فخ الهيبة.. هل كُنت تخدع نفسك طوال حياتك؟
"لقد مثلت في أكثر المسلسلات مشاهدة وأقل المسلسلات مشاهدة وحصلت على المال والشهرة التي كنت أسعى لها وإلى الآن لم أجد ما يملأ الفراغ الذي بداخلي، ولو كان الأمر بيدي لاستبدلت بحياتي حياة الشخص الذي يعمل في محطة البنزين القريبة من بيتي".
تلك كانت كلمات الممثل الراحل "ماثيو بيري" في كتابه، وتُسمّى هذه الظاهرة التي تحدَّث عنها الممثل بـ"فخ الهيبة" Prestige trap، وهي ظاهرة تجعلنا نؤمن بأنّ جميع مشكلاتنا في الحياة، وحصولنا على المال والمكانة سيحدث بمجرد وصولنا إلى وظيفة مُعيّنة، أو الحصول على شهادة بعينها، ولكن هذا لا يحدث غالبًا رغم العمل الدؤوب للوصول إلى هذه الوظيفة، أو تحصيل تلك الشهادة.
ما هو فخ الهيبة؟
"فخ الهيبة" هو عندما يعمل الإنسان، أو يُوقِّع عقدًا على العمل في وظيفة مرموقة، مثل المحاماة أو الطب، بينما لا تُثِير هذه الوظيفة اهتمامه في الواقع وليس هو مولعًا بها.
وما لم يكن الإنسان راغبًا بالكُلّية في العمل في مهنة من المجالات التي عمل فيها، فهو مع ذلك يُقرِّر الشروع فيها لأحد الأسباب الآتية:
- لا يعلم وظيفة أفضل منها.
- يعلم أنّها ستُثريه وتجلب له كثيرًا من المال.
- الاستحواذ على إعجاب أصدقائه وعائلته.
ثُمّ في النهاية لا يجد شغفه، أو لا تُلبّي الوظيفة رغباته الحقيقية الكامنة في أعماقه، ما يجعله واقعًا في "فخ الهيبة"، وإن كانت الوظيفة تجلب المال الوفير، أو تُثِير إعجاب من حوله على الدوام.
لماذا نسقط في فخ الهيبة؟
في الثقافة الآسيوية، يُعدّ العمل طبيبًا، أو محاميًا، أو مهندسًا "أو أي وظيفة تبدو رائعة" وسام شرف من نوع ما، كما يُعطِي الأبوين سببًا للتباهي بك أمام الآخرين، لكن "فخ الهيبة" ليس مقتصرًا على الثقافة الآسيوية فقط، بل هو متحقق في المجتمعات التي تُركِّز فقط على النجاح، أو الإنجاز.
إنَّ "فخ الهيبة" من الأمور البشعة التي قد يقع فيها الإنسان؛ لأنّه من السهل الانخراط في منافسة على الجامعات أو الدورات، أو الوظائف المرموقة، فقط لإثبات أنّك كفء أو ناجح، وهذا من دون التوقف ولو لحظة لتقييم ما تفعله.
بل لا يطرح المرء على نفسه سؤالاً مهمًا للغاية، وهو لو لم تكن هناك مكانة "برستيج"، أو نقود، أو شهرة مرتبطة بهذه الوظيفة أو العمل، هل كُنتُ سأنافس للحصول على هذه الوظيفة؟، فضلاً عن العمل بها؟
للأسف أغلب مَن يُجِيبون أنفسهم على هذا السؤال -إن سألوا أنفسهم ابتداءً- يكون الأوان قد فات بالنسبة لهم، ويكونون قد انغمسوا في فخ الهيبة "البرستيج".
ما هي خطورة فخ الهيبة؟
الهيبة أو المكانة تُهدِّد الطموح الحقيقي للإنسان، فإذا كُنتَ ترغب في جعل الأشخاص الطموحين يُضيّعون وقتهم في مهمات تلهيهم عن طموحهم، فإنّ أفضل طريقة لذلك هي طُعم الخُطّاف بالهيبة "إشغالهم بمهمات للالتحاق بوظيفة تُحقِّق لهم المكانة وإن لم تُلائم رغباتهم أو تُلبِّي طموحاتهم الحقيقية".
هذه هي الوصفة لجعل الناس يتنافسون على مناصب العمل، ويكونون رؤساء أقسام، وما إلى ذلك.
القوة الكبيرة الأخرى التي تقود الناس إلى الوقوع في فخ الهيبة هي المال. صحيحٌ أنّ المال في حد ذاته ليس خطرًا، لكن عندما تُدفَع مُرتّبات جيدة ولكن يُنظَر للمهنة ذاتها بازدراء، مثل التسويق عبر الهاتف، أو إصلاح الأجهزة المنزلية، فإنّ الأشخاص الطموحين لا تُثنيهم نظرة الازدراء عن العمل فيما يطمحون إليه، ويمارس هذه الأعمال في النهاية الأشخاص الذين قد يُطلَق عليهم "يحاولون فقط كسب لقمة العيش"، وهذه ليست مذمّة أو عيبًا على الحقيقة.
لكن الخطر كل الخطر في الوظائف التي تجمع بين المال والهيبة كما في بعض المهن كالطب والتمثيل، فإنّ المهنة الآمنة والمزدهرة نسبيًا مع بعض المكانة "البرستيج" التلقائية، تُغرِي أي شخصٍ لم يُفكِّر كثيرًا فيما يُحبّه حقًا، ما يُسقِطه في فخ الهيبة، وقد تمضي حياته دون أن يدري أنّه وقع في الفخ، كما حدث مع الممثل الراحل "ماثيو بيري".
اقرأ أيضًا:الفرق بين الرجل والمرأة في التفكير.. معلومات قد تصدمك
ماذا بعد السقوط في فخ الهيبة؟
الآن قد قطعتَ شوطًا طويلاً، وتنافست مع كثيرٍ من الناس، بل تفوّقت عليهم بشكلٍ منقطع النظير؛ كي تصل إلى ما وصلتَ إليه الآن، وإذ بك تجد نفسك فاقدًا للشغف، بعيدًا عن أحلامك التي كانت تُطلّ من عينيك عندما كُنتَ شابًا يافعًا، وهنا يقع ما يُعرَف في علم النفس بـ "التنافر المعرفي Cognitive dissonance".
التنافر المعرفي يصف كيف أنّ الناس على استعداد لتبرير فكرتَين مُتناقضتين لتُناسِب معتقداتهم وخياراتهم الحالية، أو بإيجاز كيف نكذب على أنفسنا لجعل الأمور أكثر احتمالاً، أو للتوفيق بين خياراتنا السابقة "التي قد نجد حاليًا أنّها غير مفيدة أو لا تُلائمنا".
تبرير الجهد
تبرير الجهد هو شكلٌ من أشكال التنافر المعرفي الذي يجعلنا نُقدِّر الأشياء التي بذلنا فيها جهدًا كبيرًا بغض النظر عن القيمة الحقيقية للنتيجة "إذا احتجت إلى تبرير، فإنّ قيمة هذا الشيء لم تكن عالية كما كُنتَ تظن".
وفي النهاية، يرغب كل إنسان في أن تكون جوانب حياته كافة في وئام وتماشي مع معتقداته، سواء كان ذلك على الصعيد الوظيفي، أو في الحياة الشخصية، أو العلاقات الشخصية.
لذا قد يضطر بعضنا إلى "تزييفه حتى تنجزه" كآلية للتكيف مع هذه الأوقات الصعبة، أو لمنح أنفسنا سببًا لمواصلة المضي قدمًا في المواقف غير السارة أو الصعبة.
أمثلة عملية على التبرير
مثلاً قد يعمل بعض الناس لساعات طويلة لمدة 6 - 7 أيام في الأسبوع "حتى في العطلات الرسمية والكلام هنا ليس عمّن بحاجةٍ فعلية إلى هذا العمل"، فقد تُقنِع نفسك بأنَّ هذه مقايضة جيدة أمام المكاسب، أو المنافع، أو التقدُّم الوظيفي في المستقبل.
كذلك الحال مع من درس في كلية الطب وكرّس 5 - 6 سنوات من عمره، بالإضافة إلى مزيدٍ من البذل حتى بعد سنوات الدراسة، وهو جهد شاق بلا شك؛ لذلك في محاولة تقليل التنافر نبذل قصارى جهدنا للبقاء إيجابيين والتوفيق بين المعتقدات المتناقضة؛ الرغبة في التوازن بين العمل والحياة في ظلّ بيئة عمل غير مثالية أو غير ملائمة.
هل تستمر واقعًا في الفخ أم تُنقِذ نفسك؟
قد يكون بعض الناس قادرين على تحويل هذا التنافر إلى شغف جديد؛ ليتجاوزوا هذا التنافر، وهذه هي قصص النجاح التقليدية للجرّاحين أو الأطباء الدؤوبين الذين أنقذوا ما لا يُحصَى من الأرواح، وكتبوا أوراقًا بحثية عديدة، وكل ذلك في أثناء تمكّنهم من الزواج وإنجاب الأطفال.
لكن ماذا عن البقية الذين لم تسمع عنهم؟ هناك كثيرون مِمّن يعملون في وظائف مرموقة تُوفِّر المكانة "البرستيج" والمال الوافر، ومع ذلك لا يجدون أنفسهم سعداء، أو يطاردهم الحنين إلى طموحاتهم التي دفنوها بعد أن سال لُعابهم أمام هيبة ومال وظيفةٍ بعينها.
يظلّ بعض الناس منخرطين في وظيفتهم إلى سنّ التقاعد أو الوفاة وهذا هو الغالب، فالإنسان يخاف من التغيير وتقلّب الأحوال به، بينما يُواجِه بعضهم - وهؤلاء أقلية - مشكلات العمل الحالي ويبحثون عن طموحهم من جديد للوصول إلى وضعٍ يُفضِّلونه بدلاً من مطاردة سراب الهيبة الذي قد لا يملأ شغفك الداخلي حقًا وإن توهّمت ذلك سنين عددًا.