الأونسن والحمامات اليابانية: تجربة استحمام تُعيد ضبط الجسد والروح
الأونسن أكثر من مجرد ينبوع مياه حارة، إنه تجربة ثقافية اجتماعية، لها جذورها التاريخية في نسيج التراث الياباني، فعلى مر العصور، كانت هذه الينابيع ركناً أساسياً في الثقافة، ليس لفوائدها العلاجية فحسب، بل لطقوسها التطهيرية التي تجدد الجسد والعقل، وتعيد التواصل مع الطبيعة.
من أصولها ومكانتها في الطقوس التطهيرية التاريخية التقليدية، إلى دورها الحديث كمراكز للعافية، تعكس الأونسن مزيجاً فريداً من الجمال والثقافة والتجدد الجسدي والروحي.
ثقافة السبا في اليابان

تتداخل ثقافة السبا اليابانية بعمق مع النسيج الاجتماعي والتاريخي والروحي للبلاد، وهي جزء أساسي من الحياة اليومية، حيث تمزج بين التقاليد الروحية والممارسات الاجتماعية وطقوس العافية.
وتعود جذورها إلى المعتقدات الشتوية القديمة، حيث كانت الينابيع الساخنة "أونسن Onsen" والحمامات العامية "سينتو Sento" تعد أماكن مقدسة، يتضح فيها البشر مع الكامي أو الأرواح التي تسكن العناصر الطبيعية كالبراكين والجبال.
ولم تكن المياه الجوفية الحارة مجرد موارد طبيعية، بل هبات إلهية، وكانت طقوس الاستحمام فيها تمارس كوسيلة لتطهير الجسد والروح.
ومع وصول البوذية إلى اليابان في القرن السادس، تعمقت الأهمية الروحية للحمامات، حيث دمجت المعابد البوذية والحمامات الخاصة، مؤكدة على النظافة كطريق نحو التنوير، وموفرة مساحات للحجاج لتجدد الجسد والروح.
تطورت الثقافة على مر القرون مع التحولات الاجتماعية، فخلال فترة هييان (794- 1185)، أصبحت الينابيع الساخنة ملاذاً للنخبة الأرستقراطية، حيث جمعت بين الترفيه والاستخدام العلاجي.
ومع حلول فترة إيدو (1603- 1868)، انتشرت الحمامات العامة "سينتو"، التي تحولت إلى مراكز اجتماعية يختلط فيها الناس من جميع الطبقات، وباتت الينابيع الساخنة متاحة للجميع، ولم تعد حكراً على طبقة محددة.
في حقبة ميجي الإصلاحية (1868- 1912)، تم تبني ممارسة النظافة الغربية، ما شكل تحدياً للتقاليد الجماعية للاستحمام، ولكن الأونسن صمدت كملاذات محبوبة متكيفة مع الأذواق الحديثة، مع الحفاظ على دورها العلاجي والاجتماعي.
في اليابان المعاصرة، لا تزال الحمامات تلعب دوراً حيوياً في المجتمع والهوية والوطنية، وتجذب مدن الأونسن مثل هاكوني وكوساتسو السياح، بينما تحافظ الحمامات العامة ذات الطراز القديم في المدن على الروابط الاجتماعية.
اقرأ أيضًا: بين إبداع الطبيعة وسحر الأساطير.. أغرب الأماكن على وجه الأرض
أنواع الأونسن وفوائدها
تصنف الينابيع الساخنة اليابانية وفق محتواها المعدني ونمط الاستحمام، حيث لكل نوع منها العديد من الفوائد الصحية، ورغم اختلاف الفوائد الفردية، فإن جميعها يسهم في تخفيف التوتر، وتحسين الدورة الدموية، وتخفيف آلام العضلات وتعزيز صحة الجلد، بالإضافة إلى ذلك هناك التجديد النفسي والروحي، حيث تمثل هذه الحمامات مساحة للتواصل والتأمل والارتباط بالطبيعة.
- الينابيع الكبريتية:
معروفة برائحتها المميزة، بسبب محتواها من الكبريت، وبلونها الذي يميل إلى الأصفر، وهي تعالج مشكلات البشرة مثل الأكزيما، وتخفف من آلام المفاصل، ويوصى بها لعلاج ارتفاع ضغط الدم.
- ينابيع الكربون (ثاني أكسيد الكربون):
مياه طبيعية غنية بالكربون، لونها شفاف للغاية، مع فقاعات تظهر على السطح، وهذه النوعية من الينابيع تنشط الدورة الدموية، تخفض ضغط الدم، وتقلل من الاجهاد العضلي، ورغم كون المياه دافئة لكنك قد تشعر بالبرودة.
- الينابيع الحديدية:
لونها يميل إلى البني أو الأحمر، وتملك رائحة معدنية خفيفة، وذلك بسبب تأكسد الحديد، وعليه يمكنها أن تترك بقعاً على الملابس أو المناشف، وهي تحسن الدورة الدموية، وتساعد في مكافحة فقر الدم، ما يجعلها مثالية للذين يعانون من انخفاض معدلات الطاقة.
- الينابيع المالحة:
قد تكون شفافة أو مائلة للصفرة، وذلك وفق مستويات الملح فيها، وغالباً ما تستخدم لعلاج مشكلات الجهاز التنفسي، وللتخفيف من الآلام.
- الينابيع الهيدروجينية الكبريتية:
رائحتها أقوى من رائحة الينابيع الكبريتية العادية، ولونها يتنوع بين الحليبي الأزرق أو الأبيض، وتستخدم لتهدئة الجهاز العصبي وللعلاجات الجمالية، وذلك لكونها مفيدة جداً للبشرة، وهذه النوعية موجودة في المناطق البركانية.
- الينابيع المشعة:
من الينابيع النادرة، إذ إنها تحتوي على كميات طبيعة صغيرة من الراديوم، وبالتالي تنتج إشعاعات منخفضة آمنة، تجدد الخلايا وتساعد في علاج الروماتيزم والنقرس وتحسن الدورة الدموية، ما يساعد على مكافحة التعب والإرهاق، ويفضل عدم تكرار العلاج هذا خلال فترات زمنية قصيرة، كما ينصح بعدم البقاء في المياه لفترات طويلة.
ويقسم الأونسن وفق نمط الاستخدام أيضاً كالتالي:
- روتنبورو Rotenburo - الاستحمام في الهواء الطلق:
تجربة مثالية في كل الفصول، محاطة بالطبيعية سواء الغابات أو الأنهار، ما يوفر مناظر خلابة أثناء الاسترخاء، وينصح بتجربتها خلال فصل الشتاء، وذلك لاختبار متعة التباين بين حرارة المياه وبرودة الطقس وسط الثلوج.
- كاشيكيري Kashikiri - الاستحمام الخاص:
هذه النوعية تكون للعائلات فقط أو الأزواج، ما يوفر الخصوصية، كما أنها تكون أكثر هدوءاً من الأنواع الأخرى.
- أوتاسي يو Utase-yu - حمامات الشلال:
النمط هذا مثالي لمن يعانون من آلام الكتفين والظهر، وذلك لأن المياه الحارة الهابطة من المرتفعات توفر الضغط المثالي للتخفيف من الألم والتوتر.
- سونابورو Sunaburo - حمامات الرمل:
نوع رديف يضاف إلى الأونسن، خصوصاً تلك المتواجدة في المناطق الساحلية، حيث يستحم الأشخاص في رمال دافئة تسخنها الحرارة الجوفية البركانية، من أجل التخلص من السموم.
- الأونسن التاريخية:
هذه النوعية لها بعدها الثقافي والتاريخي، وهي ينابيع ارتبطت بأساطير أو احداث تاريخية، مثل “داي - تشان - يو” في كيوتو، التي يقال أنها استخدمت من قبل الساموراي للاستشفاء بعد المعارك.
أونسن الكهوف:
الينابيع الحارة هذه تتواجد في كهوف طبيعية أو اصطناعية، وهي مثالية للباحثين عن العزلة والهدوء.
إتيكيت الأونسن
تجربة الأونسن تتجاوز النظافة الجسدية إلى طقوس التأمل والسكينة، هناك مجموعة من الآداب الصارمة التي يجب اتباعها، ومنها:
- يجب الاستحمام جيداً قبل دخول المياه.
- يمنع إدخال المناشف أو أي أدوات داخل الحوض.
- يمنع السباحة أو تناول الطعام في الحوض.
- يمنع التحدث بصوت مرتفع.
والصمت هنا ليس مجرد قاعدة، بل عنصر أساسي للتأمل، ولعل بعض الأماكن تطلب من زوارها التزام الهدوء التام، خصوصاً تلك الموجودة في الجبال أو المعابد أو النزل التقليدية، لإتاحة الفرصة للانغماس في التأمل الداخلي، فالصمت شكل من أشكال الاحترام للذات وللطبيعة وللآخرين، ويمثل لغة مشتركة للعديد من هذه الأماكن، وذلك لأن المياه تعتبر مصدر للتطهير الجسد والذهن والروح، وبعيداً عن الضوضاء تبدأ عملية الشفاء الصامت.
اقرأ أيضًا: طبيعة ساحرة وفخامة آسرة.. أفضل فنادق السبا في جنوب فرنسا
ما الفارق بين الأونسن والمنتجعات الصحية؟

باختصار شديد، المنتجعات الصحية تدللك، بينما الأونسن يطهرك، فالأولى تمنحك هروباً مؤقتاً، أما الثانية فتقوم بإعادة ضبط جسدية وروحية لك.
الأونسن تقدم تجربة علاجية فريدة تتجاوز الاسترخاء الجسدي، وفي حين تضيف المنتجعات الزيوت والاملاح للمياه فإن الأونسن تعتمد على المعادلة الطبيعية الموجودة في المياه، بالإضافة إلى ذلك، توفر تجربة ثقافية وروحية وتاريخية، ترتبط باعادة التوازن والصمت والتأمل والتواصل مع الذات.
في المقابل، تركز المنتجعات على التدليل، كالعلاجات الجمالية والتقشير والتدليل وغيرها، بينما تستخدم الأونسن لعلاج حالات صحية كالتهاب المفاصل وأمراض الجلد وغيرها، وعليه فإن تمثل جزءًا من روتين العافية للكثيرين، خلافًا لرحلات السبا العادية، التي تشكل جزءاً من تدليل الذات.
حمامات السنتو
هي حمامات عامة، يستخدمها اليابانيون والسياح على حد السواء، وكان لها دورها الاجتماعي الكبير، حيث شكلت البوتقة التي تنصهر فيها كل الطبقات الاجتماعية، وحالياً ما تزال تلعب دورها في تعزيز الروابط الاجتماعية، وخلافاً للأونسن، فإن هذه الحمامات تتواجد في المناطق الحضرية، وتكلفتها منخفضة بشكل عام.
تشمل حمامات السنتو عادة منطقة لتغير الملابس، ومحطات غسيل تحتوي على مقاعد انتظار وأحواض كبيرة، بمياه بدرجات حرارة مختلفة، وبعض المنشآت الحديثة تقدم مرافق إضافية مثل الساونا.
تتبع هذه الحمامات قوانين صارمة، منها غسل الجسم جيداً قبل الدخول، واحترام الأجواء الهادئة، وغيرها من القواعد الأخرى.
أما الأنماط الحديثة منها، فقد باتت أقرب إلى المنتجعات لناحية الخدمات الأخرى التي توفرها، من مطاعم ومصادر للترفيه، ولكنها ما تزال تحتفظ بجوها الأساسي، وتوفر للسياح فرصة لاختبار الحياة اليومية اليابانية وتقاليدها عن كثب.