"حلقة الهلاك".. دروس عديدة من أبرز أزمات أوروبا الاقتصادية
يمكن لرفرفة جناح فراشة في الهند أن تؤدي إلى إعصار في أمريكا الجنوبية في ظاهرة تُعرف باسم تأثير الفراشة (Butterfly Effect). ويمكن لقطعة دومينو ضمن مئات القطع الأخرى أن تسقط فتُسقط القطعة الثانية فالثالثة حتى القطعة الأخيرة في ظاهرة تُعرف باسم تأثير الدومينو (Domino Effect). في عالم المال والاقتصاد يوجد مصطلح مشابه- ومعبر للغاية- يُسمى بدوامة أو حلقة الهلاك (Doom loop). فما هو؟ وما أشهر الأمثلة عليه؟
ما هي حلقة الهلاك؟
في علم الاقتصاد، تُشير حلقة الهلاك (Doom Loop) إلى وضعٍ أو حدثٍ سيئٍ يترتب عليه وقوع حدثٍ سيئٍ ثانٍ، وهو ما يؤدي إلى حدثٍ ثالثٍ مماثلٍ في السوء أو أسوأ، وهكذا دواليك في دوامةٍ تودي بالوضع تمامًا، وهو ما يُشبه تأثير الدومينو الذي تتسبب فيه قطعة دومينو واحدة بسقوط القطع الأخرى تباعًا. وانتشر مصطلح حلقة الهلاك في كتاب الإدارة الشهير "من جيدٍ إلى عظيم" (Good to Great) لكاتبه جيم كولينز.
خلال الأزمات الاقتصادية، تكون الدول في موقفٍ لا تُحسد عليه، إذ يتعين عليها زيادة الإنفاق لتحفيز الاقتصاد، في الوقت الذي تكون الإيرادات فيه منخفضة. من شأن هذا الاختلال في التوازن أن يُجهد الوضع المالي للحكومات، والتي تضطر في حالات كهذه إلى الاقتراض، ما يؤدي بدوره إلى تحسس المؤسسات المالية من هذه النوعية من الدول بالتحديد، فينكمش الائتمان ويزداد وضع الدول تأزمًا ما يُدخلها في دوامةٍ من الظروف العصيبة، وهذا الشكل الكلاسيكي لحلقة الهلاك.
أمثلة على حلقة الهلاك
أزمة الديون السيادية الأوروبية
بدأ الأمر في عام 2008 عندما انهار النظام المصرفي في أيسلندا، وهو الحدث الذي تردد أصداؤه في جميع أنحاء أوروبا وقتها، وكان نذيرًا ببداية أزمة اقتصادية حقيقية. وهذا ما حدث فعلاً، إذ سرعان ما وجدت البرتغال وإيطاليا وأيرلندا واليونان وإسبانيا نفسها في مأزقٍ شديدٍ سُميت على أثره بالدول "الخنازير". وتُكتب "PIIGS" بحرفيّ "I" وليس بحرفٍ واحدٍ لهذا السبب.
يعود أصل هذا المصطلح إلى سبعينيات القرن الماضي حيث استُخدم للمرة الأولى -كما هو مُسجل- في عام 1978 لوصف الدول الأوروبية غير المُنتجة أو التي لا تؤدي كما هو متوقعٌ منها، والتي كانت البرتغال (Portugal)، وإيطاليا (Italy)، واليونان (Greece)، وإسبانيا (Spain)، والتي يُشكل الحرف الأول من كلٍّ منها كلمة "PIGS" أو خنازير. لاحقًا، انضمت أيرلندا (Ireland) إلى هذه الدول فأصبحت الكلمة "PIIGS".
وكما هو متوقع، أدى تراكم الديون، وتعثر الاقتصادات، وعزوف المستثمرين إلى لجوء هذه الدول إلى حلول القروض، وهو ما أثقل كاهلها بتكاليف باهظة فاقمت من وضعها المالي المثير للشفقة. فزادت الضائقة المالية والضرائب، وفُرضت التدابير التقشفية، فحصلت دائرة الهلاك. كل هذا -وبدون مزيدٍ من التفاصيل ليس الآن أوانها- حدث بسبب انهيار النظام المصرفي في أيسلندا.
اقرأ أيضًا: هل تحل البنوك الرقمية محل التقليدية؟ مفاجآت يكشفها المستقبل القريب
أزمة الدين اليونانية
ومن أشهر الأمثلة التي يُستَدل بها أيضًا على حلقة الهلاك، والتي تعد جزءًا من الأزمة السابقة، هي أزمة الدين اليونانية التي تكشَّفت في عامي 2009 و2010. حيث قدمت الحكومة اليونانية المُنتخبة حديثًا تقارير مالية مُختلفة تمامًا -وغير منطقية- عن تقارير الحكومات السابقة، وهو ما أثار الشكوك وحطّم ثقة المستثمرين، كاشفًا عن سوء الإدارة المالية في اليونان.
عجز الميزانية الذي كُشف عنه في عام 2010 كان فاضحًا، إذ اختلف عن التقديرات السابقة بكثير وتجاوز 12% من الناتج المحلي الإجمالي. وهو ما أدى بدوره إلى رفع تكاليف الاقتراض على اليونان، وأشعل بعض المخاوف بشأن الصحة المالية لدول منطقة اليورو (Eurozone)، لا سيما تلك التي تمتلك أساسات اقتصادية ضعيفة.
لكسر حلقة الهلاك التي تفشت في أكثر من دولة أوروبية مُسببة الأزمة التي ذكرناها أعلاه، صوت البرلمان الأوروبي في أواخر عام 2010 لصالح إنشاء نظامٍ رقابي يتولى الإشراف على دول الاتحاد الأوروبي ويضمن استقرارها المالي. ومن حُسن حظ اليونان أيضًا أنها تلقت دعمًا من البنك المركزي الأوروبي (ECB) وصندوق النقد الدولي (IMF)، وإن كان مشروطًا بتنفيذ إجراءات تقشفية رفعت من الضرائب وخفَّضت من الإنفاق العام. كل هذا حدث بسبب التقارير المالية المُضللة: حلقة هلاك.
فيروس كورونا COVID-19
وعلى عكس الحالتين السابقتين اللتين حدثت فيهما حلقة الهلاك لأسبابٍ اقتصاديةٍ بحتة، قد يتحقق هذا المصطلح نتيجةً لحدثٍ غير اقتصادي. وأبسط مثال على ذلك هو فيروس كورونا المستجد.
خرج فيروس كورونا اللعين من سوق ووهان الصينية نتيجةً لممارسات خاطئة تتعلق بالتعامل مع الحيوانات. ناهيك عن ملايين الأشخاص الذين ماتوا جرّاء هذه الممارسات، وهذا يكفي للتدليل على حلقة الهلاك. فإن هذا الفيروس الضئيل أضرّ بالاقتصاد العالمي بشكلٍ واضح، إذ انخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 3.4%.
وإذا كنت تعتقد أن هذه نسبة بسيطة، فلن تتخيل أنها تُرجِمَت إلى أكثر من تريليوني دولار أمريكي، حيث قُدِّرَ الناتج الإجمالي العالمي في ذلك العام بـ 84.9 تريليون دولار.
لماذا تحدث حلقة الهلاك؟
قد تحدث حلقة الهلاك لأسباب مختلفة، منها:
1. ارتفاع مستويات الدين الحكومي: في هذه الحالة يتم الاعتماد على البنوك المحلية لسد العجز، ما يؤدي إلى قلق المُقرضين، وبخاصة في حالات تأخر السداد.
2. غياب الانضباط المالي: عدم السيطرة على الإنفاق الحكومي يمكن أن يتسبب في عجزٍ مالي يترتب عليه زيادة في الدين العام.
3. ضعف القطاع المالي بشكل عام: في الحالات التي يكون فيها اقتصاد المؤسسات المالية ضعيف أو غير مُستقر تكون أكثر عُرضةً للانكماش الاقتصادي أو المالي، وبالتالي تزداد فرص حدوث حلقة الهلاك.
4. انخفاض النمو الاقتصادي: أخيرًا وليس آخرًا، يُضعِف النمو الاقتصادي من الإيرادات الحكومية ويزيد الحاجة إلى الإنفاق العام، وبالتالي يغيب الانضباط المالي، فتتضاعف فرص حدوث حلقة الهلاك.
اقرأ أيضًا: "الابتكار ضرورة في الحالتين".. هل يتفوق العمل بذكاء على العمل بجهد كبير؟
المصطلح المُعاكس لحلقة الهلاك
على الجانب الآخر من حلقة الهلاك، هُناك ما يُعرف بـ "عجلة الموازنة" أو "دولاب الموازنة" أو "الحذاقة" (Flywheel).
والحذاقة هي آلة ميكانيكية -تُشبه عجلة السيارات- تستخدم الزخم (momentum) لتخزين الطاقة. وما أن تبدأ في التحرك حتى تستمر في ذلك دون توقف، وبأقل قدرٍ من الجهد. ويرجع ذلك بشكلٍ أساسي إلى وزنها وزخمها اللذان يبقيانها في حركة مستمرة. إذًا، فمن الناحية النظرية، يمكننا اعتبار عجلة الموازنة المفهوم المضاد لحلقة الهلاك.
وظهر- أو اشتهر بمعنى أصح- مصطلح تأثير عجلة الموازنة أو "Flywheel effect" في نفس الكتاب المذكور آنفًا "من جيدٍ إلى عظيم" (Good to Great) لجيم كولينز، والذي شبّه في كتابه التحولات التي شهدتها الشركات الناشئة والشركات التي تعاني من مشاكل اقتصادية في العموم بحركة عجلة الموازنة. فهي بطيئة نعم، ولكنها ثابتة، والأهم من ذلك أنها تسير بشكل شبه تلقائي أو بجهد قليل للغاية.
كيف نوقف حلقة الهلاك؟
يمكن لدوامة أو حلقة الهلاك أن تبدأ بسبب الديون فقط، ولنا في الأزمة المالية الآسيوية التي حدثت عام 1997 خير مثال. ولكن مثلما عُولِجَت تلك الأزمة، ومثلما حُلَّت أزمة منطقة اليورو وغيرها، فعلى ما يبدو أن الطريقة الوحيدة لكسر أو إيقاف حلقة الهلاك تكمن في التدخل الخارجي لتوفير التمويل اللازم لسد الاحتياجات وعلاج سبب المشكلة. غير أن هذا التدخل عادةً ما يكون مصحوبًا بتدابير صارمة لاستعادة الصحة المالية.