بين المؤيدين لها والمحذرين منها.. ما مدى تأثير العولمة على الأعمال؟
تُعتبر "العولمة Globalization" من أكثر الظواهر الاقتصادية والاجتماعية تأثيراً في العصر الحديث، حيث أسهمت في تغيير ملامح هذا العالم بشكلٍ جذري، ويُعنى بالعولمة تداخل الثقافات والاقتصادات، وانفتاح دول العالم على بعضها، ما يؤدي إلى تيسير حركة السلع، والخدمات، وبالطبع الأفكار.
وفي سياق الأعمال، تُعد العولمة محركاً رئيساً للنمو والتطور، حيث تفتح أسواقاً جديدة أمام الشركات، وتتيح لها الوصول إلى قاعدة عملاء أوسع، ومع ذلك، فإنها تأتي أيضاً مع تحدياتها الخاصة، مثل: المنافسة الشديدة، والتغيرات المستمرة على مستوى السياسات، ناهيك بالاختلافات الثقافية.
وفي السطور التالية نسلط الضوء على العولمة وتاريخها وتأثيرها على الأعمال بحيادية؛ مُستعرضين الإيجابيات والسلبيات، فضلاً عن استراتيجيات التكيف مع تأثيراتها.
"العولمة".. كيف كانت البداية؟
على الرغم من حداثة مفهوم "العولمة" بشكله الحالي، فإن جذوره تعود إلى العصور القديمة، عندما كان التجار ينطلقون في رحلات طويلة للحصول على السلع النادرة، ثم بيعها في مجتمعاتهم المحلية بأسعارٍ مرتفعة، وهو الأمر الذي لا يزال وسيظل مستمرًّا ما دام قانون العرض والطلب قائمًا.
حتى جاءت الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر فكانت نقطة التحول الفاصلة في تاريخ العولمة، حيث ترتب على التقدم في وسائل النقل وتكنولوجيا الاتصالات قفزةً في التجارة، وبالتالي أصبح نقل البضائع، والمعلومات، بين الحدود أمراً سهلاً مقارنة بالحال قبل اختراع المحرك البخاري مثلاً
ومع ذلك، لم تكن العولمة عملية خطيةً أبداً، فتطورها تباطأ بشكل كبير بعد الحرب العالمية الثانية، وفقاً لـ"معهد بيترسون للاقتصاد الدولي"، ففي أعقاب الحرب تبنت الدول تدابير وقائية، جعلتها مُغلقة على نفسها نوعاً ما، مثل فرض تعريفات جمركية مرتفعة على الواردات، لتعزيز صناعاتها المحلية وحمايتها من المنافسة الأجنبية، وظل هذا التوجه ينمو ويترسخ خاصة خلال فترة "الكساد الكبير" والحرب العالمية الثانية، ما أوجد تحديات كبيرة أمام التجارة الدولية.
بعد الحرب العالمية الثانية، استعادت العولمة زخمها من جديد، بفضل الدول التي دعت إلى التجارة الحرة، وساعدت على وضع اتفاقيات شهيرة مثل الـ "GATT"، التي خففت من قيود التجارة الدولية على السلع، عن طريق قرارات أهمها خفض القيود الجمركية.
من الاتفاقيات البارزة أيضاً في تاريخ العولمة كانت اتفاقية التبادل الحر لشمال أمريكا أو "النافتا- NAFTA"، التي وُقعت عام 1993 وألغت التعريفات الجمركية تماماً على مجموعة واسعة من السلع المتداولة بين أمريكا وكندا والمكسيك، ما عزز من التجارة بين هذه الدول بشكلٍ كبير، انعكس على صناعات أبرزها صناعة السيارات.
اقرأ أيضًا: "حلقة الهلاك".. دروس عديدة من أبرز أزمات أوروبا الاقتصادية
وفي عام 2020، استُبدلت باتفاقية "NAFTA" اتفاقية جديدة هي الـ"USMCA"، التي حدّثت ونقّحت العديد من بنود الاتفاقية القديمة بشكلٍ يتماشى مع القضايا التجارية المعاصرة، واليوم، تُواصل الحكومات مجهوداتها لتقليص الحواجز، ودعم التجارة الدولية، مُدركةً أن العولمة تشكل جزءاً لا يتجزأ من النمو والاستقرار الاقتصاديين.
النمو في ظل العولمة
تؤثر العولمة على طريقة عمل الشركات وتفاعلها مع الأسواق العالمية، وهذا التأثير ينطوي على تكامل الاقتصادات والثقافات عبر الحدود، ما يؤدي إلى خلق فرص وتحديات أمام الشركات.
أما الفرص، فهي كالآتي:
- توسّع الأسواق: حيث تسمح العولمة للشركات بالوصول إلى أسواق جديدة، ما يزيد من قاعدة عملائها، وينعكس من ثم على إيراداتها المحتملة. ويُمكن للشركات أن تستفيد من تفضيلات واحتياجات المستهلكين المتنوعة، بتعزيز الابتكار وتطوير المنتجات، ما يُحسن من الصناعة برمتها.
- خفض التكلفة: من خلال نقل الإنتاج إلى البلدان ذات العمالة منخفضة الأجور، بما لا يعود بالنفع على أسعار السلع فحسب، بل يزيد هوامش ربح الشركات أيضاً، وبهذا يستفيد كل من المُنتج والمستهلك.
- وفرة الموارد: الانفتاح على البلدان الأخرى يُسهل من عملية تدفق المواد الخام عبر الحدود، فضلاً عن تحسين سلاسل التوريد والكفاءة بشكلٍ عام.
- التبادل الثقافي: تؤدي العولمة إلى الترابط بين الأسواق العالمية، وهذا بالتبعية يؤدي إلى تعزيز عملية تبادل الأفكار والممارسات الثقافية، ومن ثَم يعود بالنفع على الممارسات التجارية والابتكار، حيث تتعلم الشركات من غيرها، وتتكيف وفقاً لذلك.
- النمو الاقتصادي: أخيراً وليس آخراً، يمكن للعولمة أن تُحفز النمو الاقتصادي في كلٍ من البلدان المتقدمة والنامية، ما يؤدي -غالباً- إلى خلق فرص في الأسواق الناشئة تحديداً، وتحسين مستويات المعيشة والاستقرار الاقتصادي.
أما بالنسبة للتحديات، فتتمثل في:
- استغلال العمال: ذكرنا أن تقليل التكلفة من مميزات العولم،ة وذلك لأن الشركات تستطيع نقل أعمالها إلى بلدان نامية تكون العمالة فيها أرخص، غير أن ذلك يُصبح عيباً في الكثير من الحالات، حيث يتم استغلال العمال ،وإجحاف مجهوداتهم بحجة القوانين المتساهلة في هذه البلدان.
- فقدان الوظائف: من مشكلات العولمة أيضاً أنها تُشجع الشركات على عرض أجورٍ زهيدة على العمال المحليين، حتى إذا كانوا يعيشون في دولٍ متقدمة، وإذا رفضوا فلا بأس؛ هناك عمالة منخفضة الأجور تنتظر في الدول النامية، وهذا ما قد يتسبب في البطالة أو في أفضل الحالات في تقليل الأمان الوظيفي.
- ارتفاع التكاليف الاستثمارية: يتطلب التوسع في الأسواق الدولية استثماراً كبيراً في الأبحاث والبنية التحتية، ناهيك بالامتثال للوائح المحلية، وبالنسبة للشركات الكبيرة قد لا يُشكل هذا الأمر مشكلة، على عكس الشركات الصغيرة والناشئة، التي قد يحد هذا العائق من قدرتها على المنافسة عالمياً.
- التدهور البيئي: بالعودة إلى مشكلات العمالة منخفضة الأجور، سنجد أن السعي وراءها عادةً ما يؤدي إلى ضررٍ بيئي، لأن الكثير من شركات الدول النامية تتجاهل المعايير البيئية، ما قد يؤدي إلى التلوث واستنزاف الموارد، وإلحاق أضرار جسيمة على المدى الطويل.
اقرأ أيضًا: ما الطريقة الأسهل لتصبح مليونيرًا؟.. رجل الأعمال روبرت كيوساكي يُجيب
- التوترات والهجرة: أزمتان حقيقيتان في وجه العولمة؛ لقد ألقت التوترات الجيوسياسية، بما في ذلك الحروب التجارية وعدم الاستقرار السياسي، بظلال من الشك على استدامة العولمة، بينما تهدد الحركات القومية والسياسات الحمائية سلاسل التوريد العالمية والتعاون الاقتصادي، ما يخلق حالة من عدم اليقين في الأسواق الدولية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لقوانين الهجرة وأنظمة التأشيرات أن تعيق حركة العمالة الماهرة عبر الحدود، مما يعقد التوظيف ويحد من الوصول إلى المواهب.
- الاختلاف الثقافي: في أحيان كثيرة يكون التعامل مع الأعراف الثقافية والأطر القانونية المختلفة أمراً معقداً، لا سيما بالنسبة للشركات التي تدخل أسواقاً جديدة، فقضايا مثل قوانين العمل المختلفة، والتوقعات الثقافية، وتفضيلات المستهلك، تتطلب دراسة وتكيفاً متأنيين.
العولمة التنافسية..ما الذي يجب معرفته؟
تُشير "العولمة التنافسية" إلى زيادة الترابط والتنافس بين الشركات والاقتصادات على مستوى عالمي، وذلك لتحقيق أهداف عدة منها: تقليل الحواجز التجارية، والتقدم التكنولوجي، واندماج الأسواق، ما يتيح للشركات العمل بحرية وكفاءة أكبر.
وتواجه الشركات منافسة شديدة، ليس فقط من الشركات المحلية، بل من اللاعبين الدوليين أيضاً، الذين يكونون أشرس من المنافسين المحليين في أحيانٍ كثيرة، ويدفع هذا التنافس المتزايد إلى الابتكار والكفاءة، حيث تسعى الشركات للحفاظ على مكانتها في السوق أو تحسينها، بالإضافة إلى ذلك، تؤدي العولمة التنافسية إلى تكامل اقتصادي أكبر، حيث يمكن أن تؤثر الظروف الاقتصادية في بلد ما بشكل كبير على البلدان الأخرى، التي تتقاسمها المصالح.
أخيراً، لعبت التطورات التكنولوجية، لا سيما في مجالات الاتصالات والنقل، دوراً محورياً في دفع العولمة التنافسية، فقد جعلت هذه الابتكارات حركة البضائع والمعلومات أسرع وأكثر كفاءة، ما زاد من حدة المنافسة العالمية، وأعاد تشكيل الكيفية التي تعمل بها الشركات على مستوى العالم.
الجدير بالذكر أن الضغوط التنافسية الدولية تتزايد وبشدة، ناهيك بأن الأسواق الأجنبية تلعب دوراً مهولاً في اقتصادات مختلف البلدان، منذ عشرات السنين، فإذا أخذنا سنةً بشكل عشوائي مثل 1996 لنستشهد بها، سنجد أن إجمالي الاستثمارات الأجنبية المباشرة FDI وصل إلى 3.2 تريليون دولار، بينما تجاوزت مبيعات الشركات الفرعية 7 تريليونات دولار، متجاوزة التوقعات بنسبة 30%.
العوامل التي تؤثر على العولمة
على الرغم من كل التحديات التي تواجه العولمة، فإنها سياسة لا رجعة فيها، ويجب على الدول والمجتمعات أن تتماشى معها، بينما تُركز على كيفية إدارتها وليس العكس، حيث يدعو الكثير من الخبراء إلى إعادة تشكيل السياسات لتعزيز فوائد العولمة وتقليل تكاليفها، بدلاً من التركيز على كسر الحواجز الحالية، كما يرون أن القوى الرئيسة التي تؤثر وستؤثر على هذا المفهوم، هي:
- المنطق الاقتصادي: حيث يستمر قانون "الأفضلية المقارنة- Comparative advantage"، وهو قانون يختص بكيفية زيادة الإنتاج وتقليل الاستهلاك في ظل التجارة الحر، وغيره من القوانين الاقتصادية في التطوير من مفهوم العولمة.
- التركيبة السكانية: أو الديموغرافيا، التي تُعد من أبرز العوامل المؤثرة على مستقبل العولمة.
- الصالح العام العالمي: أو ما يُعرَف بالـ" Global Public Goods (GPGs)"، حيث تتطلب قضايا مثل الأوبئة وتغير المناخ تنسيقاً عالميًا، ما يُسلط الضوء على الحاجة إلى هياكل حوكمة دولية قوية.
- رد الفعل الشعبوي: فالعولمة تُنتَقد من اليمين واليسار، ولعل أكبر الانتقادات التي وُجهت لها مؤخراً كانت بسبب جائحة كورونا.
- التنافس بين أمريكا والصين: لأنهما قطبا الاقتصاد في العالم، فالتوترات المتزايدة بينهما تُعقد التعاون العالمي، وخاصة في المجالات الحيوية مثل تغير المناخ والاستجابة للأوبئة.
وخلاصة القول تؤكد أن العولمة محرك أساسي لمستقبل الأعمال، من خلال زيادة العمليات التجارية، وتعزيز الاستثمار الأجنبي المباشر، ونقل المعرفة، وتشجيع الابتكار، فكل هذه العوامل تجعل الشركات، وبالتبعية الدول تتطور على مختلف الأصعدة.