القيادة خلال الأزمات بالاستناد إلى أنوع المعرفة الثلاثة لأرسطو
إن كنت تسعى إلى تحسين مهاراتك كقائد، فما الذي تسعى إلى تحسينه بالضبط؟ تجربة جائحة كورونا وفرت للجميع درساً هاماً: المهارة الأساسية والهامة التي على القائد امتلاكها هي القدرة على معرفة أي نوع من التفكير تحتاج إليه المؤسسة للتعامل مع التحديات التي تفرض نفسها.
تحديد المسار من خلال طريقة تفكير خاطئة يعني إغراق النفس بتحليلات لا نهاية لها للداتا والأرقام والمعلومات التي لا تؤدي إلى نتيجة مثمرة في الوقت الذي يكون الشخص بأمس الحاجة إلى إصدار الأحكام المستنيرة بالقيم. أو قد لا يصار إلى إغراق النفس في المعلومات بل سيتم الوثوق في الحدس في مسألة معينة برغم أنه لو تم تحليل البيانات فسيدرك الشخص مدى عدم فهمه للمشكلة.
أخطاء كهذه تحدث طوال الوقت، وذلك لأن أنواع الجهود المختلفة تتطلب أنواعاً مختلفة من المعرفة. وهذا الواقع ليس جديداً، بل هو ما أوضحه لنا أرسطو قبل أكثر من ٢٠٠٠ عام.
أرسطو وأنواع المعرفة الثلاثة
لقد حدد أرسطو ٣ أنواع من المعرفة المطلوبة لحل المشاكل في ٣ مجالات. «تكني» Techne هي معرفة المهن أو الحرف أو المعرفة الحرفية والمتمثلة بتعلم استخدام الأدوات والأساليب في ابتكار شيء جديد.
المعرفة الثاني «إبستيم» Episteme وهو المعرفة العلمية أو النظرية المتمثلة بمعرفة قوانين الطبيعة وغيرها من الحقائق التي يمكن نقضها والتي مهما بدت غير مفهومة حالياً لكن لا يمكن أن تكون غير ما هي عليه.
النوع الثالث من المعرفة هو معرفة الحكمة العملية «فرونيسيس» Phronesis وهي الحكمة العملية المرتبطة بإطلاق الأحكام الأخلاقية والتي تعني تبني وجهات النظر والحكمة اللازمتين لاتخاذ القرارات عندما تفرض القيم المتنافسة نفسها، وعندما لا تكون الإجابة مطلقة والخيارات المتعددة ممكنة وعندما يمكن أن تكون الأشياء مختلفة عما هي عليه.
أين تقع ضمن أنواع معرفة أرسطو؟
إن كنت مزارعاً يصمم نظاماً جديداً للري، أو مهندساً للبرمجيات يعمل على نظام جديد مرن فحينها أنت تندرج ضمن فئة المعرفة الحرفية.
في المقابل إن كنت مثلاً عالم فلك تتسائل عن كيفية قيام المجرات بالدوران أو في أي مجال آخر تبحث عن السبب فحينها أنت تندرج ضمن فئة المعرفة العلمية.
وأخيراً إن كنت من صناع السياسات والقرارات وتحدد كيفية القيام بهذا الأمر أو ذاك فحينها أنت تندرج ضمن فئة الحكمة العقلية.
السبب الذي جعل أرسطو يكلف نفسه عناء تحديد هذه الأنواع الثلاثة من المعرفة هو واقع أن كل واحدة منها تتطلب طريقة تفكير مختلفة. وأي شخص يعرف تلك الفئات ولأي فئة ينتمي يميل إلى تبني عادات تفكير تعود عليه بالفائدة وتميزه عن غيره. الهدف الأساسي وبكل بساطة لأرسطو هو أنه حين تواجهك مشكلة في مجال الحكمة العملية فأنت لا تحتاج إلى مختص بالمعرفة العلمية لحلها.
مثلاً، لو افترضنا بأنك قائد لشركة كبرى وتواجه تحديات تظهر وبشكل دائم في جميع المجالات الثلاثة. هناك الكثير من المشاكل الفنية بينما تعمل جاهداً لتبني أساليب وأدوات فعالة في عملياتك. هناك أيضاً تحديات معرفية، والتي هي أي مشكلة تقاربها من أجل التحسين، مثل المزيج التسويقي أو جدول التصنيع الخاص بك. كل هذه المشاكل في هذه المجالات تفرض نفسها رغم أنه يفترض أن هناك إجابة واحدة صحيحة.
وفي الوقت عينه سيكون هناك في مجال الحكمة العملية كل ما يسمى استراتيجية سواء التي تتعلق بمسائل المؤسسة أو القرارات التي تتعلق بإطلاق منتج جديد أو القيام بعملية دمج. أي كل العمليات والقرارات التي تنطوي تحت خانة المقايضات والتي تتطلب إدراك أن المستقبل يحمل إحتمالات مختلفة وعديدة.
كقائد يرأس هذه المؤسسة المتعددة الأوجه، فإن وظيفتك هي الحرص على الدمج بين أنماط التفكير الصحيحة من أجل القيام بقرارات مختلفة. وهذا يعني أنك كقائد تحتاج إلى معرفة أي نوع من المعرفة هو المناسب لحل مشكلة معينة.
وهذا ينطبق على أكبر التحديات التي يواجهها القادة في العالم المعاصر وتحديداً في الفترة الأخيرة. المشاكل حالياً واسعة النطاق والتأثير ومتداخلة ومعقدة لدرجة أن مشكلة واحدة تتطلب اللجوء إلى أنواع المعرفة الثلاثة. على سبيل المثال، شركة كبرى تواجه أزمة سيولة. قائد الشركة يحتاج الى حشد خبرات أصحاب المعرفة العلمية لاكتشاف الحلول لشروط القروض والقيود المفروضة على إصدار تلك القروض وغيرها من الأمور المالية المعقدة، كما يجب تمتعه بالحكمة العملية التي ستمكنه في توجيه المسار بحيث لا تؤدي التخفيضات الى أضرار طويلة الأمد.
معرفة أرسطو وكوفيد ١٩
التحديات التي فرضها كوفيد ١٩ على القادة في جميع المستويات كبيرة ومعقدة جداً سواء عالمياً أو محلياً أو ضمن المجتمعات الصغيرة وعلى جميع المؤسسات الكبيرة والصغيرة. العالم كله شعر بالصدمة بسبب هذه الكارثة وعليه الخطوات المتعثرة لم يكن بالإمكان تجنبها خصوصاً وأنه كان هناك الكثير من المعلومات المضللة بداية الجائحة. ولكننا حالياً نكاد نقترب من عامنا الأول مع كورونا، ومع ذلك التأثير ما زال نفسه إن لم نقل أسوأ وقد تحول من مرض وكارثة صحية الى كارثة اقتصادية واجتماعية. فكيف وبأي منطق تكون الصورة هكذا حالياً؟
العديدة من القادة تعثروا في الخطوات الأولى ولم يتمكنوا من تحديد طبيعة التحدي الذي يواجههم وبالتالي لم يتمكنوا من تحديد نوع التفكير الذي يجب استخدامه من أجل إحداث تأثير على المجالات والنقاط المختلفة.
في البداية كوفيد ١٩ فرض نفسه كمشكلة علمية، وبالتالي تم حصره في المعرفة العلمية أو النظرية وأثار أسئلة يمكن العثور على إجابات لها شرط توفر بيانات ومعلومات كافية وهي : ما هو نوع هذا الفيروس ومن أين أتى؟ كيف ينتقل بين شخص وآخر؟ من هي الفئة الأكثر تضرراً وما هي العلاجات الأكثر فعالية؟
هذا التأطير الفوري للمشكلة جعل القادة يضعون أهمية كبيرة على قيام المفكرين والمعرفيين أي العلماء بإرشاد الآخرين. مثلاً في بريطانيا ترجم هذا التوجه بالاعتماد بداية الأمر على نموذج أنتجه عدد من الباحثين في إمبريال كولدج، وللأسف التنبؤ حول انتشار الفيروس لم يكن دقيقاً. خلال الاجتماعات اللاحقة كان وبشكل دائم هناك ممثل واحد عن الحكومة وفي كل مرة كان يحاول وضع بعض الجوانب العملية والسياسية ضمن إطار المناقشات كان يتم وضعه عند حده.. فكيف لسياسي أن يتدخل في مجال علمي بحت؟!
ولكن الواقع هو أنه رغم أن الاكتشافات العلمية كانت هامة جداً وحددت الأطر للتعامل مع كورونا لكنها لم تكن كافية لأن ما كان يحدث في الوقت عينه هو تحول الأزمة من صحية إلى اجتماعية واقتصادية. وهذا يعني أنه كان هناك حاجة ماسة من أجل الحكمة العملية.
الصورة نفسها تنطبق على المؤسسات التي اعتبرت أن مواجهة الأزمة محصورة بفئة معينة وبالتالي نمط تفكير معين ما تركنا أمام واقع قاسٍ وهو إفلاس عدد كبير من الشركات وتسريح ملايين العمال حول العالم ومعاناة شركات عدة من خسائر فادحة.
ما الذي على القائد فعله خلال الأزمات؟
على القائد استخدام أولا المعرفة العلمية والنظرية وتحديد الأشخاص الذين يمكنهم توفير الفهم الكامل للمشكلة بكل أبعادها. الاستعانة بأشخاص من مجالات أو أقسام مختلفة هو للتخلص من مشكلة تفرضها المعرفة العلمية التي تجعل العقل يميل إلى التركيز على مجال محدد من أجل الوصول إلى إجابات مطلقة. فالنهج الصحيح هو التفكير الشامل لمشكلة معقدة متعددة الأطراف والتحديات. لو قام القادة منذ البداية بالتعامل مع الوباء على أنه أكبر وأوسع وأشمل من معلومات واكتشافات علمية وصنف كأزمة تتطلب الدمج بين أنواع المعرفة المختلفة فحينها لكان بالإمكان تفادي غالبية التداعيات.
بطبيعة الحال بعض القادة تمكنوا من الموازنة بين طرق التفكير وعثروا على مقاربات مكنتهم من التعامل مع الأزمة بشكل أكثر فاعلية من غيرهم. وذلك لأنهم دمجوا بين أنواع المعرفة الثلاثة، وسواء كانوا يدركون أنهم يقومون بذلك أم لا فهم جنبوا مؤسساتهم كارثة مؤكدة.
جزء من وظيفة أي قائد هو تأطير المشاكل التي يريد من الآخرين أن يبذلوا جهدهم لحلها والتأطير هذا يبدأ بفهم طبيعة المشكلة، والتواصل بفاعلية حول الطرق التي ينبغي اعتمادها للتعامل معها. الاعتماد بشكل كلي على «العلم» أو البيانات فقط هو أسرع طريقة لشل المؤسسات خلال الأزمات.
هذه القدرة على تحديد حجم الموقف وأنواع المعرفة التي يتطلبها هي مهارة يمكن تطويرها من خلال الممارسة المتعمدة ، ولكن الخطوة الأولى الأساسية هي ببساطة إدراك وجود هذه الأنواع المختلفة من المعرفة، ومعرفة متى يجب استخدام أي نوع منها.
المصدر: ١