"أشهر محتال في التاريخ الحديث".. من هو "برنارد مادوف"؟
أدار بيرنارد "بيرني" مادوف Bernard Madoff، أكبر مُخطط احتياليّ في التاريخ، إذ استمر لعقودٍ دون أن يكشفه أحد، واستطاع أن يحتال على الآلاف، وحتى على المخضرمين في مجال الاستثمار كما سنرى لاحقًا، والأدهى من ذلك أنه لولا الأزمة الاقتصادية العالمية التي حدثت في عام 2008، ربما لم يكن أمره ليُكشف. في عام 2009، حُكِمَ عليه بالسجن لـ 150 عامًا، وأُجبِرَ على دفع تعويضات وصلت إلى 170 مليار دولار!
نجاحٌ سريع
بعدما حصل "برنارد مادوف" على درجة البكالوريوس في العلوم السياسية، التحق بكلية الحقوق في بروكلين، ولكنه لم يُكمل هذه المسيرة، وقرر استثمار مبلغٍ كان قد جمّعه من فترة عمله بالدراسة بالإضافة إلى 50 ألف دولار اقترضها من أصهاره لتأسيس شركته الاستثمارية، أو الاحتيالية بالمعنى الأصح، التي تُسمّى Bernard L. Madoff Investment Securities LLC في عام 1960.
في البداية ساعده والد زوجته على جذب المستثمرين، بل أوصله بمشاهير أبرزهم المخرج العبقري "ستيفن سبيلبرج". كانت عائدات شركة "مادوف" تصل إلى 10% وأحيانًا إلى 14% سنويًا، وهذا رقمٌ لم يستطع أي بنك استثماري آخر أن يقترب منه حتى، وعليه لا عجب أن "مادوف" كان يسيطر على أكثر من 5% من حجم التداولات التي تحدث في بورصة نيويورك، قبل أن تتحول هذه النسبة إلى 10-15% في التسعينيات عندما تولّى رئاسة بورصة Nasdaq.
مخطط بونزي
كانت شركة "مادوف" من أوائل الشركات التي استخدمت الحواسيب أو الكمبيوترات، ما ساعد على تطورها وتوسعها، ومع كل تطور كان يحدث، كان "مادوف" يُعيّن المزيد من الأفراد، وعلى رأسهم أفراد العائلة، بالشركة، ومن أبرزهم أخوه "بيتر" الذي كان له دورٌ كبير في نجاح الشركة لاهتمامه بالتكنولوجيا ومعرفته بأهميتها، وولديه "أندرو" و"مارك" الذين لن تنتهي قصتهم عند هذا الحد.
أوهم "برنارد مادوف" جميع المستثمرين، وحتى شركائه بما فيهم أخوه وولداه، بأنه يُشغّل أموال المستثمرين ويعتمد على استراتيجية شرعية معروفة في عالم الاستثمار باسم الـ "split-strike conversion"، ولكن الحقيقة أنه كان يعتمد على مُخطط احتياليّ شهير يُسمى "مُخطط بونزي- Ponzi Scheme" -نسبة إلى تشارلز بونزي"، وفكرة هذا المخطط ببساطة تعتمد على دفع أموال المستثمرين الذين يطالبون بأموالهم من استثمارات الآخرين، وهكذا.
مشكلة هذا المخطط تكمن في أن جميع المستثمرين، أو معظمهم، قد يطلبون أموالهم مرةً واحدة، ما يضع المحتال في ورطة ويُجبره على رد الاستثمارات من جيبه الخاص، إن كان يمتلك ثروةً خاصة من الأساس، وهذا ما لم يعمل له "مادوف" حسابًا، أو ربما كان يعرف -وهذا المُرجّح-، ولكن نجاحه أعماه.
اقرأ أيضًا:"ليسوا في السينما فقط".. أشهر مصاصي الدماء في الواقع | فيديو
شركاء برنارد مادوف
ليس معروفًا متى قرر "مادوف" أن يعتمد على "مُخطط بونزي" بالضبط، ولكن وفقًا لشهادته التي أدلى بها لاحقًا في المحكمة، فإن المخطط بدأ في التسعينيات، أما بحسب أقوال مدير حسابات الشركة، فرانك دي باسكالي Frank DiPascali، والذي كان يعمل مع "مادوف" منذ عام 1975، فقال إن المخطط بدأ منذ مدة طويلة لدرجة أنه لا يستطيع أن يتذكر متى بالضبط.
على ما يبدو أن سيل الأموال قد أغرى "مادوف" فعلاً، وذلك بشهادته أيضًا، حيث قال إنه لم يكن مُضطرّا إلى العمل بـ"مخطط بونزي" من الأساس، وأنه امتلك القدر الكافي من المال الذي يناسب نمط حياته وأسرته، بل وحتى أنه ألقى اللوم على شركائه بطريقة غير مباشرة عندما قال ما يفيد بأنه سمح لنفسه بالانجرار نحو شيء ما، وبأنه اعتقد أنه سيستطيع إنقاذ نفسه لاحقًا والعدول عن ذلك، ولكنه لم يقدر. وإن كان هذان التصريحان غير مقنعين، فإن "مادوف" قد قال نصًا: "الجميع كانوا جشعين، كل شخص أراد أن يستمر وأنا سرت مع التيار".
شركاء "مادوف" الأساسيون، والذين بدأوا كضحايا أو مجرد مستثمرين معه، كانوا: كارل شابيرو، وجيفري بيكوفر، وستانلي تشيس، ونورمان ليفي، وجميعهم كانوا مستثمرين من العيار الثقيل، وحتى أن البنوك كانت تثق ببعضهم ثقة عمياء. وتعود علاقة "مادوف" بهذه الشخصيات الأربع إلى ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وبحسب صحيفة "Bloomberg Law"، فإن كل واحد منهم استفاد بمئات الملايين من الدولارات بفضل "مخطط بونزي" الذي أداره "مادوف".
وحقيقةً فإن مبررات العامة للاستثمار مع "مادوف" كانت مُقنعة جدًا، فمن ناحيةٍ كان المحتال يعطيهم عوائد تصل إلى 14%، ومن ناحيةٍ أخرى كان أشهر المستثمرين يضخون أموالهم معه والجميع يعلم ذلك، ومن ثم افترضوا أنه مصدرٌ موثوق.
الرجل الذي كشف المستور
لعب المحلل الماليّ المخضرم "هاري ماركوبولوس" دورًا لا يُستهان به في كشف زيف المحتال "مادوف". البداية كانت في عام 1999، وقتها جزم "ماركوبولوس" أن ارتفاع عوائد الاستثمار إلى تلك الدرجة لا يُمكن أن يكون أمرًا طبيعيًا؛ فظلّ يدرس جميع المعاملات، ويحقق في البيانات التي يُخلّفها "مادوف" وراءه هنا وهناك إلى أن وصل إلى الحقيقة؛ المحتال يستخدم مخطط بونزي!
أسرع "هاري" إلى هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية "SEC" وأخبرهم بما توصل إليه، ولكنهم تجاهلوه، ولك أن تتخيل أنه ذهب إليهم 4 مرات خلال التسع سنوات اللاحقة، في كلِ مرة يُحذرهم، ولكن بلا جدوى. لم ييأس "هاري" وتواصل مع العديد من السياسيين والصحفيين لفضح المحتال، ولكن ذلك لم يأتِ بالنتيجة المرجوة.
ولكن، في نوفمبر 2008، بدأت النتائج المرجوة تظهر أخيرًا، وقتها انخفض مؤشر S&P 500 بنسبة 39% وأزمة الرهن العقاري كانت تدق الأبواب، الجميع كان بحاجة إلى المال الفوري والوقت لم يكن مناسبًا تمامًا للاستثمار. فما كان من جميع المستثمرين تقريبًا إلّا أن طالبوا "مادوف" باسترداد أموالهم "نقطة ضعف مخطط بونزي"، ووقتها فقط عَلِم المحتال أنه في مأزق، وأن رصيده من الستر قد نفد.
وفي العاشر من ديسمبر يُحضِر "مادوف" ولديه، أندرو ومارك، ويُخبرهما بأنه مُحتالٌ كبير، وبأن إمبراطوريته الزائفة هذه بُنيت على باطل.
يقول "مادوف" إنه لم يكد يُخبر ولديه بهذه الحقيقة حتى أسرعا إلى محامٍ، ولكنه أخبرهما بتسليم "مادوف" لأنه ليس هناك مفر. وبالفعل، في اليوم اللاحق، 11 ديسمبر 2008، يتم اعتقال "برنارد مادوف" ويُحكَم عليه بـ 150 عامًا، بل ويُجبَر على دفع تعويضات وصلت إلى 170 مليار دولار. صادرت الدولة كل أملاكه، ولكن ذلك لم يكن كافيًا بالطبع.
من المؤسف أن نعلم أن فظائع "مادوف" أدت إلى انتحار الكثيرين ممن وثقوا به وضخوا أموالهم معه، والأمر لم يقتصر عليهم فقط، إذ إن ولده الكبير "مارك" قد انتحر بالشنق بعد عامين فقط من كشف المستور، على ما يبدو ليتبرأ من جرائم أبيه، ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فالابن الأصغر "أندرو" قد مات بالسرطان أيضًا عن عمر يناهز 48 عامًا في 2014. لكل هذه الأشياء، كتبت صحيفة "الغارديان" مقالاً ذكرت في عنوانه أن مادوف "ماليّ قاتل".
ظل "مادوف" على قيد الحياة إلى أن تُوفّي في الرابع عشر من أبريل 2021، وذلك بعد عامٍ تقريبًا من طلب محاميه بالإعفاء عنه مُبكرًا لأنه يعاني من مشكلات صحية قد تُودي به خلال 18 شهرًا، حسب وكالة "رويترز".