قصة النجار الذي حاول اغتيال هتلر
الرجل: دبي
يروي فيلم جديد بدأ عرضه في ألمانيا هذا الشهر قصة غيورغ ألسر، وهو نجار يعمل في بلدة صغيرة جنوبي البلاد، ومحاولته اغتيال الديكتاتور أدولف هتلر في الأيام الأولى من الحرب العالمية الثانية.
ففي الثامن من شهر تشرين الثاني / نوفمبر 1939 – أي بعد اندلاع الحرب بشهرين فقط – كان هتلر يلقي كلمته السنوية في قاعة لشرب البيرة في مدينة ميونيخ الألمانية الجنوبية. ودرج هتلر على القاء كلمة في أنصاره تخليدا لذكرى محاولة الانقلاب الفاشلة الذي قاده في ميونيخ في هذا التاريخ عام 1923.
واستخدم هتلر الكلمة التي القاها عام 1939 للسخرية من اعدائه الدوليين وللتبجح بالانتصارات التي حققتها القوات الألمانية في الايام الأولى من الحرب (ضد بولندا).
ولكن الأمر الذي لم يكن هتلر أو كبار مسؤولي الحزب النازي أو جمهور الحضور يعرفونه هو أن قنبلة معدة للانفجار كانت مزروعة على مسافة أقدام فقط من المنصة التي كان الديكتاتور يعتليها.
وكانت القنبلة التي أعدها وزرعها ألسر خلسة على مدى أسابيع قد جرى تصميمها بشكل محكم، فقد بطن جهاز التوقيت الخاص بها بالفلين لاخفاء صوته. وكان ألسر قد بدأ يخطط لاغتيال هتلر في العام السابق بعد أن وصل الى قناعة بأن “الحرب لا مناص منها” ما دام هتلر يقود البلاد.
ودرج هتلر على القاء كلمته السنوية في نفس التوقيت، ولكن في هذه المرة غادر المكان قبل الوقت المحدد وعجل بالعودة إلى العاصمة برلين للاجتماع بقادته العسكريين.
وبعد 13 دقيقة من مغادرته القاعة، انفجرت القنبلة مسببة مقتل 8 أشخاص ودمارا هائلا، فقد انهار سقف القاعة وهوى على المكان الذي هتلر يلقي كلمته منه قبل دقائق فقط بحسب BBC.
وكانت الدقائق الـ 13 الحرجة تلك هي العنوان الذي أطلق على الفيلم عن ألسر الذي أخرجه اوليفر هيرشبايغل، وهو مخرج فيلمي السقوط (عام 2004) وديانا في عام 2013.
وبفضل هذه الصدفة العجيبة تمكن هتلر من النجاة وقيادة ألمانيا لخمس سنوات أخرى من الحرب التي سببت خرابها وخراب معظم القارة الأوروبية ناهيك عن آسيا.
ووصفت صحيفة فولكيشر بيوباختر – الصحيفة الناطقة باسم الحزب النازي آنذاك – ما جرى بأنها “معجزة خلاص الفوهرر (الزعيم).”
ورغم أن النظام النازي كان سيستمر بدون هتلر وغيره من الزعماء الذين كان ألسر يأمل بقتلهم في محاولته، على الأقل على المدى القصير، فإن المؤرخين يعتقدون بأن مقتله عام 1939 كان سيقصر أمد الحرب ويحول دون وقوع “محرقة اليهود” التي راح ضحيتها الملايين.
ولكن ما هي الطريقة التي نفذ بها غيورغ ألسر خطته، ولماذا فكر أصلا باغتيال هتلر؟
حاول الجستابو (الشرطة السرية) التوصل إلى أجوبة لمثل هذه التساؤلات بعد أن القت القبض على ألسر وهو يحاول الهرب الى سويسرا بعد وقت قصير من تنفيذ المحاولة وعثرت في جيوبه على وثائق تدينه.
وأكتشفت في ستينيات القرن الماضي محاضر جلسات الاستجواب المطولة التي أخضع لها، والتي شرح فيها لوكلاء الجستابو المشدوهين تفاصيل خطته.
فقد كان ألسر قد بدأ تجاربه على المتفجرات عندما كان يعمل لصالح شركة لإنتاج الأسلحة قرب بلدته في منطقة سوابيا جنوبي المانيا.
بعد ذلك، وجد عملا في قاعة بيرغربراوهاوس للبيرة في ميونيخ، وهي القاعة التي اعتاد هتلر على إلقاء كلمته السنوية فيها. واستغل ألسر خبرته في النجارة والحدادة في إيجاد مكان لاخفاء قنبلته.
فلأكثر من 30 ليلة كان يصل إلى القاعة في وقت متأخر، ثم يخفي نفسه إلى بعد أن تغلق القاعة أبوابها ويبدأ بالعمل طيلة الليل في حفر العمود الأقرب إلى منصة الخطابة من أجل إخفاء القنبلة فيه. وكان عمله متقنا الى أبعد الحدود.
وقال ألسر للجستابو إنه بما أن “أخفت صوت كان له صدى في القاعة الخالية ليلا” فإنه كان يوقت العمليات التي كانت تصدر صوتا عاليا مع وقت انطلاق مياه المراحيض تلقائيا كل 10 دقائق.
ومع ذلك، كان عمل ألسر معرضا للكشف في أي لحظة، فقد كتب المؤرخ روجر مورهاوس في كتابه “اغتيال هتلر” والذي يروي قصة محاولة ألسر “كان عليه كتم كل صوت، والتخلص من كل قطعة نشارة.”
أما الجستابو، فقد كانت مقتنعة بأن ألسر عضو في مجموعة أو جهة خارجة كالمخابرات البريطانية، ورفضت أن تصدق بأنه يعمل لحساب نفسه فقط.
وحتى بعد الحرب، ولعدة عقود، كان يعتقد أن السر كان جزءا من مخطط كبير، ولكن، وكما قال ايان كيرشو كاتب سيرة هتلر، “الحقيقة كانت أقل تعقيدا من ذلك، الا انها كانت أكثر إثارة.”
ويقول كيرشو “ألسر كان انسانا المانيا عاديا من الطبقة العاملة يعمل دون مساعدة أو علم أحد.”
فرغم التحاقه لفترة قصير بجماعة شيوعية، لم تكن له أي ميول سياسية واضحة، ولكنه – وكما يقول مورهاوس – “كان يتمتع بشعور طاغ بالعدالة.” وكان علاوة على ذلك يشعر بالقلق إزاء المشاكل التي تواجهها الطبقة العاملة في ألمانيا الهتلرية.
فمنذ استيلاء النازيين على السلطة، بدأ ألسر بابداء معارضته لهم عن طريق تعبيرات وايماءات صغيرة مثل رفضه ابداء الاحترام المتوقع عندما تذاع خطب هتلر عبر الأثير.
وفي أواخر الثلاثينيات، وبعد أن احتل النازيون النمسا وجزء من تشيكوسلوفاكيا وضموها الى المانيا، بدأ ألسر يشعر بالقلق ازاء توجه هتلر نحو الحرب.
وكان يعلم بأن قنبلته ستقتل عددا كبيرا من البشر، ولكنه قال “أريد من خلال عمليتي أن أمنع سفك المزيد من الدماء.”
ولم يعدم ألسر فورا كما كانت العادة في المانيا الهتلرية، بل احتجز في معسكر للاعتقال ولم ينفذ فيه حكم الإعدام إلا عام 1945 عندما كانت الحرب تشرف على الانتهاء، مما أثار تكهنات حول الجهة التي كان يعمل لأجلها وحول ما اذا كان من الممكن أن يكون عميلا للنازيين وأن الغرض من عمليته الفاشلة كان تعزيز شعبية هتلر.
وفعلا نبذ سكان بلدته عائلته لعدة عقود، في جزء من الرد الألماني المتسم بعقدة الذنب إزاء مسألة المقاومة ضد النازيين.
ويقول يوهانس توشل، الذي شارك في كتابة سيرة ألسر ومدير مركز ذاكرة المقاومة الألمانية في برلين “كان ينظر الى كل الذين يقاومون النازيين بوصفهم خونة ليس إبان الحقبة النازية فحسب بل حتى بعد الحرب. فاذا كان بوسع رجل وحيد وبسيط – ليس ضابطا رفيع الرتبة ولا سياسيا كبيرا – أن يحاول قتل هتلر، ماذا يقول لنا ذلك عن المجتمع الألماني ككل؟ كان الألمان يعلمون بأن عليهم عمل شيء، ولكنهم لم يفعلوا.”
وفي حقيقة الأمر، اشتهرت محاولة اغتيال واحدة تعرض لها هتلر، وهي المحاولة التي حاول فيها العقيد فون شتاوفنبرغ زرع قنبلة في مقر الفوهرر عام 1944 وذلك في سياق محاولة لقلب نظام الحكم شارك فيها لفيف من العسكريين والسياسيين، ولكن المقاومة على مستوى أدنى – كالتي انخرط فيها الشيوعيون والنقابيون – لم تحظ بأي اعتراف تقريبا.
ولكن أخيرا، وفي العام الماضي، اعترفت المستشارة انغيلا ميركل بألسر باعتباره بطلا للمقاومة ضد النازية ووصفته بأنه “رجل خاض النضال وحده محاولة منه لوقف الحرب.”
اما توشل، فعبر عن أمله في أن يعرف الفيلم الجديد الألمان بألسر، رغم أنه لا يريد أن يحول النجار الجنوبي إلى “بطل قومي كبير.”
وقال “أريد أن ينظر إليه بوصفه رجلا برهن لنا، إبان حقبة مظلمة من تاريخ البلاد، بأنه لم يكن جميع الألمان نازيين.”