د. محمد النغيمش يكتب لـ«الرجل»: حمّال الأسيّة
في كل مجتمع لا بد أن نجد من يدفع الثمن غاليًا، بسبب تضحياته. من هؤلاء "حمّال الأسيّة"، الذي يحمل الأسى ويضمره في وجدانه، ويمضي في حياته بشتى صورها لأنه يحاول أن يحمل مَشعَل النور للآخرين. وربما كان يبتغي تقديرًا في الدنيا أو في الآخرة. أيًا كان هدفه تبقى المعاناة قائمة، لأن "من يحملون الأسيّة" تتعدد أشكالهم ومقاصدهم.
"حمّال الأسيّة" هو من يمتص الصدمات، ومن يتجاهل الجعجعة، والقيل والقال حتى لا يُضيّع الوجهة المقصودة. حمّال الأسيّة هو من يخفي مشاعره وانكساراته حتى لا ينغص على من حوله صفو عيشهم. هو ملح الأرض الذي لو تخلى عن فكرة "التضحية" لتحول العالم إلى جحيم لا يطاق من الأنانية. قدره أن يؤدي دوره على أكمل وجه ولا يحظى أحيانًا بكلمة شكر واحدة! يقدم أفضل ما لديه من تفانٍ لمسؤوليه في العمل ثم يتفاخرون أمام القاصي والداني بأنهم الذين كانوا وراء كل إنجاز وليس عمود الخيمة (حمّال الأسيّة).
د.محمد النغيمش يكتب للرجل :المرأة السويسرية وتكافؤ الفرص
وحتى المثقف، والواعي، والمطلع، والمتعلم في مجتمعات لا تقدره قد يصبح حمالاً للأسية. فحامل هذا العقل، والتجربة الثرية، والأفق الواسع، يشقى لأنه يعلم ما حلول الواقع الأليم، في حين ينعم الآخرون بجهلهم. ولذا قال الشاعر أبو الطيب المتنبي:
ذُو العَقْلِ يَشْقَى فِي النَّعيم بِعَقْلِهِ وأَخُو الجَهَالَةِ فِي الشَّقَاوةِ يَنْعَمُ
روعة حمّال الأسيّة في أن أخلاقه تمنعه من النزول إلى مستنقعات التفاهات والمهاترات والإهانات. ولديه استعداد لكتمان هموم "حارة" بأسرها في سبيل ضمان الاستقرار والترابط الاجتماعي. حمّال الأسيّة يتحمل حرارة الشمعة لينير طريق الآخرين.
أما أسبابه فهي قد تنبع من ضعف داخلي، فمن يضطر إلى حمل الأسية، وعدم المواجهة والتمرد، قد يعود إلى قدراته المحدودة في الإقناع أو التأثير أو الندية. وينسى هؤلاء أن هذه مهارات يمكن اكتسابها عبر الدورات أو التوجيه الاستشاري mentoring.
أحيانا يكون السبب قرارًا شخصيًا يحتسب فيه الأجر أو يبتغي به نيل شرف التضحية أو الثناء أو التقدير. أيًا كانت منطلقات من يحمل عنّا الأسى والضغوطات ووزر التضحية، لا بد أن يقف مع نفسه وقفة جادة لإعادة النظر في مسيرته. فهذا السلوك، يكون مفهومًا إذا كان مؤقتًا أو عابرًا، أما المداومة على التضحية فقد لا تثمر في شؤون الحياة اليومية. ذلك أن بعض الناس يستغلوننا بجشع للوصول إلى مآربهم.
محمد النغيمش يكتب: اتخاذ القرار بارتداء القبعات الست
وربما يستحق هؤلاء همسة في أذنهم لنذكرهم بأنه "كما تدين تدان" وأن الحياة تعلمنا أن يومًا لنا ويومًا علينا. وسوف ندفع الثمن غاليًا إن كنا نستمرئ أذية الآخرين
أيا كانت معاناة حمّال الأسيّة إلا أنه يبقى محبوبًا على نطاق واسع. غير أن حمّال الأسيّة مثل سائق العَبّارة (السفينة)، يوصل السائحين يوميًا إلى الضفة الأخرى لكنه لم يعد يستمتع بجمال الطبيعة.