتسلق الجدار نفسه، وطبعًا باء كثيرٌ منها بالفشل.
جدارا برلين!
لاقتلاع أي فكرة هروبٍ من جذورها، تم تطوير جدار برلين إلى جدارين! مُدَّ ذلك الحاجز المنيع على طول 155 كيلومترًا، كما وصل طوله إلى 4 أمتار. ما بين الجدار والآخر كانت هناك حراسةٌ مشددة تمثلت في الحراس أنفسهم، ناهيك عن الأسلاك الشائكة وأبراج المراقبة وكلاب الحراسة وغيرهم، لذلك عُرِفت المسافة بين الجدارين بـ"شريط الموت death strip"!
اقرأ أيضًا:"قتلوا الأطفال والرجال والنساء".. حكايات من دفاتر أشهر السفاحين في التاريخ
ألمانيا الموحَّدة.. مثلما نعرفها اليوم
أوشك الاتحاد السوفيتي على الانهيار والحرب الباردة قد قابت قوسين أو أدنى من أن تُحسَم لصالح الولايات المتحدة. نحن نتحدث عن التاسع من نوفمبر عام 1989، إذ إنه في ذلك الوقت خرج المتحدث الرسمي باسم الحزب الشيوعي في برلين الشرقية وأعلنها صريحة: ابتداءً من منتصف ليل اليوم، يُمكن لمواطني ألمانيا الديموقراطية الأحرار أن يعبروا حدود البلاد! عادت الأمور إلى نصابها وتوافدت الحشود من شتى بقاع ألمانيا الشرقية، والغربية كذلك، ليلتقي الألمان ببعضهم بعد حِرمانٍ دام لنحو 30 عامًا.
الألمان انقضوا على الجدار وهم يحتفلون ويرددون: "Tor auf!".. "Tor auf!".. "Tor auf!"، أي افتحوا بوابة الجدار. بدأت الجرّافات والرافعات في تحطيم الجدار، وظهر الحرمان الذي دام لكل تلك السنوات على الألمان الذين سرعان ما جلبوا المطارق والمعاول ليساعدوا العُمّال في دك ذلك الحاجز، حتى أنهم وُصِفوا بعد ذلك بـ "نقاريّ خشب الجدار- “wall woodpeckers".
ووصف أحد الصحفيين تلك اللحظة المبهجة والشوارع المليئة بالهرج والمرج على أنها "أعظم حفلٍ في تاريخ العالم- The greatest street party in the history of the world"، ويبدو أنها كانت كذلك بالفعل، وبعد اتحاد ألمانيا أخيرًا للمرة الأولى من عام 1945 كتب أحد سكان برلين على قطعة من الجدار: "اليوم فقط انتهت الحرب".