لماذا يخشى العلماء من زرع الشرائح الدماغية الخاصة بشركة "Neuralink"؟
لطالما بدت فكرة زرع شريحة حاسوبية داخل دماغ الإنسان فكرةً من قبيل الخيال العلمي، أما اليوم، فالوضع أصبح مختلفًا تمامًا، إذ يدرس الأكاديميون الفكرة بالفعل، ويعلمون أن الأمر سيصبح مألوفًا عاجلاً أم آجلاً، بل الحقيقة أنه تحقق بالفعل على يد الملياردير ذي الأفكار المجنونة إيلون ماسك وشركته الرائدة في هذا المجال -على الأقل من ناحية الصيت- Neuralink.
في يناير المنصرم أعلن "ماسك" عن نجاح أول عملية لزرع شريحة برأس إنسان، وقال إن "المريض" -لو صحَّ التعبير- يتعافى بشكلٍ جيد، ويبدو أنه كذلك بالفعل، إذ بعد مرور قرابة الشهرين على ذلك الإنجاز، لم نسمع خبرًا مُحبطًا.
إدارة الأغذية الأمريكية "FDA" نفسها صدَّقت على هذه الخطوة بعد أن منحت الشركة الضوء الأخضر والتصريح اللازم لإجراء العملية، والحقيقة أننا لم نسمع خبرًا واحدًا مُحبطًا فحسب، بل سمعنا خبرًا مُذهلاً منذ بضعة أيام فقط مفاده أن أول "مريض" استطاع التحكم في فأرة كمبيوتر باستخدام دماغه!
ومع ذلك، وبالرغم من هذه الأخبار السارة، هناك تخوفات من قِبَل العلماء ومآلات سيئة نتمنى ألا تحدث، ما هي هذه التخوفات؟ سنعرف بعد أن نُلقي نظرة سريعة على شريحة "ماسك" وطريقة عملها.
ما هي شركة Neuralink؟
أسس إيلون ماسك شركته المُتخصصة في زرع الشرائح الدماغية في عام 2016. الشريحة التي نتحدث عنها تكون بحجم عُملة معدنية وموصّلة بأسلاك يكاد لا يكون لها سُمك Ultra-think "بحجم شعرة الرأس تقريبًا"، وعددها يصل إلى 1024 قطبًا كهربائيًّا، تُغرَس في الدماغ مكونة ما يُعرَف بواجهة الدماغ والحاسوب Brain-computer interface (BCI)، وتُرسِل القراءات لاسلكيًا من خلال البلوتوث إلى جهازٍ خارجي مثل هاتفٍ محمول.
يقول إيلون ماسك إن أول مُنتَج للشركة يُسمى "Telepathy"، بالعربية "التخاطر"، ووفقًا له فإن هذا المُنتَج أو المشروع سيجعل البشر قادرين على التحكم بالحواسيب أو الهواتف أو أي جهازٍ آخر بمجرد التفكير. يقول "ماسك": تخيل ستيفن هوكينغ "عالم الفيزياء الشهير الراحل، الذي كان مريضًا بالتصلب الجانبي الضموري" وهو يتحدث أسرع من كاتبٍ أو دلالٍ سريع، هذا هو الهدف.
وعلى ذكر ستيفن هوكينغ والمرض الذي ابتُلي به، فيقول "ماسك" إن مشروعه الأول سيُمَكن المصابين بالشلل من استخدام هواتفهم بمجرد التفكير وبشكلٍ أسرع من أصابعهم.
وبعد أن أجرت الشركة تجارب مُكثَّفة على الحيوانات، وشاركنا "ماسك" مقاطع فيديو لقرودٍ وهي تلعب لعبة "Pong" بأدمغتهم، وبعيدًا عن دخول الشركة في سجالات أخلاقية ومشكلات مع المجموعات الحقوقية بشأن استخدام الحيوانات في هذه التجارب، فإن "ماسك" قد زرع شريحةً برأس حالةٍ بشرية، وقال إنها "تتعافى بشكلٍ جيد"، بل صرح أن هذه الحالة الأولى تمكنت من تحريك مؤشر فأرة الكمبيوتر بدماغه!
اقرأ أيضًا: كيف تعمل النماذج اللغوية الكبيرة "LLMs"؟ وهل تمثل تهديدًا حقيقيًا للبشر؟
كيف تعمل شريحة الدماغ؟
شريحة "Nuralink" التي يُقدَّر حجمها بحجم عملة معدنية صغيرة، والتي تُسمى N1، مُصممة خصيصى لتجعل البشر يُنفّذون مهامًا مُعينة بمجرد التركيز عليها بأدمغتهم ودون أن يُحركوا ساكنًا.
يحدث ذلك من خلال تحويل الشريحة لأنشطة الدماغ إلى أفعالٍ حقيقية، وذلك بزرعها في مناطق مسؤولة عن الحركة حتى تعمل كمستقبلٍ للإشارات الكهربائية التي تُنتجها أفكارنا وأنشطتنا الدماغية.
يُمكننا أن نُلخّص طريقة عمل الشريحة الدماغية برحلة ساحرة تبدأ من الدماغ ثم إلى الشريحة التي تتلقى المعلومات وتتعرف على الأنماط، ثم إلى الجهاز الخارجي الذي يعرض ما التقطته الشريحة من الدماغ والذي غالبًا ما يكون هاتفًا ذكيًا أو حاسوبًا كما قلنا والذي "يفك شيفرة" نشاط الدماغ وكأنها لغة أجنبية. ومن ثم يَعرف ماذا يفعل أي نشاط، فيعرف مثلاً أن هذا النمط يُحرك مؤشر الفأرة إلى الأعلى بينما يُحرك ذاك النمط المؤشر إلى أسفل وهكذا.
ما المختلف بشأن شركة Neuralink؟
تستطيع معظم واجهات الدماغ الحاسوبية الأخرى رصد نشاط الدماغ دون الحاجة إلى التدخل الجراحي كما هو الحال مع شريحة "Neuralink"، وهذا يعني أنها أكثر أمانًا وأسهل في الاستخدام، فلماذا لا تكون هذه الواجهات والتي اختُبِرَت على مدار عشرات السنين وأصبح لنا باعٌ طويل فيها أفضل من شرائح ماسك؟ نقطة نظرٍ وجيهة، ولكن الحقيقة أن دقة قراءات شريحة ماسك، فضلاً عن جزئية التحكم بالأشياء عن بُعد يرجّحان كفتها وبقوة.
حتى وإن كانت هناك شركات مثل "Neuralink" من حيث زرع شرائح دماغية يمكن التحكم بها عن بُعد داخل أدمغة البشر، تظل شريحة N1 مميزة لأنها دمجت أكثر من تكنولوجيا في جهازٍ واحد، فهي تستطيع استهداف خلايا عصبية بعينها، علاوة على تسجيل أنشطة آلاف المناطق الدماغية وإمكانية شحن بطاريتها عن بُعد. هذه هي نقاط القوة التي تُميز شريحة "ماسك".
تخوفات العلماء من Neuralink
اقرأ أيضًا:ما هو الدوكسينج؟ وكيف يستخدمه "الهاكرز" في التجسس عليك؟
أعطت إدارة الغذاء والدواء FDA الضوء الأخضر لإيلون ماسك حتى يزرع شريحته في عقول البشر في مايو 2023. "ماسك" قد أعلنت عن أولى التجارب البشرية في يناير المُقبل على منصته "X"، إلى الآن لا مُشكلة.
المشكلة أن المعلومات المُتَطَلَّبة حول هذه العملية شحيحة، فبعيدًا عن الكُتيّب الذي يُعرّف بالشريحة بشكلٍ سريع ويتحدث عن معايير اختيار الأفراد للتجارب، لم يتم الإفصاح عن مزيد من المعلومات، ولم تُسجّل الشركة الحالة على موقع التجارب السريرية كما هو مُوصى من قِبَل أكاديميين وباحثين ومعروف في عُرف هكذا حالات.
بعض العلماء متخوفون من انعدام الشفافية، فمشاركة معلومات حول التجارب السريرية هو شيء لا غنى عنه، حيث يُتيح الفرصة للعلماء أن يُدققوا ويصدقوا على ما رأوه فيما يُعرَف بـ"مراجعة الأقران"، إضافةً إلى أنه يُساعدهم على التحسين من دراساتهم إذا كانت مُرتبطة بنفس الموضوع؛ هكذا يُبنى العلم، بالتراكمية والتجربة والخطأ.
الجدير بالذكر أن بعض الدراسات العلمية والمجلات الأكاديمية قد تكون مُنحازة نحو نتائج إيجابية مُعينة لتتربح أو تستفيد من ورائها بشكلٍ أو بآخر، ولهذا لا عجب أن باحثين بـ "مركز هاستينغز- Hastings Center" لأخلاقيات علم الأحياء قد قالوا إن تصريحات "ماسك" الصحفية بشأن مُنجزات "Neuralink" ليست علمًا، كما نصحوا الجميع بعدم الاعتماد على شخصٍ ذي نفوذ ماليّ والتصديق على كلامه وكأنه المصدر الوحيد للمعلومات.
عندما يتم تمويل البحث العلمي من قِبَل جهات حكومية، أو مجموعات خيرية لا مصلحة لها بنجاح أمرٍ ما من عدمه، فعادةً ما يكون البحث موثوقًا، على الجانب الآخر عندما تكون الجهة الممولة خاصة كما هو الحال مع "Neuralink"، فهنا يجب إعادة التفكير والبحث عن أدلة قوية مدعومة من مختلف الجهات.
ما يضع حول "Neuralink" مزيدًا من علامات الاستفهام أنها اتُهِمَت في 2022 بأنها تُعامل الحيوانات بطريقة قاسية، وهو الأمر الذي حققت فيه وزارة الزراعة الأمريكية بنفسها، وعلى الرغم من أن النتائج جاءت في صالح شركة "ماسك"، فإن الاتهامات والمشاكل الأخلاقية الأخرى تظل قائمة.
المشكلات الأخلاقية بوجه Neuralink
ولم تسلم شركة "Neuralink" من المشكلات الأخلاقية كما لم تسلم من تخوفات العلماء، فرُغم التطبيقات العظيمة التي يمكن أن تأتي من وراء شريحة "ماسك"، فإن الآثار الجانبية الواردة جدًا، والتي قد تصل إلى حد الوفاة، تستدعي القلق الشديد خصوصًا أننا ما زلنا نتحسس الطريق نحو هذه التقنيات.
ولعل المشكلة الأخلاقية والتخوف الأكبر يكمنان في طبيعة الشريحة الإلكترونية نفسها، إذ قد تكون قابلةً للاختراق، أو ربما تستخدمها "Neuralink" نفسها بشكلٍ غير قانوني ومن ثم تتحكم في حياة البشر أنفسهم. لاحظ أننا نتحدث عن اختراق أدمغة البشر، وليس حواسيبهم.
الشاهد أن هاتين المشكلتين، وغيرهما كثير مثل المعايير الواجب توافرها في الأشخاص المؤهلين للحصول على الشريحة، يجب أن تُدرَس بشكل عميق وتكون هناك موازنة دقيقة بين الإيجابيات والسلبيات.
خلاصة القول: إن مُستقبل "Neuralink" يبدو واعدًا، لا سيّما بعد نجاح العملية الأولى وتمكن "المُصاب" بالتحكم في فأرة الحاسوب بدماغه، وهذا هو الهدف من الرقاقة أساسًا، ولكن تظل الشركة بحاجة إلى تخطي كثير من العقبات لتُصبح مؤهلةً لِما تقوم به، أقله من الناحية العلمية.