من سقراط إلى كامو: الفلسفة هي الحل في زمن الأزمات
وُجدت الأزمات منذ وجود الإنسان، فهي جزء من مسار الحياة سواء كانت هذه الأزمات داخلية أو خارجية. البعض يعتبر الفلسفة ترفًا فكريًا معقدًا والبعض الآخر يصنفه كجنون لا فائدة منه ولكن الواقع يبقى أنه عند الأزمات وعن أشد المواقف قساوة الفلسفة بشكل أو بآخر كانت الحل.
يمكن القول إن جائحة كورونا وتداعياتها الاقتصادية حولتنا جميعا إلى فلاسفة. «العلاج البطيء»، كما تسمى الفلسفة، هي ما نحتاج إليه بالضبط حالياً. والمقصود هنا ليس التأملات الميتافيزيقية بل الفلسفة كما تصورها الإغريق القدماء: طب عملي وعلاجي للروح.
الفلسفة تساعدنا على فك عقد الأسئلة المتشابكة التي أثارها الوباء كما تساعدنا على الإجابة على مآزق شخصية ملحة.. كيف يمكن تحمل ما لا يمكن تحمله؟ كيف يمكن العثور على اليقين في زمن اللايقين؟
الفلسفة لا تقدم إجابات سهلة ومباشرة ولكنها تساعدنا على إعادة صياغة الأسئلة كما أنها تعدل وجهات نظرنا، وهي مهارة مفيدة في الأوقات الجيدة ولا تقدر بثمن في الأوقات السيئة.
الفلسفة والأزمات لطالما كانوا جنباً الى جنب، فأعظم المفكرين قاموا بعملهم خلال فترات الأوبئة والاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية. فلسفتهم هي حكمة مكتسبة لا يتجاوزها الزمن، وخلافاً للمعلومات أو التكنولوجيا، الحكمة لا تصبح بالية وعديمة الجدوى فالرؤى التي توفرها الفلسفة هي أكثر صلة من أي وقت مضى.
سقراط
كوفيد ١٩ أرغمنا على التواضع وعلى معرفة حجمنا وقدراتنا الحقيقية. اليقين مفقود والخوف يهيمن ولا أحد يملك الإجابات أو الحلول. لو كنا سنتخيل ردة فعل سقراط على ما يحدث حالياً فهو سيكون كلمة واحدة «ممتاز». سقراط بالتأكيد سيتماهى مع محنتنا وسيجدها مألوفة فهو في نهاية المطاف عاش خلال فترة انحطاط أثينا كقوى عظمى الذي سرعته المغامرات العسكرية والطاعون الدبلي.
وبرغم كل المحن فإن سقراط تمكن من رؤية الفرص خلال الفترات الصعبة. سقراط حاور الموقرين من شعراء و جنرالات أثينا وسرعان ما اكتشف بأنهم لم يكونوا حكماء بقدر ما كان يخيل إليه. الجنرال لم يتمكن من شرح الشجاعة له، والشاعر لم يتمكن من تعريف الشعر وفي كل مكان كان يذهب إليه كان يلتقي بأشخاص «لا يعرفون ما لا يعرفون».
خلال وقتنا الراهن فإن الإغلاق الكامل أو الجزئي بسبب كورونا يرغمنا على طرح أسئلة عميقة على أنفسنا لم يكن يخيل إلينا أننا حتى نفكر بها. وهكذا، كما يقول سقراط، تتكون الحكمة. حالياً كل ما نريده هو العودة الى حياتنا الطبيعية، ولكن هل سبق لأي منا أن عرف ما هو «الطبيعي».
ندرك بأن الفترة الراهنة تتطلب الشجاعة ولكن هل نعرف ماهية الشجاعة؟ لقد قمنا لغاية الأن بوضع الأطباء والممرضين وجميع العاملين في المجال الصحي والذين يعملون في خدمات التوصيل والخطوط الأمامية في أي خدمة أساسية كانت على لائحة الأبطال.. ولكن ووفق منهج سقراط علينا البدء بفحص ومعاينة معطيات جديدة.
سقراط وفق منهجه آمن بأن أولى الخطوات نحو المعرفة هي الإعتراف بجهل الفرد، فهو كان معتاد على وصف نفسه بأنه لا يعرف شيئاً. الوعي بالجهل الخاص هو السبيل الوحيد للمعرفة.
التأثير المدهش للقراءة الجهرية.. دراسة علمية تكشف فوائد عديدة
هنري ديفيد ثورو
هنري ديفيد ثورو هو كاتب وشاعر ومؤرخ وفيلسوف أمريكي، عرف بنقده الإجتماعي وتوجهه الرومانسي للطبيعة . خلال القرن التاسع عشر عايش ثورو الأزمات، فبلاده كانت تسير بخطوات ثابتة نحو الحرب الأهلية ورغم ذلك استغل الفترات المضطربة تلك كي يجد الجمال في كل ما هو غير مثالي.
في يوم من أيام شهر سبتمبر/ أيلول وخلال تأمله لبحيرة والدن لاحظ بأن المياه مغطاة بذرات النبات، وخلافاً للبقية الذين قد يعتبرون المشهد هذا أبعد ما يكون عن الجمال لكون المياه تبدو مليئة بالبقع، فإن ثورو رأى شيئاً «نقياً وجميلاً».
راقب ثورو سطح البحرة من زوايا عديدة وفي الليل والنهار وحتى أنه كان يعاينه ورأسه بين ساقيه كي يتمكن من رؤية المشهد بشكل مقلوب. و الخلاصة التي توصل إليها هي أنه إن لم يكن بإمكاننا تغيير العالم، فما علينا القيام به هو تغيير الطريقة التي نراه بها، حتى ولو عنى ذلك «الانحناء واتخاذ أشكال مختلفة»، وليس المقصود هنا المعنى الحرفي للانحناء واتخاذ الأشكال المختلفة بل المعنى المجازي لتبدل العقليات والقناعات التي ننطلق منها حين ننظر ونقيم العالم من حولنا.
يقول ثورو إنه عند النظر بزواية صحيحة فإن «كل عاصفة وكل قطرة ماء فيها هي قوس قزح».
ميشيل دي مونتين
ميشيل دي مونتين عاش في فرنسا خلال القرن السادس عشر حين كان الموت في كل مكان. وخلافاً لثورو لم يكن يسعى لفهم العالم بقدر ما كان يسعى لفهم ورؤية ما هو عليه بوضوح كلي. الطاعون كان يحصد يومياً نصف سكان بوردو حيث شغل منصب رئيس البلدية والحزن على موت صديقه المقرب جعله يقوم بتصرفات جنونية حيث كان يقفز يجلس على سقف الطابق العلوي للبرج ويتسلق التلال حيث يعرض نفسه للرياح.. هناك وخلال تلك الفترة كتب أروع مقالاته. من المعاناة العظيمة ينشأ جمال عظيم.
وحيداً في برجه موتين ابتعد عن العالم وبشكل أو بآخر عن نفسه، فهو توقف وتراجع إلى الخلف كي يتمكن من رؤية نفسه بوضوح تام. مونتين كان سينصحنا بالقيام بالأمر نفسه حالياً وهو إستغلال الجائحة من أجل رؤية العالم ورؤية أنفسنا بشكل مختلف. لا داعي لأن تكون الاكتشافات معقدة، فمثلاً قد تكون تصنف نفسك كشخص اجتماعي لتكتشف حالياً أنك في الواقع تستمتع بالعزلة وقلة الاختلاط الاجتماعي.. وهذا يعني أنك قمت باكتشاف نسخة مختلفة عن نفسك.
رواقية زينون
الرواقية ولدت من رحم الكوارث والمعاناة. الفيلسوف اليوناني زينون السيشومي أسس لهذا المذهب الفلسفي في القرن الثالث قبل الميلاد ومنذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا الرواقية توفر الآلية التي يمكن للبشر من خلالها التعامل مع الكوارث والمصائب والصعوبات. الفلسفة الرواقية يمكن اختصارها بقول لإبكتيتوس الذي كان عبداً لزينون تحول لاحقاً الى معلم وفيلسوف: «ما يزعج الناس ليس الأمور والأحداث بحد ذاتها، ولكن تقييمهم لهذه الأحداث والأمور». الفكرة هي أنه يجب تغيير ما يمكن تغييره وتقبل ما لم يمكن تغييره.
التعامل مع الجائحة وفق مبدأ الرواقية سيحيلنا إلى نظرية للوكيوس سينيك والتي تقول بأنه خلال الأزمات يجب تخيل أسوأ السيناريوهات الممكنة، وتدريب العقل على تخيلها مرة تلو الأخرى: النفي، التعذيب، الحرب وتحطم السفن. بطبيعة الحال لائحة سينيك تختلف عن لائحتنا المعاصرة التي تتضمن الخوف من الإصابة، الفواتير التي لا يمكن تسديدها ورعب فقدان الوظيفة، ولكن الفكرة هي نفسها فمن خلال التفكير بالكوارث فإننا نجرد المصاعب المستقبلية مما يؤذينا ونبدأ بتقدير ما نملكه حالياً. الشدائد المتوقعة هي الشدائد التي يتم القضاء عليها أو تقليص تأثيرها قبل حدوثها.
ألبير كامو
اختبر ألبير كامو الشدائد أكثر من غيره، فهو ترعرع فقيراً يتيم الأب مع والدة صماء في الجزائر ولاحقاً عايش الحرب العالمية، ودخل في مناوشات وجدالات ومشاجرات فكرية مع زملائه الفلاسفة قبل أن يموت في حادث سير عام ١٩٦٠ وهو في الـسادسة والأربعين من عمره. ألبير كامو هو الفيلسوف المثالي لعصور الأوبئة ليس بسبب روايته «الطاعون» ولكن بسبب روايته الأقل شهرة وهي «أسطورة سيزيف». تتحدث الرواية عن سيزيف الذي كان أحد أكثر الشخصيات مكراً وفق الميثولوجيا الإغريقية حيث خدع إله الموت ثانوتس ما أغضب كبير الآلهة زيوس الذي عاقبه بحمل صخرة من أسفل الجبل إلى أعلاه، ولكن كلما كان يصل إلى القمة كانت تتدحرج الصخرة إلى أسفل الوادي فيعيد حملها إلى أعلى وظل على الحال نفسه إلى الأبد ليصبح رمزاً للعذاب الأبدي.
الجائحة نسفت كل الخطط التي وضعها البشر لأنفسهم سواء حفلات الزواج، حفلات التخرج، فرص عمل جديدة وغيرها. كلنا وقفنا وشاهدنا خططنا تتدحرج من أعلى الجبل مثل صخرة سيزيف، فما الذي علينا فعله؟ وفق كامو علينا المثابرة رغم ما يحدث، فليس المطلوب منا فهم الكارثة ولكن من خلال تخيل سيزيف سعيداً. فكيف يمكن تخيل التعيس سيزيف سعيداً؟ يمكن القيام ذلك بامتلاك الصخرة، بإلقاء أنفسنا وانغماسنا الكلي في المهمة، رغم عدم جدواها، بسبب عدم جدواها. يقول كامو بأن مصير سيزيف ملكه، فالصخرة ملك له وهي مهمته وهو يحدد مصيره بنفسه.
هل تعملون حالياً على مشاريع تبدو وكأنها بلا جدوى وبلا نتائج؟ هل تجدون صعوبة في التعامل مع الحياة وتفاصيلها المجمدة أو المؤجلة بسبب كوفيد ١٩؟ وفق كومو فإننا حين نصل لهذه المرحلة نكون قد بدأنا باستيعاب عبثية الحياة، وما علينا فعله هو الاستثمار في الجهد وليس النتيجة.
تماماً كالفلاسفة ما علينا فعله خلال محنة كوفيد ١٩ هو النظر إلى عبثية محنتنا ولكن الإصرار بعناد بدلاً من الاستسلام بيأس.
المصدر: ١