كيف طورت المملكة موسم الحج لتحقيق رفاهية ضيوف الرحمن؟
منذ أكثر من 100 عام، وبالتحديد منذ دخول الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود- طيب الله ثراه- مكة المكرمة في عام 1343 هـ، شرعت المملكة في تنظيم مواسم الحج بما يليق بضيوف الرحمن وعظمة هذه الأرض المباركة، ليصبح هذا التاريخ علامة فارقة بين ما قبله وما بعده من مواسم للحج، إذ بذل ملوك وخدام الحرمين الشريفين على مدار كل هذه السنوات جهدًا خالصًا لرب البيت العتيق، هادفًا إلى توفير أقصى سبل الراحة والرفاهية لحجاج بيت الله الحرام، ورغم التحديات العظيمة استمرت العزيمة الصادقة، التي عملت على بناء وتطوير منظومة إبداعية متكاملة التناغم وفق خطط مدروسة، تضمن سلاسة ونجاح الحدث الأهم، الذي يلتف حوله أكثر من ملياري مسلم حول العالم، فكيف فعلت المملكة العربية السعودية ذلك؟
الإصرار والعزيمة الصادقة
إن أي قارئ للتاريخ يستطيع أن يرى بسهولة حجم التغيير والتطور الهائلين الذي شهدته مواسم الحج، وهو التطور الذي يتزامن مع ازدهار المملكة العربية السعودية، فلم يكن الحج قبل العهد السعودي يخضع لأي تنظيم، ومن ثم فقد كان مسيرًا حسب مختلف الظروف والعوامل والأحداث، وربما تدافعته الأزمات أيضًا، إلى أن دخل الملك عبد العزيز آل سعود مكة المكرمة، وشرع في بناء المملكة الحديثة من كل النواحي، وكان بين أولويات هذا البناء تنظيم الحج، الذي يحتاج بطبيعته لتنظيم مختلف أمور الدولة، ولك أن تتخيل مقدار الجهد والتعقيد الذي يحتاج إليه تنظيم مثل هذا العمل الضخم، ولك أن تتخيل أيضًا كيف كان سيبدو الأمر بدون مثل هذا التنظيم الدقيق الذي وضعته المملكة لمواسم الحج، وتخيل مثلاً إذا ما فوجئت مدينة صغيرة أو حتى كبيرة بمليوني أو مليون زائر فقط يأتونها دفعة واحدة في نفس التوقيت؟!
الآن يمكنك بالتأكيد تخيل الوضع!
فهؤلاء الزوار أو الضيوف يحتاجون إلى وسائل نقل ومواصلات، وطرق ممهدة وآمنة، ومساحات كافية ومجهزة لاستيعاب وتأمين هذا الكم البشري الهائل، ومأكل ومشرب، وطاقة نظيفة، وبنية تحتية متطورة، وأماكن للإقامة، ورعاية صحية متميزة، ومرافق لائقة، وأمنٍ، وخدمات متكاملة، ومعالجةٍ للنفايات، وصرفٍ صحيٍّ، مع الالتزام بالاستدامة، وكل ما تتخيله من أمور الإعاشة والحياة الكريمة التي ينبغي أن توفرها أي مدينة من مدن العالم لقاطنيها، وهو التحدي الكبير الذي أخذته المملكة على عاتقها وملوكها المخلصون بعزيمة صادقة، حيث سَعَوْا بإصرارٍ وتفانٍ لتأسيس دولة راسخة، بينما كانوا يطورون مواسم الحج بشكلٍ مُستمرّ، ويضعون من القواعد المدروسة بعناية ما يضمن للمسلمين حول العالم إمكانية التمتع بفريضة الحج في أجواءٍ من الراحة والرفاهية، بينما سخّروا كل الإمكانات والأدوات المتاحة والتقنيات الحديثة لتحقيق ذلك، بل ونظروا إلى المستقبل دائماً وهم يدشنون مشاريع توسعة وعمارة الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة، بما تطلبه ذلك من ميزانيات ضخمة تقدر بمئات المليارات من الريالات، فيما ظلّت تتوازى مع هذه المشروعات الضخمة ميزانيات تشغيلية سنوية تقدر بعشرات المليارات.
رؤية السعودية 2030
إن ما قدمته وتقدمه المملكة للحج في جميع الجوانب لا يمكن حصره -في الحقيقة- بين عدد محدود من السطور، إذ لا يمكن مقارنة ما وصل إليه الآن شكل وعمارة الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة على سبيل المثال، أو سلاسة أداء الحج بما كان عليه الوضع قبل أكثر من 100 عام، فقد كان للعهد السعودي إسهامٌ عظيم لا يُمكن إنكاره في هذا الخصوص، بينما أحدث عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان وولي عهده الأمير محمد بن سلمان طفرةً غير مسبوقة على كافة المستويات، إذ وضعوا الحج والعمرة كمحورٍ أساسيٍّ ضمن أولويات رؤية السعودية 2030، كامتداد لشرف خدمة الحرمين الشريفين الممتد منذ مطلع العهد السعودي المبارك، ولعل كلمات خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- توضح هذا الفكر الذي تشرب منه أبناء المؤسس الأول، حيث قال: "إننا في المملكة العربية السعودية وقد شرفنا الله بخدمة الحرمين الشريفين وقاصديهما نذرنا أنفسنا وإمكاناتنا، وما أوتينا من جهد قيادة وحكومة وشعباً لراحة ضيوف الرحمن، والسهر على أمنهم وسلامتهم التامة".
وقد جاء إطلاق برنامج خدمة ضيوف الرحمن في العام 2019م، ليسهم في تحقيق ذلك، إذ شكل نقلة نوعية في خدمة الملايين من ضيوف بيت الله الحرام، حيث أتاح الفرصة لأكبر عدد ممكن من المسلمين حول العالم لأداء فريضتي الحج والعمرة، مع إثراء وتعميق تجربتهم الإيمانية، من خلال مرافق ذات جودة عالية، وبنية تحتية متقدمة، وخدمات رقمية، تساعد الجميع على أن ينعموا بتجربة لا تُنسى، تتخللها المواقع السياحية والثقافية، بما يعكس الصورة الحضارية للمملكة في خدمة ضيوف الرحمن، وهي الخطوة التي سبقتها دراسة وافية لتحديد توقعات واحتياجات الزوار، ورغم حداثته النسبية إلا أن هذا البرنامج المبتكر حقق العديد من الإنجازات الرائدة، من خلال عدة مبادرات مع الجهات ذات العلاقة، ولعل أبرز هذه الإنجازات إتاحة التأشيرات الإلكترونية للحجاج والمعتمرين من جميع الدول، وتمديد فترة موسم العمرة، إضافة إلى العديد من الإنجازات التقنية والمبادرات المبتكرة مثل: "إياب"، و"الحج الذكي"، و"حج بلا حقيبة"، إلى جانب التأمين الصحي الشامل.
اقرأ أيضًا: أجمل المزارات الإسلامية حول العالم.. سحر إضافي لأجواء الأعياد
برنامج ضيوف الرحمن
تبدأ تسهيلات برنامج خدمة ضيوف الرحمن من مرحلة ما قبل الوصول، حيث تسهيل استخراج التأشيرة الإلكترونية في مدة قياسية، وفي مرحلة أداء النسك أطلق البرنامج منصة "نسك" لتكون بمثابة حل رقمي متميز يقدم العديد من الخدمات لتسهيل رحلة ضيوف الرحمن، أما مرحلة إثراء التجربة فقد قدمت الكثير من المبادرات التي تضمنت العديد من المواقع التاريخية والوجهات الأثرية المطورة، ولعل جودة الخدمات المقدمة هنا لا تتوقف عند التسهيلات المتعلقة بأداء المناسك، حيث يثري البرنامج تجربة الضيوف طوال فترة وجودهم بالمملكة، بدءاً من مبادرة "طريق مكة" مروراً بمبادرات كالتأمين الصحي، وحج بلا حقيبة، مع الاستمتاع بما توفره المملكة من خدمات للتسهيل على ضيوف الرحمن، مثل مشروع حافلات مكة، وخدمة النقل الترددي في المدينة المنورة، وقطار المشاعر المقدسة، وقطار الحرمين السريع، وكلها تتكامل مع الارتقاء بجودة الخدمات والمرافق، وصولاً إلى إثراء التجربة الثقافية الإسلامية واكتشاف المملكة والاستمتاع بها.
كل ذلك ينسجم أيضاً مع العديد من الإنجازات التقنية المتقدمة، التي انطلقت بشكل سريع بتأسيس مركز التحكم والمراقبة الإلكترونية في وزارة الحج والعمرة، بهدف ربط مراكز خدمات الحجاج والمعتمرين بصناع القرار، بالتواصل المباشر أو من خلال مشروع الأسورة الإلكترونية، وهي الخطوات التي دعمت خطوات المملكة نحو تحقيق تجربة روحانية متميزة لضيوف الرحمن، صممت وفق سبع نقاط رئيسة، تبدأ بنقطة ما قبل الوصول، ثم القدوم والمغادرة، ويليها التنقل، وزيارة الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة، وأداء النسك بصحة وأمان، وأخيراً تأتي نقطتي الضيافة واكتشاف المملكة.
مبادرة طريق مكة
بينما شهدنا ونشهد أكبر توسعة وتطوير للحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة لاستيعاب الأعداد المتزايدة من ضيوف الرحمن، مع عدد من مشاريع إسكان الحجاج، وإنشاء المطارات وتوسعتها، وبرامج الترحيب بالحجاج، فيما جاءت مبادرة "طريق مكة" التي أطلقت بشكل تجريبي عام 2018، بهدف تسهيل إجراءات دخول الحجاج خلال دقائق معدودة من مطارات بلدانهم، بدءاً من إصدار التأشيرة إلكترونياً، وأخذ الخصائص الحيوية، وترميز وفرز الأمتعة وفق ترتيبات النقل والسكن في المملكة، بما يسمح للحجاج بالتوجه مباشرة من محطات الوصول إلى مقار إقامتهم عبر مسارات مخصصة، بينما تتولى الجهات الخدمية إيصال أمتعتهم، وهي المبادرة التي اختصرت وقت الضيف بشكل كبير، فيما استفاد منها نحو 242,272 حاجاً ينتمون لسبع دول، من إجمالي 1,845,045 حاجاً هم عدد ضيوف الرحمن من خارج وداخل المملكة خلال موسم الحج الماضي 1444هـ الموافق 2023م.
لتثبت المملكة إلى جانب تميزها في إدارة الحشود الضخمة، قدرتها على تسخير جميع إمكانياتها للعمل ضمن منظومة متكاملة، تتكامل فيها البنى التحتية المتطورة وتقنيات قياس الكثافات البشرية الحديثة مع برامج التفويج المعدة مسبقًا، وخطط الجهات الأمنية والكفاءات المهنية في إدارة وتنظيم الحشود، ولتتكاتف تلك الجهود في جميع المجالات، مع ابتكار مبادرات خلاقة تمكن جميع ضيوف الرحمن من أداء مناسكهم بطمأنينة ويسر، بما يجعل من الحج رحلة إيمانية عميقة لتطهير النفس والروح والحواس.