كيف تعيش أكثر من 100 عام؟.. أوراق من دفاتر حياة المعمرين
لطالما كان الخلود من أحلام الجنس البشري، من منا لا يحلم بحياة طويلة عامرة يرى فيها أحفاد أحفاده. ولطالما كانت صور المعمرين مع أبنائهم وأحفادهم مبهجة ومدعاة للتأمل. فهل الأمر عشوائي أم هناك عوامل معينة تساعد على إطالة العمر بطرق علمية مجربة؟ هذا ما ناقشه "دان بيوتنر" في كتابه "المناطق الزرقاء" الذي تحول إلى مسلسل وثائقي على شبكة "Netflix" مؤخرًا تحت عنوان: "المناطق الزرقاء، كيف تعيش أكثر من مائة عام".
إذا أبقينا نطاق البحث بعيدًا عن الحوادث القدرية والجوائح والأوبئة العالمية، فسنجد أن هناك عوامل قد تؤدي لحفاظ الإنسان على صحته وشبابه أكثر من غيرها. فما السر وراء إصابة رجل خمسيني بالشيخوخة في حين لا يُصاب بها رجل تخطى التسعين؟
يطوف "دان بيوتنر" في مناطق عدة حول العالم ليدرس المناطق المعروف عنها إنجاب عدد أكبر من المعمرين ويستكشف هل هناك أوجه تشابه بينها أم أن الأمر محض مصادفة؟
"دان بيوتنر" هو مستكشف وباحث أمريكي وحاصل على 3 أرقام قياسية في موسوعة "غينيس" في ركوب الدراجات للمسافات الطويلة. وبعد أن حقق ما يريده في مجاله الرياضي، بدأ في البحث عن تحدٍّ آخر حتى وجد وثيقة للأمم المتحدة تتحدث فيها عن إحدى المناطق الزرقاء، فوجد تحديه الشخصي وقرر دراسة الأمر.
طاف "دان بيوتنر" حول المناطق المعروفة بطول العمر لدراسة نمط حياة المعمرين، بدأ بأوكيناوا في اليابان ثم سردينيا في إيطاليا وإيكاريا في اليونان ونيكويا في كوستاريكا ولوما ليندا في كاليفورنيا، ورسم خريطته الخاصة للمتشابهات فوجد وصفة طول العمر التي يتبعونها جميعًا دون اتفاق مسبق وذلك على النحو التالي:
1- نظام غذائي صحي
خطوة بديهية، ما تدخله إلى جسمك من طعام يؤثر على كل شيء في حياتك، بل يؤثر على حياتك نفسها.
في أوكيناوا اليابانية لديهم أقل معدلات الإصابة بمرض السكري والخرف وأمراض القلب، كما يعتمد 70% من سكان أوكيناوا على طعام الـ"بيني إيمو" أو "البطاطا الحلوة الأرجوانية" وهي مليئة بالنشويات المعقدة والألياف وتحتوي على الكثير من مضادات الأكسدة. ويحتل أيضًا "القثاء" الذي يساهم في خفض معدلات السكر في الدم مكانه المميز على طاولة طعامهم. و"التوفو" المعروف بخفض نسبة الكوليسترول في الدم وإيطاء تفاقم الخلايا السرطانية.
بل إن طريقة تناول الطعام نفسها تساعد على تعزيز الصحة، فقبل كل وجبة عليهم إنشاد عبارة "هارا هاتشي بو" ومعناها "توقف عن الأكل حين تمتلئ معدتك بنسبة 80%". ومن ثم فإنهم يشبعون دون تخمة، وهو ما يتوافق مع وصية الرسول صلى الله عليه وسلم "ثلث لطعامه وثلت لشرابه وثلث لنفسه".
اقرأ أيضًا: نَجَت من حريقين وحرب عالمية.. القصة الملهمة وراء تأسيس شركة "LEGO"
وبالمقابل في سردينيا الإيطالية تصعقك حقيقة أنهم يأكلون المخبوزات ومع ذلك صحتهم ممتازة، ليهدموا بذلك أسطورة النشويات المضرة، إنهم يخبزون الخبز والمكرونة يوميًا في مطابخهم، وإجابتهم على هذه المعضلة هي أن السر في الكيفية، فهم يصنعون الخبز المختمر، وفي الخميرة توجد بكتيريا تخفض نسبة السكر في الدم، ومن ثم فإن الخبز لديهم يختلف عن الخبز الأبيض المعروف في الأسواق، ومع ذلك فهم يهتمون بإدخال الخضراوات والحبوب إلى نظامهم الغذائي ليكون متوازنًا.
في إيكاريا اليونانية يعتمدون هناك حمية البحر الأبيض المتوسط التي تتضمن تناول الخضراوات وزيت الزيتون والبقوليات والفواكه والحبوب الكاملة والأسماك واللحوم البيضاء، ويتشابهون في ذلك مع لوما ليندا "منطقة زرقاء في الولايات المتحدة" التي تتميز بتناول كميات كبيرة من المكسرات بما تحتويه من دهون صحية.
اشتهر سكان إيكاريا أيضًا بالمواظبة على شُرب بضعة أكواب من الشاي والقهوة يوميًا، وربطت دراسة بين انخفاض معدلات الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية في المنطقة وبين شُرب الشاي والقهوة، وذلك لأن هذه المشروبات الساخنة تحتوي على الكثير من المغذيات الدقيقة، مثل المغنسيوم والبوتاسيوم والنياسين وفيتامين هـ، التي تقوم بدور مضادات أكسدة وتتخلص من الجذور الحرة السامة التي تسبب الكثير من الأمراض.
2- العلاقات الاجتماعية
في أوكيناوا اليابانية وجد "بيوتنر| أن هناك رابطة تجمع أهل المدينة تسمى "مواي"، بدأت ببعض الأشخاص يجمعون الأموال من بعضهم لمساعدة من يمر منهم بأزمة، ثم تطور الأمر حتى تكونت صداقات فأصبحوا يتعلموا الرقص ويتسامرون ويمارسون النشاطات معًا، فبلغوا سن التسعين معًا، فيما تقول الدراسات إن الوحدة والعزلة قد تقصر عمر الإنسان حوالي 15 عامًا.
وفي سردينيا الإيطالية ومع ارتفاع عدد المعمرين في تلك القرية فإنك لا تجد دار رعاية مسنين واحدة، لأن العائلات تعتني ببعضها، فلا يشعر كبار السن أنهم عالة أو عنصر غير مهم في المجتمع، إذ يتناوب الأصغر على رعاية الأكبر من العائلة حتى لو لم يكن الأب أو الأم.
أما إيكاريا اليونانية فينمو الحب ويزدهر في أي مرحلة من مراحل العمر، فلا يعتبر الإنسان نفسه كبيرًا على الحب والزواج مهما بلغ من العمر، ومن ثم يجد شريكًا ومتعة متجددة للحياة. وفي أوقات العطلات والفراغ تكون التجمعات مع العائلة والأصدقاء والرقص أو ممارسة نشاط بدني ممتع هي الأولوية. هذه اللحظات السعيدة المفعمة بالنشاط والتواصل الروحي والاجتماعي تعزز صحة الجسم والقلب وتشعر الإنسان بطيب الحياة وتطيل عمره.
3- الحركة
أوكيناوا:
الناس هناك لا يملكون الكثير من الأثاث، باستثناء طاولة منخفضة، ومعظم جلساتهم على الأرض. لذلك فهم ينهضون ويجلسون أكثر من 30 مرة باليوم الواحد، بما يعني 30 تمرينة قرفصاء تقريبًا، ما يعزز توازن أجسادهم ويقوي عضلات الجزء السفلي منها. بالإضافة إلى ذلك، كل بيت له حديقته يعتني بها أصحابها، ومن ثم فهم يقضون ساعتين كل يوم على الأقل في نشاط زراعي متواصل. في المقابل، أحد أبرز الأسباب العشرة لوفاة كبار السن في الولايات المتحدة هو "السقوط" لأن الجزء السفلي من أجسادهم ضعيف بسبب الجلوس على الكراسي المريحة طوال الوقت.
سردينيا:
في تلك القرية الإيطالية المرتفعة بين الجبال، يقضي السكان نهارهم في التمشية والتجول بين أرجائها، ولا يخلو شارع وإن كان ممهدًا من المرتفعات، كما أنهم لا يستخدمون وسائل المواصلات، وعند سؤال سيدة عن معدل الذهاب إلى الكنيسة أجابت أنها تسير إليها كل يوم 10 دقائق، أي أنها تعزز صحتها الجسدية والروحية بالسير 10 دقائق كل يوم. ويضيف "بيوتنر" أن "99% من التحركات في سردينيا تكون إما صعودًا أو نزولاً بسبب المرتفعات".
اقرأ أيضًا:"الكايزن" اليابانية.. فلسفة "التغيير للأفضل" لتحسين العمل والحياة الشخصية
4- غرض واضح ومعروف من الحياة
هناك مبدأ في بلدة أوكيناوا اليابانية يسمى "إيكيغاي" وهو معنى أقرب إلى المهمة أو الغاية. إحساسهم بالهدف يساعد على تغذية الروح وبفقده يعتقدون أنهم سيموتون ولو كانوا أحياء. ولذلك فهم لا يتقاعدون وإن انتهت مدة عملهم الحكومي. يستيقظون في الصباح كل يوم لعمل شيء ما، فنما لديهم هذا الإحساس المستمر بالغاية والأهمية.
يظل الإنسان أيضًا يعمل في نيكويا بكوستاريكا مهما بلغ من العمر، وليس عندهم مفهوم يشبه مفهوم التقاعد، حيث تجلس بلا عمل ويعولك مصدر دخل آخر، بل يعمل الرجل ما دامت صحته جيدة.
5- الهدوء والصحة النفسية
الغالب على مجتمعات المعمرين هو البعد نسبيًا عن الحضر، والعيش في هدوء بلا عجلة أو توتر. يعيش الناس في أوكيناوا في أقصى جنوب اليابان حيث المجتمعات البسيطة الصغيرة، وفي باقي المناطق الزرقاء نجد الناس إما رعاة بقر، أو حرفيين، أو مزارعين، كلها مهن لا تتطلب قدر كبير من التوتر والضغط.
تقول "ميثو ستروني" مؤلفة كتاب "مقاومة الضغط النفسي": "الضغط أشبه بزر يضغط على الدماغ لتعمل وفق آلية أسوأ الاحتمالات فترتفع احتمالات الالتهابات في أعصابنا".
بالإضافة إلى أن الاهتمام بالجانب الإيماني يعد واحدًا من أهم العوامل التي تجعل الأشخاص المعمرين في حالة نفسية وروحية جيدة، فتقلّ لديهم مستويات الاكتئاب وأمراض القلب والشرايين المسبب الأول للوفيات حول العالم، إذ ذكر الغالبية العظمي من المعمرين أنهم ينتمون لطوائف دينية ويواظبون على ممارسة الشعائر وزيارة دور العبادة.