"الإخوة الأعداء".. كيف نشأت إمبراطوريتا "Adidas" و"Puma"؟
في بلدة بافارية تُسمى "هرتسوغن آوراخ- Herzogenaurach" وُلِد الشقيقان "أدولف" و"رودولف داسلر"؛ أطلقا مشوارهما في مجال صناعة الأحذية الرياضية معًا، وكانا على وفاق لولا أن تزعزع، والسبب "Adidas" و"Puma".
الخلاف الذي نشب بين الأخوين "داسلر" كان دراماتيكيًّا إلى حدِّ الموت؛ كلاهما أراد أن يُدفن الآخر بعيدًا عنه قدر المستطاع. جُملة فُهِمَت بشكلٍ خاطئ كانت سبب الخلاف حامي الوطيس، ولكن أغلب الظن أنها لم تكن سوى شرارة حوّلتها غريزة المنافسة والصراع إلى لهيبٍ حارق.
شغف "آدي" وبداية حلم "الداسلرز"
ولد "رودولف" في عام 1898 وخَلَفَه "أدولف"، المعروف بـ "آدي" بين أفراد عائلته وأصدقائه. بعد مرور سنتين، أراد والدهما "كريستوفر داسلر"، الذي عمل في مصنع أحذية ويُعتَقد أن ذلك ما زرع في أولاده حبهم لتلك الصناعة، أن يُلحِق "رودولف" بسلك الشرطة، وأن يشتغل الشقيق الأصغر "آدي" خبّازًا ماهرًا.
"آدي" كان لديه حُلُمٌ مختلف؛ أراد أن يكون رياضيًا، وشارك في عدة مسابقات ليكتسب خبرة مفادها: بالأدوات الصحيحة، أو بالأحرى بالأحذية الرياضية المناسبة، يمكن أن يُحسّن الرياضيون من أدائهم لا سيّما أنه بحث عن أحذية رياضية تنطبق عليها المواصفات التي يفكر فيها ولم يجد ضالته. في تلك اللحظة قرر "أدولف" أن يُصنّع هو حذاءً رياضيًا يُعين مُرتديه على مجهوداته.
من سوء حظ "آدي"، والعالم أجمع بالطبع، أن الحرب العالمية الأولى نشبت بين دول الحلفاء والمحور لتُحطّم آمال صاحبنا وتُجبره على الالتحاق بالجيش. بمجرد انتهاء الحرب ونجاة "أدولف" من ويلاتها في 1918، عاد مُسرعًا إلى منزله واتخذ من حمّام والدته مقرًا لصناعة الأحذية التي لطالما حلم بها، وبمساعدة إسكافيًّا ماهرًا، استطاع "الداسلر" الماهر أن يُصنّع أحذية وصنادل رياضية.
أدولف داسلر يتغلب على تبعات الحرب العظمى
لم يكن طريق "أدولف داسلر" مفروشًا بالورود؛ عانت ألمانيا على المستوى الاقتصادي -مثل بقية الدول- عقب وضع الحرب لأوزارها، ما أدى إلى شُحِّ المواد الخام اللازمة لصناعة أحذية "أدولف" الرياضية. ولكن، لأن صاحبنا كان مدفوعًا بالشغف، فإنه استطاع إيجاد حلول مبتكرة تمثلت في جمع مُعدّات الجيش المبعثرة في أنحاء الريف الممزق، والنتيجة؟ استطاع "أدولف" أن يُصنّع الأحذية من جلود خوذات الجيش المُهملة، والنِعال من قماش المظلات المهترئة!
التحديات لم تتوقف عند المواد الخام فحسب؛ الكهرباء أيضًا كانت مُشكلة عصية، ولكن ليس على "آدي" الذي وصّل آلة دبغ الجلود بدراجة تعمل بدينامو صغير مُستغلاً إياه لكي يحول هذه الدراجة إلى "عجلة إنتاج" استمرت لسنوات.
مصنع الأخوين داسلر
بعد مرور عامين، وبالتحديد في عام 1919، انضم "الداسلر" الأكبر -رودولف- إلى شقيقه المكافح "أدولف" وأسسا مصنع "Gebruder Dassler Schufabrik"، التي تُتَرجم من الألمانية إلى "مصنع أحذية الأخوين داسلر". تولَّى "رودولف" مسؤولية المبيعات والمهام التسويقية، بينما أكمل "أدولف" -بطبيعة الحال- مسيرته الفنية في صناعة الأحذية.
في العشرينيات، بدأ الشقيقان الألمانيان في صناعة "موديلّات" تُشبه أحذية كرة القدم التي نعرفها اليوم. تلك "الموديلّات" كانت مصنوعةً من الجلد، وكانت تتميز بالنتوءات المألوفة لدى أي شخصٍ على دراية بكرة القدم -كانت ابتكارًا وقتها-، ورُغم ذلك كانت خفيفة الوزن ومرنة في الحركة. في ذلك الوقت كانت القدرة الإنتاجية للمصنع محدودة بـ 50 حذاءً في اليوم، وعدد العمال بالكاد يصل إلى 12 عاملاً.
اقرأ أيضًا:كيف امتلكت "بيبسي" سادس أقوى جيش في العالم؟
البداية الحقيقة لأحذية "الداسلرز"
في دورة الألعاب الأولمبية التي أُقيمت في أمستردام عام 1928، ارتدت العدّاءة الألمانية وأول بطلة أولمبية في سباق الـ 800 متر للسيدات "لينا رادكي- Lina Radke" حذاء الأخوين، وحققت الميدالية الذهبية لتُثبت اعتقاد "أدولف" بأن الأحذية الرياضية الصحيحة يُمكن أن تُحسّن من الأداء. تبع ذلك الإنجاز إنجازان آخران في دورتي الألعاب اللتين أُقيمتا في لوس أنغلوس 1932 وبرلين 1936.
نسخة برلين كانت استثنائية بحق؛ فيها ارتدى العداء الأمريكي الشهير "جيسي أوينز- Jesse Owens" حذاء "الداسلرز" وفاز بـ 4 ميداليات ذهبية، ووصل إجمالي عدد الميداليات التي فازت بها الأحذية وقتها إلى 7 ميداليات ذهبية و4 فضيات.
أدى ارتباط اسم "جيسي أوينز" بالأخوين "داسلر" وأحذيتهما إلى زيادة المبيعات بشكل جنوني "كانت لتتوحش أكثر لولا الحرب العالمية الأولى"؛ المصنع الصغير أصبح مصنعًا عالميًا ووجهة لأي رياضي يُريد أن يُحسّن من أدائه، وبذور الصراع بين الأخوين بدأت تكبر شيئًا فشيئًا.
نشأة Adidas وPuma بسبب "سوء تفاهم"!
قطعت الحرب العالمية الثانية نجاحات أحذية "الداسلرز" -مؤقتًا- ونظرًا لأن ألمانيا كانت تحارب القوى العظمى وقتها، بل كانت وزعيمها النازي "هتلر" السبب الرئيس في اندلاع الحرب من الأساس، فُرِضَ على جميع المصانع أن تُوجّه نشاطاتها ومجهوداتها صوب صناعة السلاح. هذه المرة كان "رودولف" هو من التحق بالجيش، في حين أن "آدي" ظل بالشركة ليديرها.
عادت مشكلات نقص المواد الخام، وبخاصة نقص الجلود مُجددًا، ولكن نظرًا للمكانة التي وصل إليها مصنع الأخوين، لم تُشكل هذه المشكلة عائقًا وكان المصنع الوحيد في ألمانيا الذي يبيع الأحذية الرياضية للاعبين، هذا والحرب العالمية الثانية كان أمامها عامين حتى تضع أوزارها.
بدأ شِقاق الأخوين مع نهاية الحرب في عام 1945، والأسطورة تقول إنّ استقرار الأخوين معًا في المنزل نفسه خلق صراعات بينهما وبين زوجيهما. يُقال إنه في ذات يوم، وفي أثناء هجوم بالقنابل، اختبأ "أدولف" وزوجته في ملجأ مضاد للقنابل وما أن أقدم عليهما "رودولف" وزوجته حتى قال "آدي": "لقد عاد الأوغاد القذرون" في إشارة إلى طائرات العدو المُقاتلة. بحسب الشائعات، فسّر "رودولف" هذه الجملة على أنها اتهام له ولعائلته مما قطع حبل الود بين الأخوين.
سر تسمية "Adidas" و"Puma"
أدى هذا الشقاق -في عام 1948- المبنيّ على سوء التفاهم، وربما على مشكلات أخرى، إلى انقسام شركة "داسلر" وتأسيس إمبراطوريتين من الأضخم في العالم حتى يومنا هذا؛ "أديداس- Adidas" و"بوما- Puma"، ولكن لحظة؛ ما سر هذين الاسمين؟ قبل أن نعرف الجواب، من المهم أن نعرف أن جميع موظفي الشركتين، وجميع سكان البلدة البافارية الصغيرة "هرتسوغن آوراخ- Herzogenaurach" خُيّرا بين الانضمام إلى "أدولف" أو "رودولف"، وبطبيعة الحال اختار كُل موظّف شركته الجديدة حسب آلية تفكير صاحبها.
أسس الأخ الأكبر، "رودولف"، شركته أولاً وأسماها "Ruda"، حيث أخذ أول حرفين من اسمه الأول "Rudolf" وجمعهما بأول حرفين من اسم عائلته "Dassler"، وهذا قبل أن يتحول اسم الشركة إلى "Puma"؛ أحد أنواع النمور التي تتمتع بالرشاقة وخفة الحركة.
بعد تأسيس "Puma" بحوالي عام تقريبًا، أسس "أدولف" الشركة الغنية عن التعريف "Adidas" على نفس نهج التسمية الذي اتبعه "رودولف"؛ بأن جمع اسم شهرته "آدي- Adi" بأول 3 أحرف من اسم العائلة "Dassler" لتكون "Adidas".
انقلب الوئام إلى عداوة مُتطرفة كانت تجعل من أي شخص يرتدي حذاء "Adidas" غير مُرحب به في شركة "Puma" والعكس صحيح. استغل كثير من العمال هذه الثغرة ليحصلا على أحذية مجانية، حيث كانوا يدخلون على "رودولف" الشركة مُتعمدين إبراز أحذية "Adidas" فيغتاظ "رودولف" ويعطيهم أحذية "Puma" مجانًا ليرتدوها في المصنع.
اقرأ أيضًا:كم عامًا يستغرقها إيلون ماسك كي يستنفد ثروته إذا أنفق مليون دولار يوميًا؟!
الأحفاد لا يأبهون بعداوة أجدادهم
لم يؤدِّ شطر الشركة الأم إلى "Adidas" و"Puma" إلى إصلاح الشقاق بين الأخوين، فالمصلحة ظلت مشتركة والمنافسة بقيت مُحتدمة؛ على المستوى الشخصي وعلى مستوى "البزنس". جديرٌ بالذكر أن الشركتين لا يُداران الآن بواسطة أحفاد الأخوين، فـ "Puma" تُدار بواسطة شركات مختلفة، في حين تنتمي "Adidas" إلى عددٍ من المساهمين.
المفاجأة أن بعض المؤرخين يعتقدون أن الأخوين تصالحا، ولكنهما لم يُخبرا أحدًا، حتى زيجاتهما، لأن ذلك كان سيضر العمل، ولكن بغض النظر عما إذا كان هذا صحيحًا، فالمؤكد أن الأحفاد لم يكونوا أعداء، على الأقل ليس كالأخوين "داسلر".
على سبيل المثال، فرانك داسلر، وهو حفيد رودولف داسلر، كَبُرَ وهو يرتدي أحذية جده "Puma"، ولكنه سرعان ما غير الدفة نحو "Adidas" وعمل بها مستشارًا قانونيًّا، بالطبع واجه كثيرًا من الاستنكار والمعارضة، ولكنه ببساطة لم يُبالِ وقال: "العداوة حدثت منذ سنوات كثيرة، إنها الآن مجرد تاريخ".
أما حفيد أدولف داسلر؛ هورست داسلر، فباع شركة جَده في عام 1987 لرجل الأعمال الفرنسي "برنار تابي- Bernard Tapie".
من فاز في النهاية: Adidas أم Puma؟
لا شك أننا إذا كنا نتحدث من ناحية الأرقام، فشركة "Adidas" تتفوق، وباكتساح، بل في الواقع لا يجب أن تكون هناك مقارنة وربما لو كان "رودولف" حيًا لمات قهرًا؛ فـ"Adidas" حققت صافي ربح 674 مليار يورو في 2020، بينما لم تحقق "Puma" سوى 229.7 مليون دولار، ولكن هل هذا ينفي مكانة "Puma"؟ بالطبع لا، هو فقط يؤكد أن "Adidas" عملاقة.
بالمناسبة، تُصنّع شركة "Puma" الآن الملابس الرياضية لمُعظم الرياضيات تقريبًا بدايةً من كرة القدم وحتى الغولف، وترعى أشهر الأسماء الرياضية المعروفة مثل "نيمار"، و"سواريز"، ونادي مانشستر سيتي، ناهيك أنها كانت الراعي الرسمي لأسطورة السباقات الألماني "شوماخر"، ومنذ أوائل الألفية الجديدة وهي الراعي لأسرع رجل في العالم الجامايكي "يوسين بولت".
أما "Adidas" فأعتقد أن أرقامها تتحدث عنها؛ يكفي أن الاتحاد الدولي لكرة القدم "FIFA" فضّلها عن "Puma" و"Nike" وغيرهما لتكون على رأس قائمة الشركاء "Partners"، وذلك منذ عام 1970. لا تقتصر مُنتجات "Adidas" على الملابس الرياضية فحسب، وإنما على المعدات كذلك، وبالأخص المُعدات الخاصة بكرة القدم.