الوباء الذي أباد ثلث سكان أوروبا.. هل تعرف "الموت الأسود"؟
فتك الطاعون، أو كما يشتهر بـ"الموت الأسود Black Death"، بثلث سكان القارة الأوروبية تقريبًا، وكان واحد من أكثر الأمراض شناعة في التاريخ. عندما يُذكَر اسمه، فعادةً ما تتبادر إلى أذهاننا صورة الأقنعة المخيفة والمصنوعة على شكلٍ طائرٍ ذي منقار طويل. تخيل أن ذلك الوباء الملعون وصل إلى أوروبا عن طريق 12 سفينة فقط كانت قادمة من البحر الأسود إلى ميناء ميسينا في جزيرة صقلية. ويُروَى أن معظم البحارة الذين كانوا على متن تلك السُفن كانوا إما موتى أو أحياءً يتمنون الموت لما بدا عليهم من إعياء شديد تمثل في دمامل سوداء تنزف دمًا وصديدًا!
ما قبل سُفن الموت
قبل واقعة الاثنتي عشرة سفينة، والتي عُرِفت بـ"سفن الموت" بالمناسبة، ووصولها إلى ميناء ميسينا، كان الأوروبيون قد سمعوا بالفعل عن "وباءٍ عظيم" يشق طرق التجارة في الشرقيين الأدنى والأقصى، والحقيقة أن ذلك الوباء أو الطاعون ضرب عدة بلدان في أوائل أربعينيات القرن الرابع عشر -أي قبل عام 1347- مثل الهند والصين وبلاد فارس وسوريا ومصر.
أما عن منشأ الطاعون الحقيقي، فكان يُعتَقد أنه انبثق من القارة الآسيوية قبل ألفي سنة من واقعة سُفن الموت، ولكن بحسب الدراسات الحديثة، فإن جذور وسبب ذلك الوباء يُعتَقد أنها وُجِدَت في القارة الأوروبية منذ عام 3000 قبل الميلاد تقريبًا.
أعراض مخيفة
لَخَّص الشاعر الإيطالي "جيوفاني بوكاتشيو" أعراض طاعون "الموت الأسود" قائلاً إنه كان يصيب الرجال والنساء على حد سواء. في البداية كانت أجساد المصابين تتورم وتُصاب بالدمامل، وذلك يظهر على أفخاذهم أو تحت إبطهم، كان حجم بعض الأورام يصل إلى حد البيضة أو ثمرة التفاح، في حين أن حجم بعض الأورام الأخرى كان يزيد أو يقل عن ذلك بقليل. الدم والقيح كانا يتسربان من هذه الأورام العجيبة، ثم تتبعهما مجموعة من الأعراض غير السارة مثل الحمّى، والقيء، والإسهال، والقشعريرة، والأوجاع الرهيبة.. ثم الموت العاجل.
يُعتَقد أن الأورام والأعراض التي كانت تظهر على المصابين كانت تتميز بلون أسودٍ أو أرجواني، وتُعزِي عديد من المصادر سبب تسمية "الموت الأسود" بهذا الاسم إلى ذلك الاعتقاد.
دور المغول في انتشار الوباء
بعد سنوات قليلة من ظهوره الأول في حوض البحر الأبيض المتوسط، وصل الطاعون الأسود إلى معظم أنحاء أوروبا. يمكننا أن نقول إن أول ظهورٍ للطاعون في تلك القارة يعود إلى سنة 1346 في ميناء مدينة فيودوسيا -كانت تُعرَف وقتها بكافا- الإيطالية. في ذلك الوقت كان الجيش المغولي يُحاصر المدينة، وكان من بين صفوفه عددٌ لا بأس به من حاملي المرض.
ولعل واحدة من أغرب القصص التي قد تكون سمعتها، والتي قد يرجع إلى أحداثها السبب الرئيس لانتشار الطاعون بسرعة كبيرة، هي أن جنود المغول كانوا يلقون بالجثث المصابة عمدًا على جدران المدينة لينشروا الوباء بين سكّانها، وهو ما حصل فعلاً! ما زاد الطين بلّة أنه عندما عَلِم أهل كافا بأنهم أصبحوا حاملين للمرض، أُصيبوا بالذُعر وهرعوا إلى مختلف المُدن الإيطالية ناقلين المرض معهم.
اقرأ أيضًا:"لحظات فارقة".. أشهر اكتشافات علمية حدثت بالمصادفة
تشير معظم الدلائل إلى أن "الموت الأسود" انتشر على نطاق واسع عن طريق الفئران الموبوءة بالبراغيث، والتي كانت تعيش على متن القوارب والسفن التجارية، وبما أن التجارة البحرية كانت مُنتشرة في ذلك الوقت، فإن الوباء كان ينتشر بشكل سريع للغاية، بل وإلى مسافات شاسعة فيما عُرِف بـ "القفزة النقيلية- metastatic leap". كانت العدوى تصل إلى المدن التجارية الشهيرة أولاً، ثم تنتشر منها إلى بقية البلدات والقرى المجاورة.
مما لُوحِظ أيضًا بشأن الطاعون، أنه كان ينتقل إلى المدن ذات الظروف المناخية المناسبة والدافئة أكثر منه إلى المُدن شديدة البرودة، وهذا يُفسر كون أيسلندا وفنلندا من بين الدول القلائل التي استطاعت النجاة من ويلات ذلك الوباء. ومن العبارات الشهيرة المنتشرة وقتها، كانت: "اخرج من هنا حالاً، سريعًا وبعيدًا، وكلما أجَّلت العودة، كان أفضل بالنسبة إليك".
سرٌّ "زيّ الموت"
انتشر "الموت الأسود" في نهاية القرون الوسطى التي اتسمت أوروبا فيها بالجهل، فعندما أُصيبت القارة بذلك الوباء المميت، كان الجميع يعتقدون بأن السبب يكمن فيما يُعرَف بـ"نظرية الميازما Miasma theory" والتي تفترض بأن جميع الأمراض الوبائية تقريبًا، بما فيها الكوليرا والملاريا والموت الأسود طبعًا، تنتقل عن طريق الهواء الفاسد، أو الهواء المُلوث نتيجةً للفضلات، أو أي شيء عَفِن، حتى وإن كان مجرد رائحة كريهة! اعتُقِد في ذلك الوقت أن استنشاق هذا الهواء سيؤدي إلى الإصابة بالمرض لا محالة.
لمنع فُرص استنشاق "الهواء الفاسد"، ابتكر طبيبٌ فرنسي مشهور يُدعى "شارل دولورم Charles de Lorme"، والذي عمل لصالح 3 ملوك فرنسيين من ضمنهم هنري الرابع، الزي الأيقوني المُكوَّن من عباءة طويلة تمتد من الرقبة إلى الكاحل، وحذاء وقبعة وقفازات مصنوعة من الجلد، وأخيرًا من قناعٍ مُخيفٍ صممه على شكل طائر ذي منقارٍ طوله نصف قدم.
كان الزي مخصصًا ليمنع الهواء الفاسد من ملامسة إلى أي جزءٍ من الجسم، وبالنسبة للتنفس، فزرع الطبيب أعشابًا طبية مُعطّرة بمنقار القناع لتوفّر لمرتديه رائحة طيبة تُضاد الرائحة الكريهة التي قد تكون حاملةً للمرض بحسب اعتقاداتهم الساذجة وقتها.
اعتمد الأطباء فعلاً ارتداء ذلك الزي المخيف، وكانوا يحملون معهم عصاةً ليجسوا بها الجثث الملقاة -من بعيد- حتى يقضوا على أي فرصة إصابة. كان مظهر الأطباء مخيفًا، وبدلاً من أن يُمثلوا رمز الأمل، وُصِموا بـ "رسل الموت"، إذ عندما كان يراهم الأوروبيون، كانوا يعلمون أن أجلهم قد حان وأن موتهم لا مفر منه.
الجدير بالذكر أن الزي لم يكن فعّالاً على الإطلاق لمجابهة الطاعون ومنع انتشاره، حيث كان كثير من الأطباء يُصابون بالوباء، ويموتون مثلهم مثل عامّة الناس، ولكن لا أحد يستطيع أن ينكر كم كان ذلك الرداء أيقونيًا، وحتى يومنا هذا، يتم تصويره على أنه رمزٌ من رموز الكوميديا، وأحيانًا الدراما، الأوروبية السوداء.
اقرأ أيضًا:مرض العضال.. أشهر 5 أسباب وطرق تشخيصه
حقيقة الموت الأسود
مثلما هو بيّنٌ، لم يكن الأوروبيون يفهمون سبب ذلك الطاعون، وكانوا يحاولون علاجه بطرقٍ غريبة وعجيبة. لهذا السبب ظن الكثيرون أن "الموت الأسود" هو عقابٌ إلهي أُريَد به تخليصهم من الخطايا العديدة مثل الجشع والزنا، وسيرًا على هذا المنطق، حاولوا التقرّب إلى الإله وطلب مغفرته، وحتى أنهم كانوا يحاولون تطهير المجتمع من الزنادقة، وأي شخص قد يثير غضب الرب، بأي وسيلة كانت، حتى وإن وصل الأمر إلى الذبح!
بعد تطور الطب والعلوم، أصبحنا نعلم الآن أن "الموت الأسود"، أو كما يُعرَف الآن بـ"الطاعون Plague"، ليس سوى مرض تُسببه جرثومة "اليرسينيا طاعونية- Yersinia pestis"، والتي سُميت كذلك نسبةً إلى عالم الأحياء الفرنسي "ألكسندر يرسين"، والذي اكتشف الجرثومة في نهاية القرن التاسع عشر. كما عرفنا كذلك أن الجرثومة تنتقل عن طريق الهواء، وأيضًا عن طريق لدغات البراغيث والفئران المصابة بها.
وبعد أن كان تسلسل انتشار الوباء المُروّع هذا غير مفهومٍ في أوروبا، أصبحنا نعرف الآن أن الطاعون قد بدأ في ميناء ميسينا فعلاً -بعد المصادر الأخرى تقول تُرجّح مدينة كافا-، ثم انتشر إلى مرسيليا بفرنسا، ومنها إلى تونس وشمال إفريقيا، ومن ثم عاد إلى روما وفلورنسا، وهو ما سهّل انتشاره بعد ذلك لأنهما كانا مدينتين محوريتين في شبكة التجارة البحرية، إذ وصل المرض إلى باريس وليون ولندن وبقية أوروبا.
لا يزال الطاعون موجودًا!
جديرٌ بالذكر أن وباء الطاعون لم يُقضَ عليه تمامًا، وبحسب منظمة الصحة العالمية، فإن حوالي 1000 إلى 3000 شخصٍ يموتون سنويًا بسببه، ولكن بفضل ما وصلنا إليه من تطورٍ طبي وعلمي، أصبحنا قادرين على الحد من آثاره وعلاجه بالأدوية والممارسات الطبية الصحيحة، وليس بحرق الأعشاب العطرية والاستحمام في ماء الورد أو الخل كما كان الأوروبيون يفعلون.