ما أطول فترة يمكن أن يقضيها الإنسان دون نوم؟
من بين العديد من الأرقام القياسية الخطرة، قررت موسوعة "غينيس" في عام 1997 ألّا تُدرج أي رقمٍ قياسي جديد "لأطول فترة استيقاظ"، مُعتبرةً الرقم المُسجل باسم "روبرت مكدونالد"، والمُقدر بـ 18 يومًا و21 ساعة و40 دقيقة، هو أطول مُدة يمكن لبشريّ أن يقضيها دون أن ينام، مع اعتراف الموسوعة بأن هذا الرقم لم يُكسر حتى يومنا هذا، ولكن السؤال هو: "لماذا فعلت موسوعة غينيس ذلك"؟
منسقو الموسيقى يتحدون النوم
تعود أولى محاولاتنا لتوثيق أطول فترة استيقاظ ممكنة في موسوعة "غينيس" إلى خمسينيات القرن الماضي، وبالتحديد إلى عام 1959، وذلك عندما حاول مُنسق موسيقيّ (DJ) أمريكي يُدعى "بيتر تريب" أن يفوز بهذا الرقم القياسي الجديد من نوعه ويُسجله باسمه، ولكن المشكلة أنه في تلك الفترة تقريبًا، كان هناك مُنسق موسيقي آخر يُدعي "ديف هنتر"، بدأ رحلته لتحقيق هذا الرقم قبل "بيتر" بساعتين، ورُغم ذلك انتصر عليه.
استطاع كلٌ من "ديف" - البالغ من العمر 23 سنة - و"بيتر" - ذو الـ 32 عامًا - أن يكسرا حاجز الـ 140 ساعة دون نوم مُدّعيين أنهما بخير، مع العلم أن "ديف" لم يتناول أي مُنبهات، بعكس "بيتر" الذي اعتمد على عقار "الريتالين" الذي نصحه به الأطباء عندما كاد أن يستسلم للنوم.
يقول "بيتر" واصفًا عقار الريتالين: "إنه رائع؛ فبعد 60 دقيقة من تناوله جعلني أشعر كأن الخمسة أيام التي قضيتها مُستيقظًا قد مُحيّت تمامًا". جاء هذا الاقتباس في وقت مُبكر جدًا؛ إذ بعدها بفترة قليلة تهيجت عواطف "بيتر"، وأُصيب بجنون العظمة، كما أن إدراكه بدأ في الخفوت تدريجيًّا، ناهيك عن أنه عانى من الهلوسات والأوهام.
وسُرعان ما دخل "بيتر" في حالة من الريبة، وبدأ يتساءل عن هويته، ويشك في الأطباء الذين كانوا يتابعونه يوميًّا ليرفض بعد ذلك أن يتعاون معهم ويتهمهم بالتآمر لسجنه. إثر هذه الأعراض، شُخّص "بيتر" بمرض "الذهان الليلي" Nocturnal psychosis.
جدير بالذكر أن "بيتر" قد خارت قواه بعد انقضاء 201 ساعة "8 أيام و9 ساعات" ليغط في نومٍ عميق استمر لمدة 13 ساعة، إضافة إلى ذلك، صرّح طبيبٌ يُدعى "ويليام ديمينت" - أحد الأطباء الذين كانوا يتابعون "بيتر" - أن عقار الريتالين كان السبب الرئيس لتدهور حالته وإصابته بجنون العظمة والهلوسة اللتين عاناهما.
على الجانب الآخر، استطاع الشاب اليافع "ديف هنتر" أن يكسر رقم "بيتر تريب" بفارق يوم كامل ليستسلم للنوم بعد 225 ساعة "9 أيام و9 ساعات" من الاستيقاظ المُضني.
يجدر بالذكر أيضًا أن "ديف" لم يُعانِ مثل "بيتر"، ربما لأنه أصغر سنًا أو لأنه لم يتناول الريتالين، ولكن على كُلِ حال، استطاع مُنسقٌ موسيقي ثالث -لا نعرف ما شأن منسقي الموسيقى وهذا الرقم القياسي حقيقةً- يُدعى "توم راوندس" أن يكسر رقم "ديف" في نفس العام بعدما استيقظ لمدة 260 ساعة كاملة "10 أيام و20 ساعة".
طيش مراهقين يقود أحدهما للاستيقاظ لمدة 11 يومًا
في عام 1963، طرأت فكرة طائشة على مُراهقين يُدعيان "راندي جاردنر" و"بروس مكاليستر"، إذ قرر المراهقان أن يتحديا أنفسهما بالاستيقاظ لأطول فترة ممكنة كتجربةٍ لمشروع علمي - في مدرستيهما - غرضه معرفة كيف يتصرف الدماغ عندما يُحرَم تمامًا من النوم.
وفي تصرفٍ يدل على الرعونة، اتفق المراهقان على أن يرميا عملة معدنية في الهواء والمُخطئ في التنبؤ بنتيجتها سيقوم بتنفيذ هذا التحدي. اختارت الصُدفة "جاردنر" وقُدّر له أن يُنفذ التحدي، ولكن المثير للسخرية أن "مكاليستر" ظل مُستيقظًا ليراقب صديقه، ولكن بعد مرور عدة ليالٍ لم يقاوم النوم واستسلم له.
ودون الاعتماد على أي نوع من المُنبهات عدا "الكوكاكولا"، والموسيقى العالية، والاستحمام بالماء البارد، استطاع "راندي جاردنر" أن يكسر الرقم القياسي المُسجّل باسم "توم راوندس" باستيقاظه لـ 264 ساعة متواصلة "11 يومًا".
ولكن بإلقاء نظرة سريعة على الحالة التي كان يمر بها "راندي"، ووفقًا للطبيب "جون روس" الذي كان يُتابع حالته الصحية على مدار 8 أيام، فإنه بحلول اليوم الرابع عانى "جاردنر" من الهلوسة والأوهام، إضافة إلى مشكلات أخرى كثيرة أبرزها نقص الانتباه بشكل حاد.
وفي خلال الأيام الثلاثة الأخيرة من التجربة، تولّى دكتور ديمينت - الطبيب الذي كان يُتابع حالة بيتر تريب - جاردنر، وحاول أن يُلهيه بأنشطة مثل كرة السلة وألعاب الآركيد، وعلى الرغم من الأداء الجيد الذي قدمه "جاردنر" في هذه الألعاب، فإنَّ الطبيب لاحظ انخفاض قدراته العقلية "على مستوى الإدراك والذاكرة والقدرات التحليلية" والحركية، فضلاً على انخفاض الشغف.
وبعد مرور سنوات عديدة، وبالتحديد في عام 2017، صرّح "جاردنر" في لقاء إعلامي بأن الأمر كان أشبه بالإصابة بألزهايمر في سنٍ مبكرة، وأضاف عندما أُصيب بالأرق: "لقد توقفت عن النوم، لم أستطع أن أنام، كنت أستلقي على السرير لخمس أو ست ساعات دون أن أنام سوى 15 دقيقة ثم أستيقظ مُجددًا. ظننت أن هذا الأمر سينتهي، ولكن ذلك لم يحدث".
وفي عام 2018، قال "بروس مكاليستر" لإذاعة BBC: "لقد كنا حمقى، أنتم تعرفون الحمقى اليافعين -قاصدًا ما يرتكبونه من حماقات-".
الرقم القياسيّ الحالي
في عام 1974 كسر شاب إنجليزي رقم "راندي جاردنر" القياسي باستيقاظه لمدة 288 ساعة متواصلة "12 يومًا"، وبالطبع عانى الهلوسات والأوهام.
بعده بثلاثة أيام، كسرت "مورين ويستون" الرقم القياسي، بل في الواقع حطمته؛ إذ استيقظت لمدة 449 ساعة "18 يومًا و17 ساعة"! ولكن، الرقم القياسي المُسجّل إلى يومنا هذا الذي قررت موسوعة "غينيس" ألّا تُسجل بعده أي رقمٍ قياسي مُشابه، يعود إلى "روبرت ماكدونالد" الذي استطاع أن يتخلى عن النوم لمدة 453 ساعة و40 دقيقة "18 يومًا و21 ساعة و40 دقيقة".
لماذا توقفت غينيس عن متابعة / تسجيل أرقام قياسية جديدة لأطول فترة دون نوم؟
وفقًا للصفحة الرسمية لموسوعة "غينيس"، فإنه على الرغم من اختلاف الآثار المترتبة على الأشخاص الذين حاولوا التخلي عن النوم لأطول فترة ممكنة، فإنّ هناك قاسمًا مُشتركًا بينهم جميعًا يتلخص في الجملة الآتية: "التخلي عن النوم يضر الجسد والعقل، حتى وإن كان لفترات قصيرة، ومن الممكن أن يصل الضرر إلى الحد الذي يُصاب فيه الأشخاص بأمراضٍ نادرة ومميتة مثل الأرق العائلي القاتل Fatal Familial Insomnia؛ وهو اضطراب خطير يُتلف الدماغ وقد يسبب الوفاة".
المثير في الأمر أن موسوعة "غينيس" تقول إن هناك أسبابًا أخرى منعتها من متابعة هذا الرقم، وأحد أهم هذه الأسباب المُدهشة يتمثل في أن البشر يمرون بفترات "نوم صُغروية" أو Microsleeps في أثناء استيقاظهم المُشَاهَد، وهذه الفترات تدوم لثوانٍ معدودة ويكون من الصعب جدًا أن يتم تتبعها، وهذا بحسب العديد من الدراسات التي خرجت في فترة الستينات والسبعينات.
ويُعتَقد أن جميع من حققوا أرقامًا قياسية في الاستيقاظ لأطول فترة ممكنة، قد مروا بفترات النوم الصُغروية هذه، حتى أن دكتور "ديمينت" يعتقد أن "راندي جاردنر" قد مر بهذه الفترات أثناء متابعته له، وذلك بالرغم من رفضه لهذا الأمر في البداية.
وبوضع حقيقة "فترات النوم الصُغروية" في الاعتبار، يُمكننا أن نقول إن أطول مُدة زمنية يستطيع الإنسان أن يقضيها دون أن ينام هي أقل من 19 يومًا، ومرة أخرى وبحسب موسوعة غينيس، لم يستطع أحدٌ إلى يومنا هذا أن يكسر رقم "روبرت ماكدونالد" القياسي المُسجل بـ 18 يومًا و21 ساعة و40 دقيقة.