من أوكسفورد إلى الفضاء.. رحلة فلك تجسّد حلم علمي سعودي
انطلقت فكرة مهمة فلك السعودية في خريف عام 2023 عندما كان الدكتور أيوب الصبيحي، مدير المهمة والباحث الرئيسي فيها، يشارك في برنامج بجامعة أوكسفورد بعنوان "الطب في الفضاء". البرنامج استعرض كيف تفتح بيئة الجاذبية الصغرى آفاقًا جديدة أمام الطب والتقنيات الحيوية، ما أثار فضول الصبيحي، خاصة عند مشاهدته لتقنية "المكعبات البحثية".
من هذا التساؤل البسيط: "لماذا لا توجد تجربة بحثية سعودية تستخدم هذه التقنية؟"، وُلد مشروع فلك بوصفه أول تجربة علمية سعودية تُنفّذ باستخدام المكعبات البحثية لدراسة المايكروبيوم العيني في الفضاء، لتبدأ مسيرة غير تقليدية تجمع بين الطموح العلمي والريادة الوطنية.
التحديات الأولى: لا طريق جاهز، فصنعوه بأنفسهم
واجه الصبيحي وفريقه تحديًا جوهريًا في بداية المشروع، حيث لم يكن هناك إطار مؤسسي أو جهة محلية يمكن الرجوع إليها لدعم الفكرة أو تطويرها. غياب المسار كان العقبة الأبرز، وليس غياب الفكرة أو ضعفها. أمام هذا الواقع، قرر الفريق بناء المسار من الصفر، ونجحوا في الحصول على دعم مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية لتكون المظلة الإشرافية.
كما انضمت مؤسسة مسك من خلال برنامج حاضنة المبادرات، ومجلس أثر الشباب، لتشكيل شبكة دعم مؤسسي سمحت بتحول المشروع من تصور فردي إلى مهمة علمية فعلية. هذه المبادرات لم تكن فقط تمويلية، بل مثلت بيئة حاضنة لتفكير علمي مستقل ومتجدد، وهو ما تطلبته مغامرة علمية بحجم "فلك".
التحوّل من خيال إلى واقع.. لحظة انطلاق Falcon 9
استعاد الدكتور الصبيحي اللحظة التي أرسل فيها أول رسالة توثيقية لفكرة فلك، وكان حينها يحمل حلمًا أكثر منه خطة علمية واضحة. ولكن الإصرار والرؤية تحوّلا إلى مشهد حقيقي: صاروخ Falcon 9 ينطلق حاملًا المكعبات البحثية التي تجسد أول تجربة سعودية في هذا المجال.
هذه اللحظة، كما وصفها الصبيحي، لم تكن مجرد تحقق لحلم، بل نقطة تحول في نظرة الشباب السعودي للعلم. أصبحت الصورة النمطية عن أن الفضاء مجال بعيد المنال تُستبدل بمشهد علمي واقعي، يُلهم الأجيال القادمة ويضعهم في قلب التجربة لا على هامشها.
تفاصيل الدراسة: تحوّلات بكتيرية في بيئة انعدام الجاذبية
تتضمن التجربة دراستين: واحدة تابعة، وأخرى مستقلة، وتعتمد على عينات بكتيرية مأخوذة من مسحات عينية، تم حفظها قبل الإطلاق، وستُحلل بعد العودة من الفضاء. تهدف الدراسة إلى مقارنة التغيرات الجينية والتمثيل الغذائي للبكتيريا، والتعرف على مدى تأثرها ببيئة الجاذبية الصغرى.
ويرى الصبيحي أن أهمية هذه الدراسة تكمن في تقديم سياسات طبية مستقبلية لحماية أعين رواد الفضاء، فضلًا عن تقديم بيانات نوعية حول التغيرات الأيضية في البكتيريا، ما يفتح المجال لتصميم عدسات ومواد بصرية مقاومة لهذه التحولات، وهو ابتكار قد تكون له تطبيقات واسعة على الأرض أيضًا.
اقرأ أيضًا:التفاصيل الجديدة عن مهمة الفلك السعودية: تحليل ميكروبيوم العين في الفضاء
مهمة فلك: من المجتمع وللمجتمع العلمي
وصف الدكتور الصبيحي مهمة فلك بأنها وُلدت من حاجة واقعية عبّر عنها الطلبة والباحثون السعوديون، الذين يطمحون للمشاركة الفعلية في أبحاث الفضاء بدل الاكتفاء بالمراقبة. وقال: "نؤمن في فلك أن التأثير يبدأ من القرب من المجتمع، لذلك صممنا برامجنا لتخدم الشباب والباحثين أولًا، والخبراء ثانيًا".
وفي ختام حديثه، أشار إلى أن المملكة تملك فرصة فريدة لتكون لاعبًا محوريًا في مجال الفضاء، ليس فقط عبر إرسال الرواد، بل من خلال بناء منظومة علمية وطنية ترتبط بالمنصات الدولية وتدعم الأبحاث التطبيقية طويلة الأمد. ومهمة "فلك" تمثل نموذجًا عمليًا لهذا التوجه المستقبلي الطموح.