الأمر مُعقَّد قليلاً.. كيف عرفنا أن عُمر الكون 13.8 مليار سنة؟
تُقدم نظرية "الانفجار الكبير- Big Bang" تفسيرًا منطقيًّا لكيفية نشأة الكون، بل في الواقع إنها النظرية التي نعتد بها اليوم، ونتخذها مرجعًا لمعرفة كيفية نشوئه.
وتنص النظرية -باختصار- على أن الكون، البالغ عُمره 13.8 مليار سنة، لم يكن في البداية سوى نُقطة ذات حرارة وكثافة لا متناهيتين، ولكنها مع الوقت تمددت، وما زالت تتمدد "التمدد هو اللفظ الصحيح، وليس الانفجار"، آخذة في البرودة ومكونة لنا جميع ما نراه من نجوم وكواكب ومجرات، وغيرهم من الأجرام السماوية الأخرى.
ولكن لحظة، عُمر الكون 13.8 مليار سنة فكيف عرفنا ذلك؟ أليس هذا الرقم مبالغًا فيه، وبعيدًا كل البُعد عن تاريخ وجودنا نحن البشر على هذا الكوكب، والذي يُقدَّر -تاريخ وجود البشر على الأرض- بحوالي 300 ألف سنة فقط؟ ما أعنيه هو أننا لم نكن موجودين وقتها، فكيف توصلنا إلى ذلك؟
ملحوظة: لن نتطرق إلى المعادلات النظرية والتفاصيل العلمية الدقيقة لئلا نجعل الموضوع أكثر تعقيدًا، إذ إنه معقدٌ بالفعل، وعوضًا عن ذلك سنحاول أن نُبسط الموضوع قدر المستطاع، وفي نفس الوقت نحاول ألّا نُخل به.
العناقيد النجمية والعمر التقريبي للكون
لكلٍ نجم في الفضاء دورة حياة أو عُمر مُحدد يفنى بعدها. وتعتمد دورة حياة النجوم بشكل أساسي على كتلتها؛ فكلما كانت كبيرة، كان إشعاع النجم أكثر سطوعًا، ولكن أقل عُمرًا.
شمسُنا مثلًا؛ تمتلك كتلة تؤهلها للاستمرار بالسطوع لمدة 9 مليارات سنة تقريبًا، في حين أن نجمًا يمتلك ضعف حجمها، لن يقوى على الاستمرار أكثر من 800 مليون سنة، فما بالك بنجم تفوق كتلته كتلة الشمس بـ 10 أضعاف؟ الجواب أنه سيُشعّ ضوءًا يفوق ضوء الشمس بألفِ مرة، ولكنه سيفنى بعد 20 مليون سنة فقط!
على الجانب الآخر، إذا امتلك نجمٌ ما نصف كتلة الشمس، فإنه سيستمر في الوجود إلى ما يزيد على الـ 20 مليار سنة، مع العلم أن إشعاعه سيكون أكثر خفوتًا بشكل ملحوظ. إذًا فالعلاقة بين كتلة النجم ودورة حياته هي نسبة وتناسب، ومن خلال تحديد أقدم نجم موجود بالفضاء، فإننا من المفترض أن نصل إلى عُمر الكون التقريبي، أليس كذلك؟ للأسف الأمور ليست بهذه السهولة.
ليست بهذه السهولة لأن عدد النجوم الموجودة في الفضاء لا يمكن للعقل البشري أن يتخيله أصلاً "حوالي 200 مليار مليون نجم"، ففكرة دراسة أعمار النجوم مُنفردة هي فكرة غير قابلة للتحقيق، بل إن مجرد التفكير فيها يُعد جنونًا.
لهذا السبب يلجأ العلماء إلى ما يُعرَف بـ"العناقيد النجمية- globular clusters" لتحديد عُمر الكون. والعناقيد النجمية هذه عبارة عن تجمعات كثيفة لأعدادٍ كبيرة جدًا من النجوم "قد يصل عددها إلى مليون نجم"، والأهم من ذلك أن جميعهم تكونوا -تقريبًا- في نفس الفترة الزمنية، ما يعني أنهم يتشاركون نفس التركيب الكيميائي ونفس الكتلة، إلى حد ما، وهذا على عكس بقية النجوم المُنفردة والمُبَعثرة في الفضاء، والتي تختلف عن بعضها بشكلٍ صارخ في العُمر، والتركيب الكيميائي، والكتلة، وغيرهم من الخصائص الأخرى.
اقرأ أيضًا:كيف قاس العلماء عمر الأرض؟
تُسهّل هذه التجمعات النجمية المُنظَّمة على العلماء المهمة لأنهم يعرفون أن جميع نجومها متشابهة في العُمر كما أسلفنا الذكر، وبما أنها تتكون من أعداد جرّارة من النجوم، فإن دراستها سيختصر وقتًا ومجهودًا لا يُقدران بثمن في رحلة الوصول إلى عُمر الكون.
إذن، فالعناقيد أو التجمعات النجمية تعمل ككبسولات زمنية تقدم لنا معلومات قيمة حول تاريخ الكون، ولكنها تتطلب دراية جيدة بما شرحناه أعلاه فيما يتعلق بالعلاقة بين كتلة النجم ودرجة سطوعه ودورة حياته.
يعرف العلماء هذه المعلومات الأساسية معرفة تامة، ولهذا فإنهم -لمعرفة عُمر الكون- يلجأون مباشرة إلى البحث عن أقدم تجمع نجمي ويحددون خصائصه.
حتى الآن، فإن أقدم تجمع نجمي موجود "كتلته أقل من 0.7 من كتلة الشمس" يُشير إلى أن عُمر الكون يتراوح ما بين 11 و18 مليار سنة، وهذا نطاق واسعٌ نوعًا ما، ولكنه قرَّب مسافة الوصول إلى الرقم المعروف حاليًا بشكل واضح.
كيف توصلنا إلى الرقم الذي لدينا الآن "13.8 مليار سنة"؟
اقرأ أيضًا:«ثاني أصغر كواكب المجموعة الشمسية».. هل تدب الحياة على «المريخ»؟
معرفة عُمر الكون بدقة هو أمرٌ في غاية التعقيد -مثلما هو واضحٌ بالأعلى-، وما زالت الأبحاث والأدوات المُستَخدمة لمراقبة الفضاء تتطور بشكل مُستمر. ولعل أحد أبرز الأساليب التي نُعوّل عليها لمعرفة عمر الكون -بالتحديد- تتمثل في تحليل الضوء، وغيره من الإشعاعات الكهرومغناطيسية الأخرى "مثل الأشعة تحت الحمراء وفوق البنفسجية"، المُنبعثة من الأجرام السماوية في الفضاء السحيق.
وتُعرَف ظاهرة انبعاث الموجات الضوئية من الأجرام السماوية البعيدة بـ "الانزياح نحو الأحمر- Cosmological redshift". وبينما يستمر الفضاء نفسه بالتوسع، يستمر طول هذه الموجات Wavelength في الازدياد.
يرجع هذا الاكتشاف العظيم إلى عشرينيات القرن الماضي، وبالتحديد إلى عالم الفلك الغني عن التعريف، "إدوين هابل". حيث لاحظ أن الضوء المُنبَعث من المجرات البعيدة عنا يمتاز باللون الأحمر، وأنه كُلما ابتعدت المجرة أو الجُرم السماوي عن المُلاحِظ، كان لون الإشعاع الصادر عنهما يصبح أكثر احمرارًا، ناهيك عن أنه لاحظ أن هذه الأجرام البعيدة تمتلك سرعات أكبر.
من هنا ظهر قانون "هابل" الشهير Hubble’s Law، والذي ينص على أن سرعة ابتعاد المجرة عن المُراقِب تتناسب طرديًا مع بُعد المسافة بينها وبين نفس المُراقِب.
ويُستَخدم مقياس يُسمَّى "ثابت هابل Hubble constant" لقياس مدى توسع الكون من المناطق المختلفة، وبحسب وكالة "ناسا"، فإن قيمة هذا الثابت تكون أكبر كُلما ابتعد الجُرم المراد قياس مسافته عنا، والعكس صحيح، ومن هنا عَرِفنا أن الكون يتوسع، كما عرفنا أيضًا مدى صعوبة إثبات وتحديد عُمر الكون بدقة شديدة "كما تبين من الطريقة السابقة".
حتى يومنا الحالي، فإن المُتَفَق عليه أن عمر الكون حوالي 13.8 مليار سنة، وهذا ما لم يُحدده عالمٌ واحد بالطبع، وإنما مجموعة من العلماء الذين توصلوا إلى هذا الأمر في عام 2020، وذلك استنادًا إلى إعادة تقييم وتحليل البيانات التي حصلوا عليها من مركبة "بلانك" الفضائية التابعة لوكالة الفضاء الأوروبية، فضلاً عن قياسات وتحاليل أخرى لبيانات حصلوا عليها من تليسكوب "أتاكاما" الكوني ACT في تشيلي، وهكذا توصلنا إلى عُمر الكون بالضبط.
وفي حالة ما إذا كنت تتساءل عن نوعية وطبيعة المعلومات التي حللوها، فتختص بشيء يُعرَف بإشعاع الخلفية الكوني الميكروي (CMB) Cosmic microwave background، وهو الإشعاع الذي نجم بعد حوالي 400 ألف سنة من حدوث الانفجار العظيم.
الجدير بالذكر أن عُمر الكون، شبه المُتفق عليه حاليًا "13.8 مليار سنة"، يَقدُم سابقه بحوالي 100 مليون سنة كاملة، وهو -الرقم القديم- ما قد توصل إليه العلماء من نفس مركبة "بلانك" الفضائية، ولكن في عام 2013.
خلاصةٌ القول: لقد توصلنا إلى عمر الكون التقريبي عن طريق دراسة التجمعات أو العناقيد النجمية، ومع تقدم التكنولوجيا استطعنا إرسال مركباتنا للفضاء، واستنباط المعلومات والبيانات بدقة كبيرة لتحليلها إلى أن وصلنا إلى الرقم الدقيق الذي بين أيدينا الآن. قد نعرف في المستقبل أن هذا الرقم ليس صحيحًا وأن هناك رقمًا يفوقه دقةً كما حدث من قبل، ولكننا على الأقل نُقرّب الاحتمالات ونجتهد قدر المستطاع.