عائلة السبيعي.. رحلة الصعود الشاق من الصفر إلى القمة
تعدّ عائلة السبيعي السعودية إحدى أبرز العوائل التى تمكنت من أن تصنع لنفسها اسماً لامعاً في عالم الأعمال،بفضل عميدها الشيخ المرحوم محمد بن إبراهيم السبيعي، الذي وافته المنية قبل أيام عن عمر ناهز 102 عامًا. وبرحيل السبيعي، فقد الوسط الاقتصادي السعودي، أحدأهم رواد الاعمال الاوائل، الذين واكبوا تأسيس المملكة،وأحد أبرز مؤسسي صناعة الصيرفة في البلاد.
رحلة المرحوم السبيعي الشاقة والطويلة لم تكن مفروشة بالورود،بدأ من الصفر، قبل نحو 80 عاماً العمل في محل صغير بمكة المكرمة وكان لا يزال طفلاً (12 عاما)،وبأجر سنوي لم يتجاوز سبعة جنيهات، وانتهى به المطاف ليصبح أحد مؤسسي "بنك البلاد"، وشركة"محمد إبراهيم السبيعي وأولاده" (ماسك)،وصاحب شركات رائدةعملاقة في الخدمات المصرفية والاستثمارو التطوير العقاري والبتروكيميائي والتجاري.
طفل برفقة قافلة الحجاج
خرجالطفل محمد ابراهيم السبيعي(11 عاماً)، مع عمه ناصر في شهر ذي القعدة عام (1344هـ/1926م) في موكب الحجاج، من قريته عنيزة في منطقة القصيم ،ممتطياً أحد الجمال في قافلة رحلة شاقة استغرقت سبعة وعشرين يوماً، حتى حطت الرحال بهم في مكة المكرمة.
أدخله عمه (ناصر) الكُتَّاب، لإكمال دراسته القرآن الكريم، عند المُعلّم عبد المجيد الشنقيطي، في مسجد يقال له: "مقرأ الفاتحة"، وحرص على دراسته وتعليمه بمواصلة الدراسة في المدرسة الوحيدة في مكة آنذاك " الفلاح".
قرار جرىء يغيّر مسار حياته
بعد ان انهى تعليمه، أمضى السبيعي زهاءالأربع سنوات في وظيفة حكومية في قرية المسيجيد، غير أن طموحه وحبه للمغامرة، جعلا منه شاباًغير هيَّابٍ ولا متواكل، فلم ينتظر كثيراً ليترك الوظيفة، متخذاً قراراًصعباًغَيّر مجرى حياته، وعاد به من جديد إلى السوق.
فعادإلى مكة مع أمه وأخيه عبدالله، وسكنوا عندعمه ناصر، وكان عمره آنئذ عشرين سنة، عزاؤه أنه لم يَعُد وحيداً، بفضل مثابرته الكبيرة وهمته العالية وخبرته بالسوق ومعارفه، كما يروي أحد اقاربه.
مهنة محرّج
بدأ السبيعي العمل في سوق الجودرية في مكة المكرمة، بمهنة محرّج (الذي يصرخ بالسعر في المزاد) واستمر في العمل فترةً من الزمن الى أن حانت الفرصة المناسبة للدخول لعالم التجارة. وروى السبيعي ما جرى معه فقال "كان سليمان بن غنيم، أحد تجار سوق الجودرية يودّ السفر لمدة ستة أشهر إلى دارين في المنطقة الشرقية، لزيارة أقاربه ويتزوج، وكان يبحث عن شخص يمتاز بالنزاهة والإخلاص وصدق العزيمة، ليسلمه أعماله طوال غيابه، وكان ابن غنيم صديقًا لعمي ناصر الذي رشحنى لهذه المهمة.
عقدنا اتفاقاً (أنا وابن غنيم)،عام (1354هـ/1936م). على أن يكون الربح مناصفة بيننا، واتفقنا على الشراكة، على أن أتقبَّل بموجبها ما في دكان ابن غنيم من أقمشة وعقل وغتر، مقابل تسعمئة وخمسين ريالاً، مع أنها لا تساوي، في تقديري، أكثر من خمسمئة، إلا أنني وافقت على هذا العقد لقناعتي بأهمية هذه الشراكة".
رحلة صعود ساندر بيتشاي.. أحد أهم المديرين التنفيذيين في العالم
امتاز السبيعي في تلك الفترة بالحيوية في أداء أعمال التجارة في الدكان، وعُرف عنه، بحسب احد المقربين، إنجازه المتقن لكل أعماله التجارية، ويتذكر السبيعي هنا كيف كان يقاوم النعاس ويغالبه،وهو منكبٌ على مراجعة أعماله اليومية، إذ قال "كنت أسهر لمراجعة الحسابات بعد عناء يوم كامل مع أخي عبد الله وابن غنيم، وإذا شعرت بالنُعاس، وضعت القلم خلف أذني وأخذت غفوة دقيقتين أو ثلاثًا، ثم أكملت معهم مراجعة الحسابات، وكانت تكفيني هذه الدقائق المعدودة، لتجديد نشاطي، ومتابعة عملي حتى وقت متأخر من الليل".
واستمرت شراكةالسبيعي مع سليمان الغنيم نحو 28 سنة،وفيعام (1382هـ/1962م) قررا الانفصال وطي صفحة التجارة بينهما ؛نظراً لكبر الأولاد، وكثرةالأعمال. وحُلّت الشركة بكل محبة ،واتفقاعلى أن تحل بوساطة صديقين،هما: سليمان بن إبراهيم القاضي، وعبدالله العوهلي،حيث صفيت الشركة بكل أمانة ووضوح.
دخول عالم الصيرفة
بالتوازي مع شراكته للغنيم، بدأ السبيعي يشق طريقه، وهو يدرك بأن التجارة يجب ألاتصاب بالجمود ،فدع ىشقيقه عبدالله للعمل معه، في تلك الفترة أخذت تنضج لديه فكرة العمل المؤسسي ،وانفتحت أمامه ابواب جديدة، وحصل على عقود حكومية التزم بها مع وزارة المالية، لتزويدها بالزي السعودي الرسمي.
التقط السبيعي بحسه التجاري فرصةً استثماريةً جديدة تلوح في الأفق ،وتوقَّع ولادة قطاع الصرافة ،وتنبأ بظهور هذا القطاع الجديد الذي لم يفطنله إلاالقليل من رجال الأعمال حينها،وخصوصاً أن مكة المكرمة، تشهد وفود آلاف الحجاج والمعتمرين طوال العام من جنسيات مختلفة.
فبادر بمساعدةأخيه لتأسي سشركة (محمدوعبدالله السبيعي للصرافة والتجارة)، عام(1357هـ/1938م)، وتولّى هو رئاسة مجلس إدارتها، فيما تولى أخوه عبدالله منصب نائب الرئيس.
شجعه على ذلك استتباب الأمن في الحجاز، وانضواؤه تحت راية الدولة السعودية،حيث ازدهرتالأعمال التجارية في مكة المكرمة وانتعشت تجارة الصرافة.
وبدأ السبيعي مجال الصرافة من باب البيع والشراء في الدكان بمكة، فكان يشتري العملات الأجنبية من الحجاج مقابل الذهب، ثم يعيد بيعه اللصرافين في مكة.
وذكر المرحوم السبيعي، في هذا الصدد بأنه "من طرائف الأمور وغرائبها في ذلك الوقت، أن السيارة كانت تتعطَّل في الطريق وهي محمَّلة ذهبًا أو فضة ويتركها السائق برفقة المساعد، ويذهب إلى الرياض أو جدة للبحث عن قطعة غيار لإصلاحها، ويعود، ليجدها كما كانت".
ابتكار في تسعير العملات
وعن آلية تحديد أسعارالعملات في الخمسينات الميلادية، ومع عدم توافر وسائل اتصال ملائمة، وكيفية تغييرها،قال السبيعي: "إن المتحكم الرئيس في الموضوع، هو مبدأ العرض والطلب،فتجري أمور الصرافة مقابل أجر،إذ كل ماتوافرت العملة، رخص ثمنها،وكلما ندرت من السوق،غلاثمنها.
وفضلاعن مبدأ العرض والطلب، كنا نعتمد على مايرسله لنا وكلاؤنا في الرياض أو الكويت أو البحرين، من معلومات يفيدوننا بأن سعر العملة الفلانية ارتفع أو انخفض ،ونستمر عليه حتى يأتيناخبر جديدعن تغيُّر السعر،أو أن يتأثر وضعها، ووجودها في السوق المحلية في منطقتنا".
الثقة أساس المعاملات
اكتسب المرحوم السبيعي، بحسب ما يروى احد اقربائه،ثقة العملاء بصدقه وأمانته، فكانت المعاملات المالية تعتمد على عنصر الثقة، فالعمل المصرفي في المملكة خلال حقبة الستينات الهجرية، كان قائماً على مبدأ الثقة بين العملاء ومكتب الصرافة والتحويلات، فكان التوثيق بالوسائل القديمة عبر الأختام والمستندات، ولم يكن بالدقة الحالية والرقابة الصارمة التي تعتمدها حاليًا مؤسسة النقد العربي السعودي.
واستمر النجاح حليفًا للسبيعي وأخيه عبدالله، في حياتهما العائلية والعملية، تظللهما المحبة والأخوة الصادقة والإيثار، فتعاقدا مع وزارة المالية أيضًا ليؤمِّنا لها تحويل رواتب وزارة المعارف إلى جميع أنحاء المملكة، وتوسعت تجارتهما، وتعاملا مع تجار من الكويت ولبنان، موسعين بذلك نشاطهما إقليميًّا، وقد كانت لمحمد السبيعي وأخيه عبدالله، مكانة مرموقة خاصة بين تجار مكة، ما سهل لهما سبل النجاح والصعود للقمة.
علامه تجارية عالمية
تنوع نشاط شركة الاخوين السبيعي التجارية وتوسعت بازدهار، حتى بات اسم محمد بن إبراهيم السبيعي، رقماً صعباً في عالم المال والأعمال.
فخلال ثمانين عاماً انتقل من متجر صغير إلى شركات رائدة عملاقة، في الخدمات المصرفية والاستثمار والتطوير العقاري والبتروكيميائي والتجاري، والخيري أيضًا، وتجارة المواد الغذائية والأثاث المكتبي والمنزلي والأقمشة ومواد البناء، وكذلك دخلت في مجال الصناعة والأسهم، وكانت الشركة في الأوساط التجارية مثالاً للأمانة والصدق، وتعد نموذجاً يُحتذى في العلاقة الإيجابية بين ملاَّك الشركات العائلية في المملكة والخليج العربي.
الملك خالد اقترح بنك البلاد
كانت المرة الأولى التي فكر فيها السبيعي بتأسيس بنك اسلامي متكام، حينما اقترح عليه الملك خالد بن عبد العزيز عام (1398هـ/1978م) فكرة تحويل مؤسسة محمد وعبد الله السبيعي للصرافة إلى بنك مستقل ومتكامل وحديث، يوازي تطور العمل التجاري والمصرفي في المملكة.
وظلت هذه الفكرة الخلاقة تنضج وتكبر وتتبلور في ذهن محمد السبيعي، حتى حانت الفرصة وجاء التوقيت المناسب لتنفيذها.
وشكَّلت شركة السبيعي للصرافة الدخول الرسمي في قطاع الخدمات المالية في أوائل القرن الحادي والعشرين، ثم نمت حتى باتت واحدة من أكبر 50 شركة في المملكة. وتشمل استثماراتها حاليًا الخدمات المالية والعقارات والزراعة (تربية الأحياء المائية)، والتصنيع والأنشطة الصناعية وتجارة التجزئة.
وعند ذلك كانت اللحظة مواتية لتطبيق فكرة تأسيس "بنك البلاد" الذي يعد أحد أكبر البنوك الإسلامية في المملكة العربية السعودية، ساعد على ذلك، متانة الوضع الاقتصادي في المملكة، المشجع على الاندماجات والتكتلات القوية الاقتصادية القادرة على مواجهة مثيلاتها محليًّا ودوليًّا.
الفرص وليس الحصص
يرى السبيعي ،رحمه الله ،بخبراته كرجل أعمال حصيف ،وصاحب دراية ورؤية تجارية صائبتين ،أن"الزمن لايعود إلى الوراء، وأن مامضى فات، وأنالنجاح حليف المجد،وفي الوقت نفسه،هو فعل المستقبل ،ولذا لن يكون الغد أفضل من الأمس إلا بإرادة اللذين يجعلون التطوير والتغيير خيارًا فعَّالاً لحياتهم؛لأن رجل الأعمال الناجح ،ينافس في حصته من الفرص الاستثمارية المستقبلية، لاعلى حصته من السوق".
مؤسسة للعمل الخيري
كان محمد بن ابراهيم السبيعي ،رحمه الله ،قريباً من المحتاجين والفقراء، متلمسًا حاجاتهم ،وكان ارتباطه بالعمل الخيري قبل تأسيس مؤسسة محمدو عبدالله السبيعي الخيرية، يقوم على علاقة فردية بينه وبين المستحقين للبر،يباشر أعماله الخيرية المتعددة بنفسه، ولاسيما تلك التي ترتبط بتجارته من إخراج الزكاة ،والالتزامات الخيرية المتنوعة التي كان يقوم بها، هووشقيقه عبدالله.
ولحرصه على أن يذهب المال إلى من يستحقه ،رأى أن يتحول للعمل الخيري المؤسس على ضوابط دقيقة،لتحقيق أقصى درجات الفائدة، والأهداف المنشودةعلى نطاق واسع, وقدوافقه أخوه عبدالله في هذا التوجه، وقررا تأسيس مؤسسة "محمدوعبدالله السبيعي الخيرية"، التي باشرت أعمالها بتأدية خدمات متنوعة للمحتاجين.
شيفرة سرية
يذكرالمرحوم السبيعيان الصيارفة كانوا يستخدمون الشيفرات السرية مع وكلائهم في البرقيات المرسلة، حتى لا تتسرب المعلومات الى أحد التجار أو أحد المنافسين في مكة المكرمة،باختراق العاملين في مكتب البرقيات.
وكشف السبيعي:كنا نستخدم عبارات وهمية متفقين على مسمياتها ومعانيها؛ فكنا نسمي الذهب (رشادًا)، والفضة (صبرًا) والهيل (قرنفلاً)، والقهوة (غنمًا) والقماش (رزًا)، فيقول الوكيل لنا او نحن نطلب منه: اشتر (رشادًا أو صبرًا)، فنعرف أنه يقصد ذهبًا أو فضة».