"يرتاده 3 ملايين زائر سنويًا".. التاريخ المُظلم لجبل راشمور
في قلب منطقة "بلاك هيلز" بولاية داكوتا الجنوبية في الولايات المتحدة الأمريكية، يَبرُز جبل شامخ بوجوهٍ أربعة منحوتة عليه.
من اليسار، "جورج واشنطن" أول رئيس للولايات المتحدة، يليه "توماس جيفرسون" ضاعف تقريبًا من مساحة البلاد بضمه للويزيانا. ثم يأتي "ثيودور روزفلت" لدوره في بناء قناة بنما، وزيادة قوة أمريكا الاقتصادية، وأخيرًا "أبرهام لينكولن" الرئيس الذي وحّد أمريكا وألغى العبودية.
يُعرف هذا الجبل، الذي يعد أحد أشهر المعالم الأيقونية في تاريخ أمريكا، ويرتاده سنويًا حوالي 3 ملايين زائر، بـ "جبل راشمور- Mount Rushmore"، وعلى الرغم من شكله المهيب، فإنّ تاريخه مُلطخ بالعار والسوداوية؛ إذ بُني على الأراضي المقدسة للسكان الأصليين، ونَحَتَهُ رجل ارتبط اسمه بجماعة "الكو كلوكس كلان" العنصرية.
بناء على أنقاض السكان الأصليين
قبل أن يُعرف بجبل راشمور، أسمته قبائل لاكوتا -من قبائل السكان الأصليين- بجبل الأجداد الستة، وكانوا يتخذونه مكانًا مُقدّسًا للصلاة والعبادة.
وفي القرن التاسع عشر، ومع بداية زحف المستوطنين البيض واستيلائهم على أراضي الهنود الحمر، نشبت حربٌ للاستيلاء على تلك المنطقة، وُقِّعت على إثرها معاهدة "فورت لارامي- Fort Laramie" للاعتراف بأحقية مُلك السكان الأصليين لمنطقة "بلاك هيلز".
ولكن خلال عِقد واحد فقط، يكتشف أحد المستوطنين البيض ذهبًا في "بلاك هيلز" ليتم نقض المعاهدة، وتستولي الولايات المتحدة في عام 1877 على الأراضي المقدسة لقبائل لاكوتا.
وفي عام 1884 يزور محامٍ أمريكي المنطقة لإبرام صفقة متعلقة بمنجمٍ للقصدير، اسمُ هذا المحامي كان "تشارلز راشمور" ونسبةً إليه سُمّى الجبل بهذا الاسم.
مشروع جبل راشمور
في عام 1914، تلقى نحَّات أمريكي مُتعجرف يُسمى "جوتزون بورجلوم" دعوةً من رئيسة اتحاد بنات الكونفدرالية المتحدة -سابقًا-، هيلين بلين، لبناء ضريح ضخم للقائد العسكري "روبرت إدوارد لي" بمنطقة "بلاك هيلز".
كانت "هيلين" مؤيدةً لجماعة "الكو كلوكس كلان" المتطرفة، التي تُكِن كل العداء لذوي البشرة السمراء، ويُعتَقد أنها -هيلين- اختارت "بورجلوم" بالتحديد لارتباط اسمه بهم، وذلك استنادًا إلى ما كتبته لـ"بورجلوم" في عام 1915 مُعترفةً بإيمانها بأن الجماعة قد "أنقذتهم من هيمنة السُود".
ومع بدء عملية البناء، تواصل "بورجلوم" مع رئيس جماعة "الكو كلوكس كلان" السابق، ديفيد كيرتس ستيفنسون، وتبادلا خطابات حول تفوق دول الشمال والسكان البيض على السود. ولكن لاحقًا، أُدين "ستيفنسون" بجريمة اغتصاب وتم التخلي عن "بورجلوم"، وتقريبًا عن المشروع كله.
تمر الأيام ويرى المؤرّخ الأمريكي لولاية داكوتا الجنوبية، "دون روبنسون"، أن هذه الولاية تستحق أن تكون مزارًا للسياح، فيتواصل مع "جوتزون بورجلوم" مرة أخرى للعمل على مشروعٍ يهدف إلى نحت وتخليد أشهر الوجوه في ذلك الوقت مثل قائد قبيلة لاكوتا الشهير، "ريد كلاود"، على جبل راشمور.
يوافق "بورجلوم" على تولي المشروع ويبدأ العمل على نحت جبل راشمور -أخيرًا- في أغسطس من عام 1925، ولكن ليس بالطريقة التي تصورها "روبنسون"، وإنما بطريقته هو وذلك بنحت وجوه الرؤساء الأربعة -الذين يُشكلون الجبل الآن- لإيمانه بأن الفن الأمريكي يجب أن يُخلّد الإنجازات الأمريكية المتمثلة في هؤلاء الرؤساء.
اقرأ أيضًا:أفضل الأماكن السياحية في نيبال.. بينها جبل إيفرست
خزانة راشمور وسلسلة من المؤامرات
بعد توليه المشروع، ظل بورجلوم -لسنوات- يطلب من الحكومة الفيدرالية آنذاك أن تموله، وبالمناسبة لم يكتمل بناء جبل راشمور بالصورة التي تخيلها النحَّات المُتعجرف حتى يومنا هذا.
إذ إن "جوتزون بورجلوم" كان يحلم بنحت أجساد الرؤساء الأربعة، وليس وجوههم فقط، حتى خصورهم، أضف إلى ذلك أنه في عام 1938 فجَّر نفقًا بطول 70 قدمًا خلف أوجه الرؤساء لبناء ما أسماه بـ "قاعة السجلّات- Hall of Records" وذلك للاحتفاظ بداخلها بكل الوثائق المهمة في تاريخ الولايات المتحدة مثل إعلان الاستقلال، ولكن ذلك النفق لم يكتمل أيضًا.
وفي السادس من مارس عام 1941، توافي المنية "بورجلوم"، ويستكمل ولده العمل على المشروع، والذي أُعلِن رسميًا في أكتوبر من نفس ذلك العام أنه قد اكتمل.
ظل النفق الذي حَلُم "بورجلوم" ببنائه مُهملًا حتى عام 1998، وذلك عندما وُضِعت خزانة من التيتانيوم هناك وبداخلها الكثير من الوثائق التي تتحدث عن تاريخ الولايات المتحدة ورؤسائها. وجدير بالذكر أن العامة ليس مسموحًا لهم الاطلاع على ما في هذه الخزانة، ولهذا السبب قد دارت حولها الكثير من نظريات المؤامرة.
الحقيقة المظلمة وراء جبل راشمور
بغض النظر عن أن نحو 400 عامل، من الرجال والنساء، قد وافقوا على العمل تحت ظروف قاسية مُعرّضين حياتهم للخطر؛ إذ تم استخدام الديناميت لنحت 90% من جبل راشمور، لكن المشكلة الحقيقية والتاريخ الأسود لا يكمن هنا فحسب.
جميع الرؤساء الأربعة المنحوتةُ وجوههم على الجبل امتلكوا ماضيًا أسود بسبب تشريعاتهم ضد السكان الأصليين؛ فـ"جورج واشنطن" مثلًا لُقِّبَ بـ "مُدمّر المدينة- Town Destroyer" وذلك لشن هجمات عسكرية أحرقت 50 قرية من قُرى السكان الأصليين في عام 1779، بينما ضيّقت إدارة "لينكولين" الخناق على الهنود الحمر. وفي عام 1863، أشرفوا على تهجير قبائل السكان الأصليين من إقليم نيو مكسيكو ليموت أكثر من 2000 شخص إثر ذلك لاضطرارهم لقطع مسافة 450 ميلاً سيرًا على الأقدام.
أما بالنسبة لـ"توماس جيفرسون" و"ثيودور روزفلت"، فالأول هجَّرهم أيضًا واحتل أرضهم، والثاني كان يحتقرهم ويراهم أقل شأنًا من الأمريكيين البيض، ويكفي تصريحه الشنيع فور توليه الحكم في عام 1901 عندما قال: "لن أبالغ وأقول إن جميع الهنود الحمر الجيدين قد ماتوا، ولكني أعتقد أن 9 من كل 10 ينطبق عليهم ذلك".
اقرأ أيضًا:قيرغستان بلاد الجبال السماوية في انتظارك
محاولات السكان الأصليين لاستعادة أراضيهم
في عام 1980 رفع السكان الأصليون دعوى قضائية ضد الولايات المتحدة لانتهاكها المعاهدات وبناء جبل راشمور المُدنِس لتاريخهم والأدهى من ذلك أنه على أراضيهم. وبالفعل، قضت المحكمة العليا بأن أراضي "بلاك هيلز" قد تم الاستيلاء عليها عُنوةً، وحُكِمَ للسكان الأصليين بتعويض تجاوز المليار دولار وقتها، ولكن الهنود الحُمر رفضوا ذلك التعويض المادي، مؤكدين أن أراضيهم ليست للبيع أصلاً.
طرح هذا الرفض سؤالاً مُهمًا للغاية وهو: ماذا يجب أن يكون مصير جبل راشمور والأرض التي بُنيت عليه؟ البعض رأى أن الجبل يجب أن يُنسَف، وكان أبرز المؤيدين لهذا الرأي حفيدة "بورجلوم" نفسها، بينما رأى آخرون أن الجبل لا يُمكن المساس به لكونه رمزًا وطنيًا واقتصاديًا بامتياز، في حين أن طرفًا ثالثًا يرى أن شعب لاكوتا والولايات المتحدة عليهم أن يتشاركا الإدارة بالتساوي.
حتى الآن من المفترض أن تظل الأمور كما هي عليها، ولا يتم المساس بجبل راشمور، ما يعني أن وجوه الرؤساء الأربعة ستظل مُخلَّدة على أراضي الهنود الحُمر لآلاف من السنوات القادمة.
ولكن لحُسن حظ السكان الأصليين، فوزيرة الداخلية الأمريكية الآن "ديبرا هالاند" هي واحدةٌ منهم، وبالمناسبة لم يسبق لأحد من السكان الأصليين أن يتولّى منصبًا وزاريًّا من قبل، ناهيك أن "ديبرا" تُشرف الآن على 450 مليون فدان من الأراضي الفيدرالية التي انتُهِك الكثير منها وحُنِّثَ بمعاهداتها، مثلما حدث مع أراضي "بلاك هيلز".
ومع استمرار مطالبات من تبقى من الهنود الحمر باستعادة أراضيهم، وتمسكهم بأمل هدم جبل راشمور الذين يرونه تدنيسًا لماضيهم، فقد يتم فعلاً هدم هذا الصرح الذي يقدسه بعض الأمريكيين، على أن ذلك غير متوقع إطلاقًا في الوقت الراهن.