المخرج ريدلي سكوت لـ"الرجل": " لا نتعلم من التاريخ اطلاقاً"
هوليوود: محمد رُضــا
في فيلمه الذي مُـنع عرضه في أكثر من عاصمة عربية، «هجرة: آلهة وملوك» بدا أن اهتمام المخرج ريدلي سكوت، ليس في أمور الدين، وليس في أمور الزعامات أيضاً، الفيلم ليس عن الآلهة القديمة، وليس عن قادة الأمس وملوكه. بل إن الاهتمام انصبّ على وضعية خاصة وتفسير ذاتي للصراع بين النبي موسى (عليه السلام)، والملك رمسيس. وحين يبتعد عن الذاتية نرى اهتمامه يصبّ كاملاً في الأبعاد الاقتصادية وليس الدينية مطلقاً.
أكثر من أي فيلم تاريخي قام بتحقيقه المخرج سكوت (77 سنة)، ذلك الفيلم الأخير له حتى الآن، استبعد المخرج نفسه من الإدلاء بدلوه في شأن الرسالات السماوية وتطاحن الأديان وخصّها بالبحث عن أسباب أخرى للصراع بين الطرفين. وقد وجد ضالته الأساسية في الحديث عن أن السبب الأول لثورة اليهود في مصر كان العامل الاقتصادي والثاني تمثل في العنصرية التي حكم بها الفراعنة اليهود في ذلك الحين.
والعكس صحيح حتى بالنسبة للفراعنة في هذا الفيلم، فهم ووجهوا بحرب اقتصادية واسعة، شملت محاصيلهم وأسواقهم التجارية ومصادر أعمالهم، كما يبدي الفيلم. ولأول مرّة بين كل الأفلام التاريخية التي حققتها هوليوود عن موضوع يمزج الدين بالتاريخ والحكاية بالأساطير، ضمن الإنتاج الضخم، نجد هذا المنحى ذا البعد السياسي واضحاً طوال الفيلم. فرمسيس الثاني (جووَل إدجرتون) طاغية عنصري بلا ريب، لكن موسى، يختار العنف سبيلاً أيضاً. أمر يجعله يتردد في مطلع الأمر ثم يزاوله عن بعض قناعة، على أساس أنه لا يفهم كيف يمكن له - إذا ما كان ربانياً - أن يأمر بالقتل وحرق محاصيل المصريين من الزراعة، مباركاً الكوارث التي ابتُلي المصريون بها.
رجال ونساء
"إنه موضوع شائك" يقول لك المخرج ريدلي سكوت في حديثه هنا.
لكنها ليست المرّة الأولى التي يخوض فيها الشائك والصعب من المواضيع، كذلك ليست المرّة الأولى التي يتحدّث فيها عن العلاقة بين الشعوب، ولا هي أول مرّة يحقق فيها فيلماً تاريخياً.
فمن ناحية عمد إلى تحقيق أفلام سياسية تثير من الأسئلة أكثر ممّا يمكن أن يرضي أي طرف، كما هي الحال في «سقوط (مروحية) بلاك هوك» Black Hawk Down، ومن ناحية ثانية تطرق إلى العلاقات بين الشعوب المتحاربة في «مملكة السماء» Kingdom of Heaven. كذلك فإنه عمد إلى التاريخ أكثر من مرّة منذ أن قدّم في مطلع أعماله «المتبارزان» The Duellists سنة 1977 (الذي كان أول أفلامه مخرجاً) مروراً بـ «أسطورة» ٬Legend عام 1985 ثم «1492: فتح الفردوس» 1492: Conquest of Paradise في عام 1992 وصولاً إلى «غلادياتور» و«مملكة السماء» حتى «آلهة وملوك».
لكن من الخطأ اعتبار المخرج والمنتج سكوت صاحب نزعة صوب الأفلام التاريخية. إذا قلت له ذلك، كما فعلت أنا، أجاب مصححاً: "أحب الأفلام بصرف النظر عن اتجاهاتها، بقدر ما أستاء من التصنيف الذي يتضمّنه مثل هذا السؤال".
الأكثر من ذلك، هو أن ريدلي سكوت من المخرجين الذين تعاملوا غالباً والشخصيات الرجالية في المقدّمة: هاريسون فورد في «بلايد رانر»، أندي غارسيا وآخرون في «مطر أسود»، توم كروز في «أسطورة»، راسل كراو في «غلادياتور»، كريستيان بايل في «هجرة: آلهة وملوك».
حتى في الأفلام القليلة التي أخرجها من بطولات نسائية ظهرت المرأة محاربة: في «ثلما ولويس» (1991) رأينا سوزان ساراندون والممثلة الجميلة المنسحبة جينا ديڤيز وجي، تواجهان مجتمعاً رجالياً بقوة. وفي «آي جين» مع ديمي مور نتعرف إلى إمرأة مجنّدة. وقبل هذين الفيلمين نالت سيغورني الإعجاب عن دورها في «غريب» Alien عن عالمة تواجه وحوش الفضاء.
مرحلة أولى
وُلد في ساوث شيلدز في بريطانيا بتاريخ 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 1937. منذ طفولته، يقول من كتب عنه البيوغرافات، أبدى اهتماماً بالفنون. في سن الحادية عشرة كان ملازماً لوالدته التي كانت تحب الأفلام. كانت تصحبه معها إلى كل فيلم تريد مشاهدته، في حين أن والده العسكري كان منصرفاً لشؤون الخدمة، وقليلاً ما وجد الوقت للاشتراك معهما في ارتياد صالات السينما.
على الرغم من ذلك، فإنه عندما حان الوقت لاختيار الوجهة التي سيقصدها ريدلي، وقد بات شاباً في التاسعة عشرة، كان والده الذي نصح له بعدم الانضمام إلى الجندية أو البحرية، كما كان ريدلي ينوي، بل الالتحاق بمعهد فني.
بناء على هذا التوجيه، التحق ريدلي بمعهدين متواليين، ليدرس فن التصميم الغرافيكي، وكان أول عمل له في مؤسسة "بي بي سي" مصمماً، حالما تخرج في "المعهد الملكي للفنون". لكن طموح ريدلي لم يكن في التصميم، بل في الإخراج، وهو أقنع المؤسسة العريقة بإتاحة المجال له لكي يدرس الإخراج، ثم - بعد تخرجه - العمل في محطتها التلفزيونية على مسلسلات وبرامج عدة، كان أشهرها برنامج من الستينات بعنوان Z Cars وكان من النوع البوليسي.
إنها فترة مبكرة وبداية مناسبة، للحديث إلى المخرج سكوت الذي جلس شابكاً يديه في مطلع الأمر، إلى أن فك التشابك واستراح أكثر، بعد السؤالين الأول والثاني.
- من ينظر إلى أعمالك التلفزيونية في الستينات، يجد أنها أساساً بوليسية وتشويقية. القليل منها يختلف. هل كان هذا اختيارك أم اختيار "بي بي سي"؟
• معظمها كان بوليسياً وتشويقيا بالفعل، وهذا المنهج كان نتيجة تجربة أولى منحتها الشركة لي، ونجحت بها، فأعادت الكرّة مرّة بعد مرّة. كان هناك نوع من التنميط في ذلك؛ ريدلي يعرف أكثر في البرامج التشويقية والحكايات المثيرة، ما يجعله صالحاً لمثل هذه الأنواع. هذا ليس غريباً ويحدث حتى الآن على نحو طبيعي. المخرج الذي يبدي نجاحاً في نوع ما تريد استثمار نجاحه في النوع ذاته.
- لكن حتى بعد انتقالك إلى السينما، حافظت على هذا الاتجاه.
• تستطيع أن تقول ذلك، لكن أفلامي ليست بوليسية كما كان حال بعض المسلسلات التي قمت بها؛ إنها - وأخمّن أنك تعرف ذلك جيداً - مختلفة منها التاريخي والتشويقي، وكذلك البوليسي. المواضيع التي تثيرني أكثر من سواها تكمن في هذه الأنواع.
- لكنك تركت تلفزيون "بي بي سي" في أواخر الستينات، وأسست شركة تصوير إعلانات.
• نعم. وجدت أن ذلك أجدى من الناحيتين المادية والمهنية. حررني من الاتكال على إيراد محدود في عملي السابق، وجعلني أقترب أكثر من فعل الابتكار. هذه هي مدرستي الفنية كما قلت أكثر من مرّة.
- كيف قررت إذاً أن الوقت حان لكي تتحوّل إلى مخرج سينمائي؟
• كانت النية موجودة دائماً، لكني أعتقد اليوم أنني كنت مرتاحاً في تأسيس نفسي في العمل مخرجاً ومصمماً إعلانياً. الشركة كانت - ولا تزال – ملكي، وكانت شركة ناجحة مكنتني - كما ذكرت - من الاستقلال مادياً. كذلك منحتني فرصة التعرّف إلى منتجين كثر. كانت هناك أكثر من رغبة في العمل مع أكثر من منتج، لكني التقيت سنة 1976، المنتج ديفيد بوتنام، وتباحثنا في عدد من الأفكار إلى أن استقرّ الرأي على «المتبارزان» الذي كان اقتباساً لرواية جوزف كونراد عن ضابطين متنازعين، عملا تحت إمرة نابليون، لكن حقد كل منهما على الآخر امتد لـ 16 سنة.
في البداية فكرت في ممثلين بريطانيين، لكني عندما بدأت التقليب بين الأسماء المتوافرة، اقترح ديفيد أن نستخدم ممثلين أميركيين، لكي نتيح للفيلم توزيعاً أفضل في الولايات المتحدة. كان الحق معه في ذلك، ولو أن الفيلم لم يوزع جيّـداً في أميركا الشمالية.
- الممثلان كانا كيث كارادين وهارڤي كايتل…
• نعم.
"إمرأة ولا كل الرجال"
من هذا الفيلم الجيد والمتواضع إنتاجياً، إلى واحد من أهمّ نجاحات السبعينات في مجال الخيال العلمي، ففي عام 1979 وجد نفسه في هوليوود مطلوباً لإخراج فيلم «غريب» Alien الذي تمحور حول رحلة فضائية تتعرض لغزو كائن غريب يستطيع التسلل بأشكال شتّى إلى داخل المركبة البعيدة.
- هل انتقلت بغرض تحقيق «غريب» إلى هوليوود؟
• لا؛ كان من المقرر أن أقوم بإخراج فيلم آخر قبل هذا الفيلم، لكن ذلك لم يتم.
- قرأت أن المخرج وولتر هِـل، كان المرشّـح الأول لهذا الفيلم.
• كان أحد المنتجين، وأحد المساهمين في كتابة هذا المشروع، وأعتقد أنه كان مطروحاً لإخراج هذا الفيلم، لكنه آثر البقاء منتجاً وتسلّمت المهمّـة عنه.
- هل توقعت النجاح الذي حالفه؟
• نعم؛ ولكن ليس بالقدر الذي حدث. قيل في بعض الصحف آنذاك إن نجاح «ستار وورز» أدّى إلى نجاح «غريب»، لكن هذا ليس صحيحاً؛ كل منهما مختلف جداً عن الآخر. «ستار وورز» كان فيلماً للترفيه، و«غريب» كان أبعد ما يكون عن الترفيه. كان فيلم رعب في الفضاء، وكان من المفترض به أن ينجح بين هواة النوع المرعب فقط، لكنه نجح بين فئات كثيرة من الناس. هذا ما لم يكن متوقعاً.
- بطلته امرأة … ولا كل الرجال.
• (يضحك) صحيح. لكن هذا لا يعني أنني أصنع أفلاماً حسب جنس دون آخر. أحب الأفلام بصرف النظر عن اتجاهاتها.
- لكن البطولة كانت معقودة لرجل. المرأة كانت ذات دور ثانوي؛ هذا قبل أن يتم تغيير السيناريو، هل هذا صحيح؟
• نعم؛ الذي حدث هو أن السيناريو الأول نص على أسماء موحدة جنسياً، مثل دالاس وريبلي وباركر، هذه وحدها لا تنصّ على جنس الممثل، ذكراً أم أنثى. الدور الذي لعبته سيغورني ويفر كان ريبلي، وكان مكتوباً على أساس أنه رجل. اخترت أن أعطيه إلى امرأة، لأنه لم يكن متوافراً في سينما هذا النوع، أفلام من بطولة نسائية.
- لكنها ليست مجرد أنثى هي امرأة قوية.
• نعم.
مشكلات أثناء التصوير
- بناءً على ما تقوله، فإن قيام الوحش بمحاولة زرع بويضاته في الأنثى، كان سبباً آخر في اختيار امرأة لقيادة الشخصيات الأخرى.
• ليس ضرورياً من هذه الزاوية التي تتحدّث عنها. الوحش كان قادراً على زرع بويضاته في أي شخص آدمي، لكن زرعها في جسد امرأة، يبدو منطقياً أكثر لنا.
- في كل الأحوال، هذه كانت واحدة من المرات القليلة التي منحت فيها البطولة لامرأة؛ لكن نساءك هم كالرجال: أقوياء ويجابهن التحديات مهما كانت عنيفة.
• نعم؛ لكن المسألة ليست بهذه السهولة. حين تقول أقوياء كالرجال، فإن ذلك يعني تحبيذ الرجل على المرأة، وهذا ليس وارداً عندي. لكنهن نساء قويات في الواقع هذا صحيح. من هذه الزاوية، فإن الوضع هو الذي يفرض من يتولّـي البطولة؛ أقصد بالوضع القصّـة المتاحة.
- هذا لا ينفي أن معظم أفلامك من بطولة رجال، رغم ذلك الأفلام القليلة التي حققتها من بطولة نسائية كانت جيّـدة. خذ مثلاً «ثلما ولويس»، امرأتان منكوبتان بوضع اجتماعي كابت، تقرران الانفلات منه، وفي النهاية الهرب إلى الأبد منتحرتين.
• هذه هي الحكاية، كما وضعتها كالي (كالي خوري، المؤلّـفة). هي التي أبرزت العامل النسائي أساساً. في هذه الحال، لا يمكن لمخرج أن يقلب الأدوار، ويسندها إلى رجال، لكنني كنت حذراً من أن أنزع عن سوزان (ساراندون) وجينا (ديڤيز) الأنوثة.
- قبل هذا الفيلم أنجزت فيلماً من الخيال العلمي أيضاً، هو «بلايد رانر» Blade Runner الذي يبدو أنك ستعود إليه في جزء جديد.
• الأمر وارد، لكن المسافة ما زالت بعيدة حالياً.
- الفيلم تعرّض لمشكلات كثيرة في التصوير. وهاريسون فورد، بطله، كرر آنذاك أنه "أسوأ تجربة خاضها في حياته". ما القصّـة الحقيقية هنا؟
• حسناً؛ كانت هناك خلافات في العمل، هاريسون لم يكن مرتاحاً خلال التصوير. أعتقد أنه كان يطمح إلى تقديم شخصية كثيرة المغامرات، لكني كنت أريد له أو لأي ممثل يلعب هذا الدور، أن يجسد شخصية أكثر واقعية، ولو أن الفيلم خيالي بالطبع. كانت له وجهة نظر لم أستطع الانسجام معها. في النهاية أنا المخرج، لكني أعتقد أنه غيّـر رأيه فيما بعد. لم يعد يقول إن «بلايد رانر» هو أسوأ تجربة مرّ بها.
نصير العرب
من خلال أعمال سكوت التى أرّخت لأهم الأحداث فى التاريخ (الحروب الصليبية على سبيل المثال فى فيلم مملكة الجنة) وأدهشت العالم اتخذ مواقف مناصرة للقضية العربية من القدس المحتلة وبرهن سكوت من خلال فيلمه أن العرب كانوا أكثر حفاظا على المقدسات المسيحية والإسلامية فى القدس من الأوروبيين.
- كانت لك متاعب مع مصمّمي المناظر، لكنها لا تبدو على الفيلم إطلاقاً.
• هذا كان تبعاً لاختلاف وجهات النظر أيضاً. أنا لم أكن أريد أن أمنح الفيلم ملامح سبق لأفلام أخرى أن قدّمتها. هذه لوس أنجلوس في عام 2019: مدينة مكتظة وتبعاً لتلوث البيئة وعوامل طبيعية أخرى تمطر بشدة طوال الوقت. داكنة. كذلك فإن المشاهد الداخلية أردتها مختلفة؛ هذا منظوري الخاص للعمل. نعم غيّـرت أفكاري أكثر من مرّة، لكن النتيجة على الشاشة كانت لمصلحة الفيلم. مصمّمو المناظر تمّ ترشيحهم للأوسكار نتيجة هذا العمل.
لا تقلق على الممثلين
المطر الشديد، من دون تلوّث الأجواء بالضرورة، ميّـز كذلك «مطر أسود»: فيلم بوليسي أدّى بطولته كل من أندي غارسيا ومايكل دوغلاس، والممثل الياباني كن تاكاكورا، وذلك سنة 1989 أي قبل «ثلما ولويس» بثلاية أعوام. في عام 1992 عاد إلى السينما التاريخية في ملحمة دارت حول حرب الاستقلال الأميركي من بريطانيا، وهو «1492: فتح الفردوس» الذي لم يحقق نجاحاً يوازي ضخامة طموحه. في عام 2000، قام بتقديم فيلمه التاريخي الأشهر حتى ذلك الحين «غلادياتور» مع راسل كراو وواكيم فينكس وأوليفر ريد (فيلمه الأخير إذ مات خلال تصويره) ورتشارد هاريس. وبناء على نجاحه أنجز الفيلم التاريخي الثاني الأشهر له وهو «مملكة السماء» Kingdom of Heaven، ولو أنه حقق فيلمين مهمين بينهما، هما «سقوط بلاك هوك» و«هانيبال».
- الأفلام التي حققتها منذ «بلاك هوك داون» تتناول قضايا سياسية. «بلاك هوك داون» عن أحداث حقيقية وقعت في الصومال. «مملكة السماء» عن الحملة الصليبية، وبعده «كيان من الأكاذيب» عن "السي آي إيه" وملاحقة الإرهابيين، واخيراً «هجرة: آلهة وملوك».
• «آلهة وملوك» سياسي؟
- يمكن تفسيره كذلك بسهولة.
• إنه يلقي نظرة على أسباب أخرى للصراع بإسم الدين، لقد كتب كثُر أنه فيلم ديني، لكني لا أعتقد ذلك، وفاجأتني بالقول إنه فيلم سياسي، هذا أقرب إلى الفيلم من القول إنه فيلم ديني. لم أكن في وارد تحقيق فيلم عن النبي موسى، ولا أن أتحدث عن رسالته الدينية، ولا أعتقد أنني فعلت ذلك. ما قررت القيام به هو استخدام ذلك الصراع بين دينين واحد قديم وآخر جديد، دار بين طرفين متحاربين، للإيعاز بأن الحروب كلها تتمحور حول أسباب أخرى غير الدين، ولو أنها تتمسّـح بالأديان كثيراً.
- أهذا ما أردت الوصول إليه في «مملكة السماء»؟
• أعتقد أن ذلك جليّ فيه أيضاً. ذلك فيلم سياسي، لكن ليس بالمعنى المتداول بسهولة. الحملة الصليبية كانت دوافعها مختلفة، فيها قسط من الدين، لكنها لم تكن لأجله. كانت لأجل الاستعمار في الواقع. الوصول إلى أراض بعيدة تحت ستار استعادتها من الكفار المسلمين، لكنها كانت اقتصادية وسياسية، كما الحال في معظم الحروب حول العالم.
- كيف اخترت ممثليك لهذين الفيلمين تحديداً؟
• لا تقلق على الممثلين؛ هم لا يفعلون أكثر من حفظ الأسطر. اقلق عليّ أنا؛ اسألني كيف كان عليّ الاهتمام بكل تفصيل من أشرطة الأحذية إلى كيف سيتمّ إخراج الفيلم للجمهور.
- جزء من تحقيق الغاية هو التمثيل، قد يكون مقنعاً أو لا يكون.
• لكنه يعود إلى عاملين مرتبطين بالمخرج: هو من عليه أن يختار الممثل، لمعرفته بما إذا كان يناسب الدور أم لا. إذا كان يصلح للتمثيل في هذا الإطار وفي تلك الشخصية. وهو من عليه أن يديره، ليتأكد من أن هذه الصلاحية ممارسة جيّـداً.
اليوم والأمس
- بعض أفلامك الأخيرة تتواصل والعالم العربي؛ هل تقرأ عنه؟ هل يثيرك تاريخه أو حاضره؟
• يثيرني العالم بأسره وما يمرّ به اليوم. ما يمرّ به اليوم، هو ما مر به بالأمس أيضاً؛ أقصد أن أقول إننا اليوم هنا، وهنا هي أي مكان وأي ظرف تريد، لأننا سرنا في دروب أوصلتنا إلى هذا الحاضر. ما يقع عندكم الآن هو جزء من رحلة طويلة اشترك فيها الجميع. العالم بأسره متورط بكل رحلة تؤدي إلى قلاقل وحروب، لأن هناك رغبات كثيرة تتوالد عند الكثير من الأطراف، وعندما تقع حرب ما، أينما كان، يكثر الذين يريدون الاستفادة منها على نحو أو آخر.
- ذكرت أنت ذات مرّة، أن العالم هو أعنف من السينما.
• جداً. لا مجال للمقارنة؛ ما تراه على الشاشة تعرف أنه خيالي. تستطيع أن تترك الفيلم وتخرج منه، وتستقبل حياتك الحقيقية. العنف الذي يقع في تلك الحياة لا يمكن الخروج منه. في السينما هناك ممثل يسقط قتيلاً، ينهض بعد التصوير ويكمل حياته، في الواقع من يسقط قتيلاً لا ينهض بعد ذلك مطلقاً.
- هل يثيرك التاريخ مادةً للدراسة.
• طبعاً.
- والحاضر؟
• كل يوم في الصباح أشاهد 15 دقيقة من CNN. في اعتقادي أنها كافية لتضعني في اتصال مع الواقع الحاضر، تكفيني لمعرفة ما يحدث اليوم، لأن ذلك متصل بالماضي الذي لا يبدو أننا نتعلم منه أي شيء.
- لا شيء؟
• لا شيء على الإطلاق. عندكم في الشرق الأوسط ما يحدث اليوم هو نفسه ما حدث قبل 3000 سنة.
- في المدّة الأخيرة، وقبل خروج «هجرة…»، كثرت الأفلام الدينية التي تدور في رحى الماضي، أو تلك التي تدور في الحاضر. هل تعتقد أن ما يحدث في العالم العربي من حروب سبب أساسي في هذا الانتشار؟
• كل الأديان تشترك في إيمانها بالحياة بعد الموت. كلها عن الحياة بعد الموت. حتى الأديان القديمة قبل اليهودية، حتى الدين عند الفراعنة، كان عن الحياة بعد الموت. وهناك الكثير من الشواهد على ذلك. أعتقد أن الحياة المعاصرة، بما فيها الكاثوليكية، والكنيسة عموماً، تعايش وضعاً صعباً، لأن الناس تغيّـرت. ما عادت تفكر في الحياة بعد الموت. هذا تأثير مهم ناتج عن التقدم التقني الذي نعيشه.
- هل تنظر إلى أعمالك نظرة مخرج سينما تاريخية، أو سينما خيالية أو سواها؟
• لا أوافق على هذا التقسيم؛ أحب الأفلام بصرف النظر عن اتجاهاتها، بقدر ما أستاء من التصنيف الذي يتضمّنه مثل هذا السؤال. نعم هناك مخرجون كثُر تخصصوا بنجاح (جون) فورد في سينما الوسترن، هيتشكوك في سينما التشويق، لكنّني من الذين ينجزون أفلاماً مختلفة، كما ذكرت أنت طابعها الجامع تشويقي وحركة، لكنها جميعاً سينما مفتوحة على أنواع مختلفة لا حدود لها. هذا اختياري الخاص.
- أنت صاحب أكثر من 140 فيلماً من إنتاجك، من بينها أفلام لك مخرجاً، ألا يأخذ الإنتاج من وقتك مخرجاً؟
• طبعاً، لا ريب، لكني لا أفرق كثيراً بين الناحيتين. المنتج اليوم هو أكثر من أي وقت مضى على صلة بالإخراج، هو من يحدد وجهة الفيلم النهائية.
- لكنك عانيت من تدخل بعض الشركات في أعمالك، عندما كنت مخرجاً فقط؛ «بلايد رانر» مثالاً.
• (يضحك) نعم؛ كان هناك خلاف في وجهة النظر، هذا طبيعي، لكن لهذا السبب أمارس الإنتاج بحب، وأهتمّ بما يريد المخرج تحقيقه. هو لا يزال فيلمه، لكن دوري التأكد من أنه لا يمارس هذه الملكية على نحو قد لا ينجز النجاح المطلوب.