"إرثنا مسؤوليتنا".. احتفاء خاص بالتراث الثقافي والتاريخ الغني للمملكة في العُلا
"إرثنا مسؤوليتنا" I Care عنوان الحملة الأحدث التي أطلقتها الهيئة الملكية لمحافظة العُلا "RCU" في مطلع شهر فبراير الجاري، وهي المبادرة الشاملة التي تهدف إلى حماية التراث المادي وغير المادي والحفاظ عليه، لتسليط الضوء على أهمية الإرث الثقافي، مع تعميق وإثراء معرفة ووعي الجمهور، ورغبته في حماية مقدراته الثقافية، ومن ثم الارتقاء بتقدير هذه المنطقة العريقة، باعتبارها إحدى نفائس العالم، حيث تتفرد المملكة العربية السعودية والعُلا بإرثها الاستثنائي، الذي يشكل رابطًا يجمع بين أفراد المجتمع ويصلهم بجذورهم وتاريخهم المشترك، باعتباره رمزًا لماضيهم ومستقبلهم في آنٍ واحد، ما يعني غرس الفخر بهذه المعالم وتشجيع حمايتها، بإشراك المجتمعات في هذه المهمة الحيوية، التي تقع مسؤوليتها على عاتق الجميع.
الحملة التنويرية التي تقودها الهيئة الملكية لمحافظة العُلا، الراعي الثقافي لشمال غرب شبه الجزيرة العربية، لا تحتفي بالتراث الثقافي للمملكة فحسب، بل تدفع الجهود أيضًا لتعزيز التقدير والمشاركة المجتمعية، وتوسيع معرفة الناس وتقديرهم لماضي العُلا التاريخي، والحفاظ على تراثنا الغني، فيما تسلط الضوء محليًا ودوليًا على أهمية هذه المشاريع المتنوعة والمستمرة، مع حماية هذا المشهد المتنوع للأصول الثقافية، بما في ذلك المعالم الطبيعية والاصطناعية، مع استمرار تطوير منطقة العُلا لتصبح أكبر متحف حي في العالم، كوسيلة لتعزيز التنمية الاقتصادية، بما يتماشى مع أهداف رؤية السعودية 2030.
شراكة فنية فريدة
كمرحلة أولى مميزة من حملة "إرثنا مسؤوليتنا" I Care، أبرمت الهيئة الملكية لمحافظة العُلا شراكة مع الفنان الأمريكي الشهير "ديفيد بوبا"، لإنشاء عمل فني فريد، يندمج بإبداع شديد ضمن المناظر الطبيعية لمنطقة ساحرة، إذ يأخذ هذا العمل شكل يدين حاميتين تنبثقان من الرمال، وتندمجان في البيئة المحيطة، فيما تزينهما الزخارف العربية على الأكمام، بينما تحيط اليدان بقبر "لحيان ابن كوزا" الشهير، الوجهة التراثية الضخمة التي تزيد جمال الحِجر، والتي صنفتها اليونسكو كأول موقع للتراث العالمي في المملكة العربية السعودية عام 2008.
الشراكة الفنية الفريدة بين الهيئة والفنان العالمي الأبرز في مجال الأعمال الفنية المتلاشية، وهو أحد الفنانين القلائل في العالم ممن ينشئون أعمالاً فنية بمثل هذه الضخامة، أنتجت قطعة إبداعية مثيرة للإعجاب، باستخدام عناصر طبيعية حصرية وصديقة للبيئة، بما في ذلك الأرض الصفراء من أوروبا والحمراء من الشرق الأوسط، والتي تتحلل مع الوقت ولا تترك أثرًا خلال فترة من الزمن، لتقدم واحدة من أكبر أعمال "ديفيد بوبا" حتى الآن، الذي صمم إبداعاته لتتلاشى في غضون أسابيع، ومن ثم جاءت هذه اللوحة المدهشة التي نفذها بمساعدة من أبناء العُلا، لتسلط الضوء على الحاجة الملحة للعمل الجماعي في حماية مواقع التراث الثقافي في العُلا والمملكة العربية السعودية والعالم.
يذكر أن الفنان "ديفيد بوبا" اشتهر بنهجه الفني المستدام وتقنياته المبتكرة، وقد بدأ شغفه بالفن من خلال متابعته الوثيقة لوالده "ألبرت بوبا"، أحد أوائل فناني الغرافيتي في نيويورك، والذي علّمه الرسم التقليدي في سن مبكرة، فجذبه ما بالفنون من مغامرات خارج استوديو الرسم، حيث شكّل اهتمامه بفن الشارع والجداريات العصرية مصدر الإلهام الأول وراء أعماله الحالية، بينما يستخدم فيها أصباغًا طبيعية ممزوجة بالماء فقط، لرسم لوحات أرضية سريعة التلاشي، يمكن رؤيتها باستخدام طائرات "درون" بدون طيار، وقد تم توثيق أعماله التي تتركز بشكل أساسي في الجزر المأهولة وغير المأهولة في منطقة شمال أوروبا، باستخدام أفلام فوتوغرافية قصيرة، أو الرموز غير القابلة للاستبدال، كأعمال فنية رقمية فريدة.
وقد توج "بوبا" أعماله الفنية بمشروعه الأحدث في "إرثنا مسؤوليتنا" الذي قال عنه: لقد كان العمل في هذا المشروع امتيازًا هائلاً، "إرثنا مسؤوليتنا" ليست مجرد حملة، إنه احتفال بتراث وتقاليد العُلا والمملكة، إذ يعد تراث العُلا كنزًا للعالم أجمع، وقد أثرتني المحادثات المفيدة التي أجريتها مع رواة القصص المحليين، والروايس، وحراس التراث، والسفراء الشباب الذين تم تدريبهم في برنامج حماية لتولي مسؤولية هذا التراث الذي لا يُقدر بثمن.
اقرأ أيضًا: لتجربة طبيعية مميزة.. ضوابط التنزه والتخييم في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية
رمز طموح المنطقة
"معًا نحمي تاريخنا لازدهار مستقبلنا"، جملة وضعتها الهيئة الملكية لمحافظة العُلا أمامها، إذ حرصت على حماية التراث الثقافي لمنطقة العُلا، وتمكنت من خلال المبادرات الشاملة من الحفاظ على الكنوز التاريخية، والتعمق في تاريخ العُلا لفهم جذورها الثقافية، مع التركيز على حماية المواقع الأثرية، ما يضمن بقاء آثارها سالمة للأجيال القادمة، ولعل تنفيذ الهيئة لمشاريع ترميم وإعادة تجديد هذه المواقع يأتي في إطار هذه الرؤية، التي لا تنحصر في ذلك، بل تمتد لتشمل تنظيم الفعاليات المختلفة لعرض التقاليد المحلية والموسيقى والمعارض، ومن ثم تسليط الضوء على تراث العُلا الثقافي الغني.
كما تحرص الهيئة على تنفيذ برامج وحملات تعليمية لتعزيز مشاعر الفخر والمسؤولية لدى سكان العُلا تجاه تراثهم الثقافي، فيما تتبنى نهجًا تنمويًا مستدامًا يتماشى مع الهدف بأن تصبح العُلا وجهةً سياحيةً رائدة، إذ تحرص على إدارة زيارة السياح للأصول الثقافية والبيئة، مع الالتزام بتحقيق التوازن بين السياحة والحفاظ على هذه المواقع الأثرية بما يبقيها للأجيال القادمة بطريقة مسؤولة ومستدامة، وقد جاء هذا العمل الفني ليرمز إلى الطموح في حماية الأماكن ذات القيمة التاريخية والثقافية العظيمة، مع وضعها في المكانة الصحيحة التي تستحقها على الخارطة العالمية لأبرز مواقع التراث الإنساني، وكذلك الحفاظ على الكنوز المعرضة للخطر، التي تحظى بتقدير المجتمع وخبراء التراث العالمي على حد سواء.
وحسب الدكتور عبد الرحمن السحيباني، المدير التنفيذي لقسم الآثار والحفظ والمقتنيات في الهيئة الملكية لمحافظة العُلا: يمكن إرجاع جذور الثقافة والتقاليد السعودية إلى آلاف السنين، حيث تأثرت بحضارات متنوعة مثل الأنباط والمينائيين واللحيانيين.
وتعد حملة "إرثنا مسؤوليتنا" خطوة مهمة وشاملة نحو زيادة وعي مجتمع العُلا وتقديره للتاريخ المذهل الموجود على عتبة بابهم، فقد خطت المملكة خطوات كبيرة للحفاظ على تراثها الثقافي ومجموعتها الغنية من الأصول وتطويرها، بما في ذلك العُلا بتاريخها البشري الذي يمتد إلى 200 ألف عام، وباعتبارها حارسًا لهذا المفترق الفريد للحضارات، تركز الهيئة الملكية لمحافظة العُلا على رفع وعي الناس بالحاجة إلى المشاركة في جهود الحفاظ على البيئة من خلال حملة "إرثنا مسؤوليتنا"، إذ سيساعد ذلك على تعميق تواصل الهيئة مع مجتمعنا، بينما نعمل لتحقيق هدف مشترك وشامل لحماية تراثنا والاحتفاء به، حتى يمكن للأجيال القادمة الاستمتاع به.
الجمهور الرئيس للحملة
لعل الجمهور الرئيس لحملة "إرثنا مسؤوليتنا" I Care كان إحدى النقاط البارزة في خطط الهيئة الملكية لمحافظة العُلا، التي درست مشروعها التنويري بعناية واضحة، جعلها تضع التفاصيل الدقيقة لكيفية التأثير في المجتمع، ومن ثم حددت جيل الشباب في العُلا كمستهدف ومشارك أول، وتعمل الهيئة على تعزيز دورهم في الحفاظ على التراث الثقافي للمستقبل، حيث تترجم رغبة مجتمع العُلا في حماية هذه المعالم من أجل الحفاظ على الهوية المحلية والوطنية، ومن ثم ستقوم بتزويد المدارس بمجموعات من الأدوات الشاملة لتعليم وتمكين الشباب ومعلميهم، من خلال سلسلة من ورش العمل المصممة بعناية، التي تركز على أهمية حماية التراث وكيفية ارتباط المعالم بالمجتمع، فيما ستستضيف الهيئة أيضًا الزيارات المدرسية والأنشطة المجتمعية في مجموعة من المعالم التاريخية المتنوعة في العُلا، بينما وفرت مجموعة أدوات مخصصة للأطفال، من بينها دفتر تلوين يهدف إلى لفت اهتمام الصغار وتثقيفهم حول أهمية حماية التراث بطريقة جذابة ومرحة، مع تسليط الضوء على دور التراث الثقافي والتقاليد العريقة في حياتنا اليومية وبناء مستقبلنا.
أدركت الهيئة الملكية لمحافظة العُلا منذ البداية الدور النشط والرئيس الذي يلعبه المجتمع، صغارًا وكبارًا، في المساعدة بالحفاظ على المشهد الثقافي، ومن ثم جاءت الحملة "إرثنا مسؤوليتنا" لسد أي فجوات معرفية، وتعزيز الاكتشاف المستقبلي بين السكان والسياح الزائرين والمواطنين السعوديين لمنطقة ساحرة التفاصيل، تتباهى بمناظرها الطبيعية وجاذبيتها الخاصة، حيث المواقع التراثية المتنوعة، والجبال الشاسعة، والأودية الخضراء، والبيئة الصحراوية البكر الواسعة، وهو ما جعلها اليوم وجهة عالمية حديثة ورائدة للثقافة والتاريخ والاكتشافات الأثرية وتبادل المعرفة.
كما أن تاريخ العُلا وحاضرها يؤهلها لاحتلال مكانة خاصة، فهي موطن للمدينة النبطية الرائعة وموقع التراث العالمي لليونسكو، ومدينة دادان عاصمة المملكتين الدادانية واللحيانية، ومكتبة جبل عكمة المفتوحة، التي تم إدراج نقوشها القديمة اليوم في سجل ذاكرة العالم التابع لليونسكو، ومدينة العُلا القديمة، والتي تم تصنيفها كواحدة من أفضل القرى السياحية لمنظمة السياحة العالمية، وغيرها من المواقع الكثيرة التي تعد جزءًا من برنامج الهيئة الملكية لمحافظة العُلا النشط للحفاظ والاستكشاف والدراسة، حيث يتم تجديد العُلا بشكل شامل لتصبح وجهة للسياح الفضوليين ثقافيًا، مع ترسيخها كموقع مرغوب فيه للعيش والعمل والزيارة، مع مجموعة واسعة من المبادرات في مجالات الآثار والسياحة والثقافة والتعليم والفنون، بما يبرز عمق رؤية المرسوم الملكي الذي صدر في يوليو من عام 2017 لإنشاء الهيئة الملكية لمحافظة العُلا، التي أعادت اكتشاف المنطقة كما لم تُكتشف من قبل.