الإنفلونزا الإسبانية لم تكن إسبانية.. قصة الجائحة التي أصابت ثُلث سكان العالم
نَجَمَ عن فيروس كورونا المستجد COVID-19 ما يقرب من الـ 7 ملايين حالة وفاة بحسب آخر تحديثات رسمية، ناهيك أنه أصاب حوالي 700 مليون شخصٍ حول العالم. أرقامٌ هائلة ومخيفة لا ريب، ولكنها لا تقترب من هول ما تسببت به الإنفلونزا الإسبانية Spanish Flu في نهاية الحرب العالمية الأولى. تلك الإنفلونزا، والتي لم تكن إسبانية بالمناسبة وسنتحدث عن ذلك لاحقًا، أصابت حوالي نصف مليار شخصٍ من سكان المعمورة، كما أودت بحياة 50 مليون شخص، منهم 675 ألفًا في الولايات المتحدة وحدها.
فرضت الإنفلونزا الإسبانية حالةً من التضييق والخناق على الجميع في ذلك الوقت. أُجبر المسؤولون على إغلاق أي مكان يمكن أن تحدث به تجمّعات، الجميع كان يرتدي "الكمَّامات"، والمشارح كانت مُكدَّسة بالجثث التي، وللمفاجأة، كان أغلبها لشبابٍ يافعين. ظل الوضع هكذا لما يقترب من العامين تقريبًا، إلى أن راحت، أخيرًا، وطأة ذلك الوباء الشنيع في أوائل عشرينيات القرن الماضي.
ما الذي تسبب بحدوث وباء الإنفلونزا الإسبانية؟
بدأ الأمر بنهاية الحرب العالمية الأولى، وحتى أن الإنفلونزا يُشار لها بجائحة 1918، وذلك بسببٍ فيروس يُسمى فيروس الإنفلونزا "أ" من نوع H1N1، وهو ما كان متحولاً جديدًا. حدث الوباء على 3 مراحل أولها كانت في مارس من ذلك العام. لم يُعرف المصدر الأوليّ الذي ظهر فيه الوباء، ولكننا نعرف جيدًا أنه سرعان ما انتشر في أوروبا الغربية، وبنهاية شهر يوليو كان قد تفشى في بولندا.
لم تقترب المرحلة، أو كما تُسمى أحيانًا بالموجة، الأولى من المرض من خطورة المرحلة الثانية التي بدأت في الظهور خلال فصل الصيف إلى أن توحَّشت في أغسطس 1918. في ذلك الوقت، عادة ما كانت المنية توافي الحالات بعد يومين فقط -وأحيانًا بعد ساعات- من ظهور الأعراض والتي كان الالتهاب الرئوي الحاد من أبرزها. فاعلية الفيروس كانت بالغة الشدة لدرجة أنه في الولايات المتحدة، وبعد مرور 6 أيام فقط من الإبلاغ عن أول إصابة، كان عدد الوفيات قد اقترب من الـ 7 آلاف حالة بالفعل.
كانت الموجة الثانية من الوباء أكثر شراسة من سابقتها، التي بدأت في أوائل مارس، ومن الموجة الأخيرة التي بدأت في الظهور مع حلول فصل الشتاء. ومن الجدير ذكره أن نصف الوفيات التي نتجت عن المرحلتين الثانية والثالثة من الوباء أعمارهم تتراوح بين الـ 20 والـ 35 عامًا، وهذا شيء عجيب، إذ يُفتَرض بهذه الفئة العمرية الصحيحة أن تكون ذات مناعةٍ صَلدة مقارنة بالأعمار الأصغر أو الأكبر، فلماذا؟
اقرأ أيضًا:هل يحميك فيتامين سي من نزلات البرد حقًّا؟
لماذا تأثر الشباب بالإنفلونزا الإسبانية أكثر من غيرهم؟
هناك الكثير من التكهنات بشأن هذا الأمر، فالبعض يقول إن كِبار السن امتلكوا مناعة ضد الفيروس الأصلي الذي تسببت النسخة المتحورة منه بالإنفلونزا الإسبانية، ما جعل مناعتهم تتكيف مع الإنفلونزا الإسبانية بسهولة، وذلك على عكس الشباب الذين لم يُعاصروا الفيروس الأصلي من قبل.
هناك تفسيرات أخرى قد تكون أكثرها إثارة هي تلك التي تُعزَى إلى ما يُسمى بـ "عاصفة السيتوكينات"، والسيتوكينات هي بروتينات يُرسلها الجهاز المناعي لصد أي فيروس يتعرض له الجسم، فتقوم بدورها -السيتوكينات- باستقطاب الخلايا المناعية الأخرى مثل الخلايا التائية T-cells للتعامل مع الجسم الغريب الذي يدخل إلى الجسم.
ووفقًا لدلائل كثيرة، فإن الجهاز المناعي، للشباب والأصحاء الذي تعرضوا لفيروس الإنفلونزا الإسبانية أكثر من غيرهم، كان قويًا لدرجة أنه تعامل مع الفيروس بحدةٍ زائدة طالت الجسم نفسه، حيث أرسل الجهاز المناعي عددًا كبيرًا من السيتوكينات، فيما يُعرَف بعاصفة السيتوكينات Cytokine storm، أدت في النهاية إلى التهابات حادة وخطيرة ما سبب الوفاة.
ومما يجدر بالذكر أيضًا أن هناك تقارير حديثة تُشير إلى أن كل هذا ليس صحيحًا، وأن الأطفال وكِبار السن كانوا أكثر عُرضة للإصابة بالإنفلونزا الإسبانية، وليس الشباب والأصحّاء، وهذا على عكس ما جاء بالكثير من المصادر الموثوقة.
من ضمن هذه التقارير مثلاً، تقرير نشرته شبكة WIRED تُركز فيه على دراسة تناولت 81 شخصًا ممن توفوا بسبب الإنفلونزا الإسبانية في عام 1918. وعلى عكس الشائع، فإن القائمين على الدراسة قد لاحظوا أن الشباب الذين توفوا بسبب الوباء كانوا يعانون أصلاً من مشاكل كثيرة مثل سوء التغذية أو أمراض مزمنة أخرى جعلتهم أكثر عُرضة للوفاة بنسبة 2.7 مرة من غيرهم.
كيف كانت أعراض الإنفلونزا الإسبانية؟
عانى المصابون بجائحة الإنفلونزا الإسبانية أعراضًا كثيرة منها الالتهاب الرئوي الحاد كما ذكرنا، إضافة إلى آلام المفاصل والعضلات، الصداع، جفاف الحلق، آلام الصدر، السعال، وارتفاع درجة الحرارة إلى 40 درجة مئوية. كان الأشخاص يمارسون حياتهم بشكل طبيعي، ومرة واحدة يُفاجأون بظهور هذه الأعراض عليهم.
من الشائع أيضًا أن أنوف المصابين بالمرض كانت تنتفخ ثم تنزف بشكلٍ متكرر، وإذا كان الضحية محظوظًا، فإن الإنفلونزا كانت تفارقه بعد حوالي 48 إلى 72 ساعة من الإصابة. أما بالنسبة لهؤلاء الذين لم يحالفهم الحظ، فكانوا سرعان ما يفارقون الحياة بعد أن تمتلئ رئتاهم بالسوائل ويبدأون بالنزيف إلى أن يفارقوا الحياة. وأكد تشريح جثث الضحايا هذه الأمور، حيث ظهرت الرئتان مملوءتين بالسوائل، بينما كان تورم الكبد والكلى والتهاب الطحال واضحًا.
لماذا سُميت الإنفلونزا الإسبانية بهذا الاسم؟
مع اقتراب نهاية الحرب العالمية الأولى، قررت ألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة أن يُعتِّموا على أي خبرٍ يمت لجائحة الإنفلونزا الإسبانية بصلة، بل في الوقع قرروا ألا يذيعوا أي أخبار تختص بهذا الفيروس، وذلك ببساطة لأنهم لم يريدوا أن يثبّطوا من معنويات الجنود. على الجانب الآخر كان إسبانيا دولة محايدة لا ناقة لها ولا جمل في الحرب أو التعتيم على الجائحة، ناهيك أن الملك ألفونسو الثالث عشر كان يشعر بإعياء نتيجة للوباء، ما أثار الانتباه وجعل الصحف الإسبانية تتحدث عن هذا المرض الخطير، نتيجةً لذلك أُشيع أن الوباء قد انطلق من إسبانيا فسُمي بـ"وباء الإنفلونزا الإسبانية".
أما عن منشأ الوباء الحقيقي، فغير معروفٍ بالضبط، ولكن الكثيرين يحصرون الاحتمالات في فرنسا وأمريكا وبريطانيا والصين، وإن كانت أول حالة معروفة ظهرت في ولاية كانساس الأمريكية في 11 مارس 1918. الطريف في الأمر أن الوباء كان معروفًا في إسبانيا بالإنفلونزا الفرنسية.
وبغض النظر عن منشأ الإنفلونزا الإسبانية، أو دعنا نقلّدها من الجنسية "الإسبانية" ونقول الإنفلونزا فحسب، فإن ذلك الوباء قد تسبب في خسائر بشرية فادحة؛ حيث أجهز على عائلات بأكملها وتسبب في اكتظاظ الجثث وتراكمها لدرجة أن الأشخاص العاديين كانوا يضطرون إلى حفر قبورهم لأنفسهم ولأسرهم. ولم تتسبب الجائحة -التي أصابت تقريبًا ثُلث عدد سكان العالم وقتها- في حسائر بشرية فحسب، وإنما ترتب عليها أضرار اقتصادية وصلت إلى أن القمامة كانت تتراكم في الشوارع لأن أحدًا لم يتولَّ أمرها.