من الساعات الذكية إلى الشرائح الدماغية: التكنولوجيا القابلة للارتداء تُشكل المستقبل
بداية من الساعات، ومرورًا بالنظارات، وليس انتهاءً بالمنسوجات الذكية، تَعِد "التكنولوجيا القابلة للارتداء Wearable technology" بتغيير المشهد التقني العالمي، لِما تلعبه من دورٍ محوري في قطاعات عدة مثل القطاع الصحي، والصناعي، والرياضي، وغيرها من القطاعات.
واليوم، يعتمد على هذه الأجهزة غالبية البشر، خاصة أن أسعارها تنخفض مع الوقت، فما المميز بشأنها؟ وكيف يبدو مستقبلها؟ وهل هناك عثرات في طريقها؟ نُجيب على كل هذا وأكثر في السطور التالية.
ما هي التكنولوجيا القابلة للارتداء؟
يُقصد بالتكنولوجيا القابلة للارتداء، أو تكنولوجيا المواد القابلة للارتداء، فئة الأجهزة الإلكترونية التي يمكن ارتداؤها كإكسسوارات مُنفصلة، أو الإكسسوارات التقنية المُدمجة بالملابس، أو المزروعة في الجسم، أو الموشومة عليه.
وإذا فكرنا في طبيعة هذه الأجهزة، فسنجد أنها مختلفة عن الهواتف والحواسيب، وغيرها من الأجهزة غير القابلة للارتداء، وذلك لأنها لا تحتاج إلى استخدام يدوي صريح، كما أنها مزودة بمعالجات دقيقة، وتتمتع بالقدرة على إرسال واستقبال البيانات عبر الإنترنت.
وتلعب التكنولوجيا القابلة للارتداء دورًا رئيسًا في تشكيل المستقبل التقني عمومًا، وإنترنت الأشياء IoT خصوصًا، وذلك لقدراتها ومميزاتها الكثيرة التي سنعرفها تباعًا.
بدايات التكنولوجيا القابلة للارتداء
يمكننا أن نُعزي البداية إلى الوقت الذي ظهرت فيه النظارات لأول مرة في القرن الثالث عشر، ومن بعدها اختراع الساعات، غير أن التكنولوجيا القابلة للارتداء بمفهومها الحديث تتميز بوجود معالجات دقيقة كما ذكرنا، إضافةً إلى قدرتها على الاتصال بالإنترنت.
وبفضل تطور شبكات الهاتف المحمول، نَمَت تكنولوجيا المواد القابلة للارتداء، وكانت أجهزة تتبع النشاط البدني هي أول موجة حقيقية لهذا النوع من التكنولوجيا التي أسرت المستهلكين، بعد ذلك ظهرت الساعات الذكية، التي أصبحت قادرة على تشغيل عددٍ من تطبيقات الهواتف المتقدمة، واليوم، وصل بنا الأمر إلى الشرائح الإلكترونية -مثل شريحة Neuralink- التي تُزرع في الدماغ، وتعد بتطوير قدراتنا العقلية والجسدية.
الابتكارات الجديدة في مجال الأجهزة القابلة للارتداء
- الساعات الذكية:
صحيحٌ أنها لم تعد إحدى صيحات العصر كما كانت في السابق، غير أنها تتطور، وسوقها ضخمٌ جدًا، حيث تُعد الأكثر انتشارًا واستهلاكًا ضمن الأجهزة القابلة للارتداء.
وكما نعرف جميعًا، تستطيع الساعات الذكية اليوم قياس المؤشرات الحيوية مثل: معدل نبض القلب والتنفس، ودرجة الحرارة، ومستويات الأكسجين في الدم، ناهيك بأنها تعرض جميع الإشعارات والمكالمات والبيانات المهمة الأخرى طبعًا.
وتُعد Apple، وSamsung، وHuawei، وFitbit من أشهر الشركات الرائدة في مجال الساعات الذكية، وهم المهيمنون على السوق في الوقت الراهن.
اقرأ أيضًا: ما هي فوائد الخواتم الذكية؟ وهل تستحق الشراء؟
- أجهزة مراقبة الصحة واللياقة:
على الرغم من أن الساعات الذكية المتطورة تستطيع تتبع بعض المؤشرات الحيوية، فإنها ليست بدقة وتخصص "أجهزة مراقبة الصحة واللياقة Health and fitness trackers" نفسهما، التي لديها شهرة ذائعة الصيت، ولكن في السوق المستهدف، ومؤخرًا في كل الأسواق التقنية.
وقد جرى تصميم هذه الأجهزة على نحو خاص للرياضيين المحترفين والهواة على حدٍ سواء، وذلك لتتبع قياساتهم الحيوية بدقة كبيرة، فضلاً عن قياسات أخرى مثل السرعة، والمسافة، والعمق، والارتفاع.
وعلى عكس ما قد يتوقعه البعض، فإن هذه الأجهزة ليست حِكرًا على الأغنياء، فوفقًا لأحد التقارير، استخدمت 30% من الأسر ذات الدخل المتوسط في الولايات المتحدة أجهزة تتبع اللياقة البدنية في عام 2022.
- نظارات الواقع الافتراضي والمُعزز:
تعمل تقنية الواقع الافتراضي VR على إحياء العالم الرقمي، حيث تسمح للمستخدمين بالانغماس في بيئةٍ اصطناعية، مُنشأة بواسطة الحاسوب، والتفاعل معها في الوقت الفعلي.
والشيء نفسه بالنسبة لتقنية الواقع المُعزز AR، غير أنها أكثر تقدمًا وتعقيدًا من الواقع الافتراضي، إذ تكون درجة التفاعل مع المحيط أكبر، وإن كان الواقع المعزز جزء من مفهوم الواقع الافتراضي.
من أشهر الشركات البارزة في مجال نظارات الواقع الافتراضي والمعزز نجد: HTC، وSony (ونظاراتها PS VR)، وValve، وMicrosoft، وMeta، ومؤخرًا Apple.
- السماعات الذكية:
تُصنف من الـ"Hearables"، أو الأجهزة السمعية، وهي الأجهزة الإلكترونية المُصممة على نحو خاص لوظائف تتعلق بالصوت.
وفي الولايات المتحدة، يُعاني 1 من كل 7 بالغين مشكلات بحاسة السمع، والأمر يتفاقم، ولهذا لا عجب أن مشكلة فقدان السمع توصف الآن على أنها وباء متزايد.
وعلى عكس السماعات العادية، يمكن لهذا النوع من السماعات مساعدة 80% من ذوي الاحتياجات الخاصة، الذين يعانون ضعف السمع.
تطبيقات عملية على التكنولوجيا القابلة للارتداء
تطورت التقنيات القابلة للارتداء كثيرًا في السنوات الماضية، واستخدامها أصبح شائعًا أكثر من أي وقتٍ مضى، وذلك في جميع المجالات، على سبيل المثال:
1. في ولاية كنتاكي الأمريكية، يتم استخدام أجهزة قابلة للارتداء تُصنعها شركة AIR Louisville لمراقبة جودة الهواء المحلي، وقياس نسبة الملوثات، وتحديد المناطق الحارة التي قد لا تلائم من يعانون مشكلات في الجهاز التنفسي.
2. طوّرت شركة Cyrcadia Health جهازًا يُسمى "Cyrcadia Breast Monitor"، وهو عبارة عن رقعة ذكية توضع على الجسم، لاكتشاف العلامات المبكرة لسرطان الثدي، ونقل المعلومات الحيوية إلى المختبر لتحليلها.
3. على ذكر المراقبة الطبية، فهناك أجهزة مخصصة لذلك، وتكون عبارة عن أسوار أو قلائد يرتديها الشخص لتذكيره بمواعيد الدواء مثلًا، أو لإرسال التنبيهات للطبيب المختص حال حدوث أي مشكلة صحية.
4. ومن الابتكارات التكنولوجية الجديدة أيضًا الوشوم الذكية، التي تحتوي على أجهزة استشعار إلكترونية مرنة لمراقبة نشاط القلب والدماغ، واضطرابات النوم، وفحص وظائف العضلات. والجدير بالذكر أن هذه الوشوم -النادر وجودها- هي وشوم مؤقتة على عكس الوشوم المعروفة، ولكن بفضل تطور البحث العلمي، من المتوقع أن يصل المختصون إلى وشومٍ ذكية دائمة.
كيف ستغير التكنولوجيا القابلة للارتداء حياتنا؟
يمكننا أن نعرف الجواب إذا أخذنا نظرة سريعة على القطاعات التي تُستخدم فيها هذه التكنولوجيا بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، ومنها:
- القطاع الصحي:
يتبنى قطاع الرعاية الصحية التكنولوجيا القابلة للارتداء بمستويات غير مسبوقة، لتحسين جودة الرعاية الطبية، التي أوضحت الجائحة أنها يجب أن تُقدَّم عن بُعد، أضف إلى ذلك، أن هناك عددًا كبيرًا من الأشخاص يعانون ضعف الحركة، ولا يستطيعون الوصول بسهولة إلى العيادات للاطمئنان على أنفسهم.
كذلك توفر الأجهزة القابلة للارتداء رعايةً صحية وقائية أو استباقية، كما تُفصل تجربة الرعاية حسب حالة المريض وتشخيصه، وبفضل أجهزة الاستشعار، يمكن اكتشاف الأعراض المبكرة للأمراض بناءً على الأنماط التاريخية، ولا تنسَ المميزات التي ذكرناها بالأعلى والموجودة بالساعات الذكية، وبدرجةٍ أكبر في أجهزة مراقبة الصحة واللياقة المتخصصة.
- مجال الرياضة:
يستخدم الرياضيون المحترفون، وحتى الهواة، الأجهزة القابلة للارتداء لتتبع مستواهم ومدى تقدمهم في تمارينهم، وعن طريق مراقبة مجموعة كبيرة من العلامات الحيوية مثل معدل ضربات القلب وضغط الدم، بالإضافة إلى تعقب النوم والحركة ومستوى الإجهاد، سيتمكن الرياضيون من فهم أدائهم بشكلٍ أفضل، ومن ثم تحسينه.
هذه الفوائد ستكون مفيدة جدًا لممارسي الرياضات الخطرة تحديدًا، مثل "الفورمولا 1"، والغوص، وتسلق الجبال، وغيرها من الأنشطة، فممارسو هذه الرياضات يتعرضون لظروفٍ قاسية، وكثيرًا ما يواجهون مستويات عالية من التوتر والتحديات الصحية الكبيرة، ومن ثم فإن استخدامهم لهذه الأجهزة يمكن أن يُنقذ حياتهم.
اقرأ أيضًا: لماذا يخشى العلماء من زرع الشرائح الدماغية الخاصة بشركة "Neuralink"؟
- الإغاثة والحماية المدنية:
حتى في مجالٍ كهذايمكن أن تكون الأجهزة القابلة للارتداء مفيدة للغاية، فالكوارث لا تهدد حياة الضحايا فقط، وإنما المُستجيبين لها أيضًا، وذلك يمكن أن يرجع لطبيعة الكارثة أو الظروف البيئية، إلخ، وعادةً ما يرتدي المُنقذون ملابس مُخصصة ضد الظروف القاسية، وأغلب الظن أن هذه الملابس تُجهد مرتديها بشكلٍ أو بآخر، لدرجة أنها قد تتسبب بالوفاة!
ففي عام 2013 على سبيل المثال، تُوفي 3 جنود في سلسلة جبال "Brecon Beacons" الويلزية وهُم يرتدون ملابس تدريب مُجهدة، نتيجة للحرارة الشديدة في ذلك اليوم، وربما لو كان هؤلاء الجنود يرتدون الأجهزة الذكية المذكورة لاستطاعوا أن يُنقذوا أنفسهم، علاوة على ذلك، ظهرت بدلات مُزودة بمستشعرات ذكية تُنبه مرتديها في حال وجود أخطار مُحتملة، حتى لو كانت أخطارًا كيميائية، أو بيولوجية، أو إشعاعية، أو نووية (CBRN).
- الصناعات المختلفة وسلامة الموظفين:
ويُمكن تطبيق نفس الفوائد المذكورة بالأعلى على المهن والصناعات التي تتطلب مستوى عالٍ من النشاط البدني؛ في هكذا بيئات، حيث يجب على أصحاب الأعمال أن يزودوا موظفيهم بأجهزة قابلة للارتداء، قادرة على قياس مستويات إجهادهم ومراقبة قياساتهم الحيوية على مدار الساعة للتأكد من سلامتهم.
مستقبل التكنولوجيا القابلة للارتداء
شهد سوق الأجهزة القابلة للارتداء إقبالاً كبيرًا في السنوات الماضية؛ ففي عام 2020، بلغت قيمة هذا السوق نحو 32.63 مليار دولار. وفي 2025، من المتوقع أن يصل هذا الرقم إلى 74.03 مليار دولار، أي بمعدل نمو سنوي مركب نسبته 18.6%.
وبعيدًا عن الأرقام، فمن المتوقع أن تزداد تطبيقات التكنولوجيا القابلة للارتداء بشكلٍ ملحوظ في عديد من المجالات، ففي المجال الصحي مثلًا، قد نرى الساعات الذكية تُراقب ما هو أعقد من عدد الخطوات، مثل مدى خطورة الحالات الصحية، ومدى احتياجها إلى الفحص الدوري.
وفي مجال الواقع المُعزز والمختلط MR (نوع أكثر تفاعلية من الواقع الافتراضي والمعزز)، قد نرى عددًا كبيرًا من النظارات المشابهة لنظارة Apple Vision Pro، أما في مجالٍ مثل الموضة، فربما نشهد شيوع الأزياء التي تُغير لونها وتصميمها بسهولة وبسرعة، وهكذا في بقية المجالات.
تحديات التكنولوجيا القابلة للارتداء
على الرغم من كل التطورات التي تحظى بها المواد التكنولوجية القابلة للارتداء، فإن هناك عددًا من التحديات يُبطئ من وتيرة تطورها، على سبيل المثال:
1. عمر البطارية: وهو أحد أكبر التحديات في وجه الأجهزة الذكية والابتكارات التكنولوجية عمومًا، والمواد التكنولوجية القابلة للارتداء على وجه الخصوص، فهذه الأجهزة عادةً ما تكون محدودة في الحجم، وبالتبعية تتطلب بطارية صغيرة، وكلما قل حجم البطارية زاد التحدي، ولهذا السبب تُضحي الكثير من الأجهزة القابلة للارتداء بالمواصفات العالية، لتستمر في العمل لأطول فترة ممكنة، فتراها تعتمد على البلوتوث بدلاً من الواي فاي في إرسال واستقبال البيانات وهكذا، كذلك يُراعى دائمًا أن تأتي شاشات هذه الأجهزة بتقنيات موفرة للطاقة.
2. التصميم المريح: يجب ألا تُذكّر الأجهزة القابلة للارتداء المستخدم بأن هناك جهازًا ما موضوعًا على جسده، خاصة إن كنا نتحدث عن السماعات أو النظارات الذكية، كذلك يجب مراعاة الاختلافات الحيوية والصحية لكل شخص، واستخدام خامات لا تتسبب بأي مشكلة جسدية مهما كانت، كما كان الحال مع "Fitbit"، التي اضُطرت إلى سحب سوار "Force" الخاص بها في عام 2014، وذلك بعد أن اشتكى البعض من أنه يُسبب التهيج أو الحساسية.
3. القيمة الحقيقية: ليس من السهل أن تُقنع الكثيرين بوضع منتجاتك التقنية على أجسادهم، خاصة إن كانت هذه المنتجات متعلقة بالصحة، ولهذا يجب عليك أن تُطمئنهم وتعطيهم قيمة حقيقية، سواء كانت تقنية أو معنوية، وبالقيمة المعنوية هنا نقصد أن يكون لمنتجك قصة تميزه وتُشعر الناس الذين سيشترونه بأنهم يمتلكون شيئًا يستطيعون التفاخر به وسط أقرانهم.
4. الماء: نعم، يقف الماء عائقًا أمام الأجهزة القابلة للارتداء، فنظرًا لأنها قابلة للارتداء، يجب على المُصنعين مراعاة العزل المائي، خاصة أننا نتعرض لهذا السائل دائمًا، يكفي أن 60% من أجسامنا مكونة من الماء؛ بالتأكيد لن تُحب أن تنزع خاتمك وساعتك الذكية في كل مرة تستحم أو تتوضأ فيها، الأمر لن يكون عمليًّا على الإطلاق.
5. الخصوصية والأمان: يُمكن أن تكون بطاريات الليثيوم بالمواد التقنية القابلة للارتداء خطرة، إذا تم التعامل معها بطريقةٍ سيئة، أو إذا كانت جودتها متواضعة، أو دون المستوى المطلوب، ولنا في بطاريات "سامسونج" وانفجار جهاز "Flex 2" من Fitbit خير مثال، أما بالنسبة للمخاوف المتعلقة بالخصوصية، فتظل موجودة ومعقدة، ومكمن الخطر أن هذه الأجهزة تكون مربوطةً بأجسادنا طوال الوقت، ما يجعل التجسس على صاحبها كارثة بكل المقاييس، لا سيما أن أنظمة التشفير بهذه المواد ما زالت في مهدها.
في النهاية، يجب أن نعترف أن التكنولوجيا القابلة للارتداء تُمثل الآن نقلة نوعية في المشهد التقني، فبعد أن بدأت بصورةٍ بسيطة واستخدامات محدودة، باتت مُحمّلة بمميزات جنونية؛ ويكفي أن ننظر إلى نظارة Apple Vision Pro أو Meta Quest 3 أو الشريحة الدماغية التي تقدمها شركة Neuralink لنتيقن من ذلك.