القصة غير المروية للقميص الأبيض .. من العصر الفكتوري حتى وقتنا الحالي
في الوقت الذي يعاد فيه كتابة تاريخ ملابس النساء بشكل دائم، فإن الملابس المعاصرة للرجال مرتبطة وبشكل وثيق بالتاريخ والعادات. القميص الأبيض الكلاسيكي يملكه جميع الرجال حول العالم فهو قطعة ثابتة من الملابس. ولأنه متواجد في كل مكان غالباً ما لا نفكر بأنه خاض رحلة طويلة جداً وبأنه كان قبل ٢٠٠ عام عنصراً فريداً من الملابس وكان يملك القدرة على تحديد المكانة الاجتماعية والثروة.
تاريخ هذه القطعة من الملابس غني وبجزئه الأساسي غير مروي. فحين يتعلق الأمر بتاريخ الملابس يصعب تحديد المسار بشكل دقيق لكون التطور كان يتم بشكل جماعي حول العالم ناهيك عن تأثر مجتمعات بموضة مجتمعات أخرى. وفيما يتعلق بالقميص الأبيض فإن المسار يعود بنا الى ما قبل العصر العصر الفكتوري بقليل.
أشكال حلزونية وأطوال لا تصدق.. تعرف على بطولة العالم للحى والشوارب «فيديو وصور»
الداندية.. فرط التأنق يمهد الطريق للأبيض
أهمية الغاية من ملابس الرجال تعود إلى فلسفة تسمى الداندية والتي ظهرت وبقوة في بدايات الـ ١٨٠٠ رغم أن بعض المؤرخين يؤكدون أن المصطلح هذا وفكره ظهرا في ١٧٧٠.
الفكر هذا يقوم على منح الملابس أهمية كبيرة جداً بالإضافة إلى آلية التحدث والكلام والهوايات المكلفة. الملابس كانت تعرف الرجل وليس العكس فهي كانت رمزاً للتفوق الأرستقراطي. الداندي كان يمضي الغالبية الساحقة من يومه وهو يهتم بملابسه وحتى أنه وصف بأنه «ينام ويستيقظ أمام المرآة».
الداندية في إنجلترا استخدمت كنوع من الاحتجاج السياسي فهي اعتمدت لرفض ملابس الأرستقراطية البريطانية من دون رفض الأرستقراطية نفسها وحتى أن معتنقي الفكر الداندي غالباً ما كانوا يطالبون باستعادة الفكر الإقطاعي.. لكن وللمفارقة الداندي الأشهر والذي يمكن القول بأنه قلب الموازين في إنجلترا لم يكن أرستقراطياً.
جورج براين بروميل بنى عظمته من لا شيء، فهو راقب المجتمع ووجد بأن تسلق السلم الإجتماعي يرتبط بشخصية الفرد ومظهره وليس من خلال أرستقراطية الدم.
كان يؤمن بأن التأنق قائم على النوعية وآلية التصميم وليس على الألوان والزينة. بروميل سيمهد لظهور القميص الأبيض والفكر الذي يعتنقه سيمهد لارتباطه بمفاهيم وقيم عديدة خلال العقود التالية. البداية كانت مع معطف بروميل الداكن والكرافات الضخمة الناصعة البياض وما رمزت إليه من مكانة وتكلف وتأنق والتي مهدت لظهور القميص الأبيض.
العصر الفكتوري
تاريخياً القميص الأبيض يرتبط بالعصر الفكتوري، فمع بداية ١٨٣٠ كان القميص يرمز للثروة والتميز الطبقي كما أنه كان رمزاً للرصانة والرزانة والتماثل رغم أن القميص الأبيض لم يكن يظهر بشكل واضح وجلي إذ كان يعتمد مع السترات التي كانت تغطيه بشكل شبه كلي.
بحلول العام ١٨٥٠ تحول اللون الأبيض الناصع إلى مصدر لإشباع المثل الذكورية حينها. فالرجل الذي يملك ثروة كبيرة هو الذي يتمكن من المحافظة على البياض الناصع وغسل القميص بشكل متكرر. وعليه كان الأكثر ثراء هو الذي يرتدي القميص الأبيض بمعدل أكثر من غيره. خلال هذه الفترة، برز الرابط بين المكانة الإجتماعية ولون الملابس بقوة وظهر مصطلح أصحاب الياقات البيضاء وأصحاب الياقات الزرقاء. خلال تلك الفترة ظهر بعض العاملين الذين إعتمدوا القمصان البيضاء رغم مكانتهم الإجتماعية«المتدنية» ولكن لم يصفنوا يوماً كأصحاب الياقات البيضاء بل حصلوا على تسمية خاصة بهم وهي «أصحاب الياقات البيضاء المتكبرين» وذلك لأنهم يحاولون ادعاء ما هم ليسوا عليه.
بحلول العام ١٨٨٠ بدأت الياقات البيضاء تصبح بدورها رمزاً للمكانة وعليه الثري هو الذي يعتمد الياقة العالية جداً والتي كانت تلعب دوراً «هاماً» في منع الثري الأرستقراطي من النظر إلى أسفل، أي الى الذين هم أقل مكانة منه. الياقات البيضاء العالية كانت لتمييز النخبة من الموظفين الذي كانوا يعتمدون ياقات أقل طولاً من أجل حرية الحركة وبالتالي التمكن من إنجاز أعمالهم.
ومع نهاية العصر الفكتوري وخلال الفترة الممتدة بين ١٨٩٠ و١٩٠٠ شهد القميص الأبيض على تحول جذري على صعد مختلفة. في تلك الحقبة أصبحت الزينة المبالغ بها لملابس الرجال رمزاً «لقلة الرجولة» فجاء القميص الأبيض ليكون البديل المثالي، وهكذا أصبح رمزاً للخصال الذكورية كما أنه غالباً ما كان يتم إعتبار الذي يرتدي القميص الأبيض شخصاً يمكن الوثوق به، وخلال مراحل لاحقة بات أيضاً دليلاً على أن من يرتديه رجل أعمال.
مع نهاية القرن ومع تضاعف كميات إنتاج القمصان البيضاء وبالتالي انخفاض سعره، أصبح عدد أكبر من الرجال يعتمدونه خصوصاً الذين يعملون ككتبة. تحول جذري سنشهده هنا، فاللون الأبيض للقميص لم يعد يحدد المكانة الاجتماعية للأفراد ولكن النوعية والتصميم والقماش المستخدم باتت هي المعيار.
القرن العشرين
مع نهاية الحرب العالمية الأولى ومع التبدلات الإجتماعية الكبرى التي حدثت، ظهر قميص الأبيض بتصميم أكثر إنسيابية ونعومة وبموديلات تتناسب مع الملابس الأقل رسمية.
واحد من الأشخاص الذين لعبوا دوراً في مسار القميص الأبيض التاريخي هو أمير أمير ويلز إدوارد الثامن الذي كان معروفاً بحسه الخاص في الموضة وغالباً ما كان الجميع يقلده في أنماطه التي يعتمدها. أمير ويلز كان يكره القمصان البيضاء فإستبدلها بقمصان واسعة ملونة وناعمة. خياره «الملون» أدى إلى نقلة نوعية في عالم موضة الرجال في تلك الفترة وجعل القميص الأبيض يفقد المزيد من شعبيته.
ولكن ورغم كل هذه التبدلات استمر الربط بين القميص الأبيض وبين الأخلاق والرصانة والاحترام. واقع تعزز في العام ١٩٢٤ مع رائد الأعمال والعالم والوالد المؤسس لـ «أي بي أم» الذي فرض زياً موحداً على موظفيه قائم على إعتماد القميص الأبيض أسفل السترة. الرجل التقليدي هذا الذي كان يؤمن برمزية القميص أصر على إعتماده من قبل الموظفين العاملين لديه وهذا الأمر عزز الصلة التي كانت بين القميص الأبيض وصفات الجدية والإحترام والرصانة.
النقلة النوعية الثانية للقميص خلال هذه الفترة كانت مع دخول الأقمشة الصناعية الى القمصان وذلك في خلال الفترة الممتدة بين نهاية ١٩٥٠ و بداية ١٩٦٠.
لاحقاً ومع نهاية ١٩٦٠ وبداية الـ ١٩٧٠ بدأت أنماط الزهور المختلفة تغزو القمصان وأصبحت الياقات أكثر عرضاً. القميص الأبيض لم يعد شائعاً ولكنه إحتفظ برمزيته كلباس «مناسب ومحترم» وسط الكم الهائل من القمصان الملونة.
مع بداية الثمانينيات ظهرت ولفترة وجيزة القمصان البيضاء بالنمط الرومانسي وإنما مع إضافات وكانت عبارة عن قمصان واسعة مع زركشة على الجهة الأمامية. شهرة هذه القمصان جاءت بعد أن إعتمدتها فرقة «سبانديو للباليه»، ورغم كونها غير مألوفة وباهظة الثمن لكنها راجت بشكل كبير وإنما لفترة وجيزة.
خلال ما تبقى من الثمانينيات ظهر مبدأ «قوة الملابس »وبدأت دور الأزياء ومنها «هوغو بوس» بإعادة طرح القميص الأبيض وربطه بالقوة والبرستيج.. وهكذا إستعاد القميص مكانته وعاد ليكون رمزاً للسلطة والثراء ليس بسبب اللون فحسب وإنما بسبب نوعية الأقمشة المستخدمة والموديلات أي باختصار الماركة.
القرن الحادي والعشرين
تبدلات كثيرة طرأت بدلت الكثير من المفاهيم خلال القرن هذا. نمط الحياة بات أكثر سرعة وبالتالي كان هناك حاجة للتعديل والخروج بقمصان بيضاء تتناسب مع وتيرة الحياة الجديدة.
الحياة الجديدة خلال هذه الفترة بدلت مفهوم «رجال الأعمال» فظهرت فئة جديدة من الشباب الذين حققوا نجاحات كبيرة وثروات طائلة. هذه الفئة لم تكن تريد القميص الأبيض الفاخر الذي يعتمده رجل الأعمال التقليدي بل تريد قميصاً أبيضاً عملياً غير تقليدي يعبر عنها وعن نظرتها للحياة وللأعمال. وهكذا ومع ظهور رجال أعمال غير تقليديين على رأس مؤسسات غير تقليدية ظهرت القمصان البيضاء الهجينة التي تجمع بين سمة الرسمية وغير الرسمية لتتناسب مع هذه الفئة وتوجهاتها.
التعديلات التي دخلت على القميص الأبيض والتي ما تزال نفسها حتى يومنا هذا هي أنه بات متعدد الإستخدامات فالتصاميم باتت تتيح للشخص بأن يعتمده في مكان العمل وبأن يعتمده للخروج لاحقاً لتناول العشاء مع الأصدقاء. التركيز أيضاً إنصب على ضرورة جعله عملي، وهكذا راجت القمصان المصنوعة من القطن الفاخر التي توفر الراحة والأناقة.
في المحصلة ما يمكن قوله هو أنه يسهل علينا إعتبار الأمور المتوفرة وبكثرة من حولنا من المسلمات، وغالباً ما ننسى بأن لها جذورا ضاربة في التاريخ وبأنها كانت يوماً ما لها مكانتها وقيمتها التي تختلف بشكل جذري عن قيمتها اليوم.