هل تعلم أن نقص هرمون السعادة ليس سببًا في الاكتئاب؟ إليك التفاصيل
هل تعرف نظرية "عدم توازن كيمياء المخ"؟ من خلالها يقول الأطباء إن السبب في إصابة الأشخاص بالاكتئاب هو نقص مستوى هرمون السيروتونين، أو ما يُطلق عليه اسم "هرمون السعادة"، ولذلك فإن الأطباء يصفون مُثبطات إعادة امتصاص السيروتونين الانتقائية Selective Serotonin Reuptake Inhibitors، والتي يُطلق عليها اختصارًا SSRI لعلاج مرض الاكتئاب.
لكن أثبتت العديد من الدراسات أن الكلام السابق غير صحيح بالمرة، وأنه لا توجد علاقة بين السيروتونين والإصابة بالاكتئاب، وأن أدوية مُثبطات إعادة امتصاص السيروتونين الانتقائية لا تُعالج الاكتئاب، إذن فما هي حقيقة هذا الأمر؟
سبب شهرة نظرية عدم توازن كيمياء المخ
السبب في شهرة هذه النظرية ببساطة هي شركات الأدوية، التي وجدت الفرصة سانحةً أمامها لتحقيق مليارات الدولارات كأرباح، عن طريق استخدام مادة كيميائية تستطيع تغيير مادة كيميائية أخرى ألا وهي السيروتونين، وهذه المادة ربما تُعالج المشكلة التي لا يوجد حل لها حتى الآن ألا وهي الاكتئاب.
وجدت هذه الفكرة قبولاً كبيرًا جدًا سواء بين مرضى الاكتئاب، أو حتى من الأطباء الذين وجدوا أخيرًا حلاً لمشكلة مرضاهم، ففي عام 1965، قدم الباحثان "سيمور كيتي" و"جوزيف شيلدكرت" نظرية عدم توازن كيمياء المخ على أنها السبب الرئيس في الإصابة بالاكتئاب، لكن هذه النظرية لم تُجب على العديد من الأسئلة منها كيف تعمل هذه النظرية؟ وما هي المستويات المناسبة للسيروتونين كي يُحافظ الشخص على صحته العقلية؟ وبسبب عجزها عن الإجابة على هذه الأسئلة رُفضت النظرية بشدة في الأوساط العلمية.
الأدلة على عدم صحة نظرية "عدم توازن كيمياء المخ"
على الرغم من انتشار قبول هذه النظرية بين عدد كبير من المرضى والأطباء منذ تسعينيات القرن الماضي، فإنّه توجد العديد من الأبحاث والدراسات التي أثبتت خطأ هذه النظرية، ففي دراسة نُشرت حديثًا أثبتت أن هذه النظرية خطأً تمامًا، كما توضح أن مرضى الاكتئاب المزمن لديهم نفس مستويات السيروتونين في الأشخاص غير المُصابين بالاكتئاب.
وراجعت الباحثة "جوانا مونكريف" من جامعة لندن 17 دراسة سابقة، وتضمنت هذه الدراسة أكثر من 160 ألف مشارك، وفي نهاية المراجعة استنتجت "مونكريف" أنه لا توجد علاقة بين الاكتئاب وكيمياء المخ، ولم تكن "مونكريف" أول باحثة تُثبت هذا الأمر، لأنه توجد العديد من الدراسات السابقة توضح الأمر نفسه.
في عام 2005 قال "جيفري لاكاسا" من جامعة فلوريدا: "لا يوجد مقال علمي واحد يدعم نظرية عدم توازن كيمياء المخ، أو أن نقص مستوى السيروتونين قد يُسبب أي اضطرابات عقلية، وعلى العكس تمامًا فإنه توجد العديد من الأدلة العلمية التي تدعم خطأ هذه النظرية".
المشكلة الأكبر التي تواجه الأدلة التي تُثبت خطأ نظرية عدم توازن كيمياء المخ، أن الرأي العام، والغالبية الكبرى من الأطباء وبعض المتخصصين في علم النفس والأمراض النفسية مؤمنين بهذه النظرية، وفي أحد استطلاعات الرأي وجد 80% من المشاركين أن نظرية عدم توازن كيمياء المخ نظرية حقيقية.
اقرأ أيضًا:أبرز طرق الوقاية من الإصابة بالقلق والاكتئاب
وبناءً على شهرة هذه النظرية فإن استخدام مُثبطات إعادة امتصاص السيروتونين الانتقائية انتشر جدًا بين الناس، وأوضحت إحدى المراجعات أن نسبة هذه الأدوية في السوق الدوائية سوف تزيد بنسبة 22.5% في الفترة من 2020 إلى 2027، وسوف تبلغ مبيعاتها ما يقرب من 18.29 مليار دولار سنويًا.
في كتاب Diagnostic and Statistical Manual Of Mental Disorder الذي يُعد أهم كتاب طبي في الاضطرابات العقلية، لم يَعُدّ أن نقص مستوى السيروتونين من أسباب الإصابة بالاكتئاب من الأساس، ولم يقتنع مرجع The American Psychiatric Press Textbook Of Clinical Psychiatry، بنظرية عدم توازن كيمياء المخ، وببساطة يوضح أنها نظرية لم تُثبت علميًّا بعد.
استطاع العلماء إثبات خطأ هذه النظرية حتى قبل انتشار مُثبطات إعادة امتصاص السيروتونين الانتقائية، ففي عام 1975 أحضر العلماء مجموعة من مرضى الاكتئاب، ورفعوا مستوى السيروتونين لديهم عن طريق إعطائهم دواءً يُسمى L-tryptophan وهو حمض أميني يتحول في الجسم إلى سيروتونين، وفي نهاية التجربة قال المشاركون إنهم لم يشعروا بأي تحسن على مستوى حالتهم العقلية أو النفسية.
على الرغم من احتجاجات الطب النفسي وأدلتهم العلمية الكثيرة التي تُثبت خطأ هذه النظرية، فإنّه يوجد مجموعة كبيرة من أطباء الطب النفسي مؤمنين وسعداء بهذه النظرية. ويقول أحد زملاء الباحثة "مونكروفتي" يُسمى "مارك هوروفيتز": "طوال حياتي علمني أساتذتي أن السبب في الاكتئاب هو نقص السيروتونين، وعلمت أيضًا هذا لتلامذتي، لكن بعد مشاركتي في هذه الدراسة، شعرت أن كل ما تعلمته في حياتي كان خطأً".
في كوبنهاغن راجع العلماء 131 دراسة، ولم يجدوا فيها أي إثبات علمي على هذه النظرية، وما وجدوه فقط هو الآثار الجانبية الخطيرة لأدوية SSRI التي تشمل الغثيان، والدوخة، والصداع، والأفكار الانتحارية، وفي بعض الأحيان قد تُسبب الانتحار بالفعل. وفي دراسات أخرى وجد العلماء أن العلاجات التي لا تعتمد على تغيير كيمياء المخ لها نفس تأثير الـ SSRI، وفي إحدى المراجعات وجد العلماء أن دواء يُسمى Tricyclic الذي ينتمي لعائلة أخرى من أدوية علاج الاكتئاب، يعمل بنفس طريقة الـ SSRI وله نفس التأثير.
الأدهى من ذلك أن العلماء وجدوا أن الوصفات الطبيعية لها تأثير أقوى من الـ SSRI، ولها آثار جانبية أقل، كما وجد العلماء أن الـ Placebo وهي مادة يُعطيها العلماء للمرضى في الدراسات العلمية ولكنها ليست دواء لقياس مفعول الدواء الآخر، وجد العلماء أن تأثير هذه المادة تفوق على تأثير الـ SSRI.
سبب شهرة مُثبطات إعادة امتصاص السيروتونين الانتقائية
السيروتونين هو ناقل عصبي يُساعد على نقل الإشارات العصبية خلال النظام العصبي، ولا يوجد في الدماغ فحسب، بل يوجد أيضًا في الجهاز الهضمي والصفائح الدموية، وأدوية SSRI مُصممة لكي تزيد مستوى السيروتونين في الدماغ فقط، وأول نوع من هذه الأدوية انتشر في الأسواق كان يُسمى بروزاك "Prozac" ومادته الفعّالة كانت تُسمى فلوكستين "Fluoxetine" وهذا كان في عام 1987.
على الرغم من أنه كان أول دواء رائد في السوق، فإنّه كان يتسبب في الكثير من الآثار الجانبية، لذلك ظهرت بعده الكثير من الأدوية مثل زولفت "Zoloft" ومادته الفعالة سيرترالين "Sertraline" وكان يُعد أكثر أمانًا وفعالية من "بروزاك"، واستطاع أخذ مكان "بروزاك" في الأسواق، وحقق مبيعات سنوية تُقدر بـ 3 مليارات دولار في الولايات المُتحدة الأمريكية فقط.
وطبقًا لمراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها CDC فإن ما يقرب من 13% من البالغين في أمريكا يتناولون أدوية SSRI، وتزيد هذه النسبة لتصل إلى 24% في الإناث اللاتي تجاوز عمرهم حاجز الـ 60 عامًا، كما وجد العلماء أن الأشخاص الذين يتناولون هذه الأدوية يستمرون عليها لفترات طويلة جدًا قد تصل إلى 10 سنوات.
وسبب شهرة هذه الأدوية هي الإعلانات من سنة 1990 إلى 2010، ولم تكتف شركات الأدوية بذلك بل دعت الأطباء غير المتخصصين إلى مؤتمرات علمية، وحولت لهم هذه النظرية غير الصحيحة إلى حقيقة علمية مُثبتة.
اقرأ أيضًا:فوائد وأضرار العزوبية وهل تسبب الاكتئاب
لماذا يشعر المرضى بتحسن بعد تناول الـ SSRI؟
تتداخل أدوية الـ SSRI بالفعل مع كيمياء المخ مثل الكحوليات بالضبط، وتُعطي نفس شعور المُخدر، ولذلك لا يحدث أي ارتفاع أو انخفاض في المشاعر، وهذا أمر جيد للغاية بالنسبة لمريض الاكتئاب، لكن على الجانب الآخر توجد الرغبة الجنسية المرتبطة بالمشاعر والإثارة، لذلك فإن أشهر عرض جانبي للـ SSRI هو انخفاض الرغبة الجنسية عند الجنسين.
لكن يجب التفرقة بين المُخدر والـ SSRI، فتأثير المخدر مؤقت وقصير المدى، وتأثيره يكون أقوى على الأشخاص التي لا تشعر بسعادة أو خائفة لأنه يلغي هذه المشاعر لفترة، لكن الـ SSRI له تأثير طويل المدى لأنه يُغير من كيمياء المخ، وله الكثير من الآثار الجانبية بسبب تناوله لفترات طويلة، كما أنه يُسبب الإدمان، لأنه يحدث تغييرًا في المخ، فعندما يحاول المخ مكافحة تأثير هذه الأدوية يفشل، لذلك عندما ينسى المريض أخذ الجرعة الخاصة به في وقتها، فإنه يشعر بأعراض الانسحاب مثل المُدمين بالضبط.
الشعور بالاكتئاب يختلف من شخص للآخر
تجدر الإشارة إلى أن واحد من كل سبعة أشخاص سوف يُصاب بالاكتئاب في فترة ما من حياته، وهذا رقم مرعب للغاية، لكن يختلف الشعور بالاكتئاب من شخص لآخر، ولكي يُشخص الشخص بالاكتئاب فلا بد أن يُعاني من 5 من أصل 10 أعراض محتملة مثل عدم القدرة على التعامل مع الناس، والأرق، ونقص الطاقة وغيرها، ومعنى هذا أنه قد يُعاني شخص 5 أعراض، وشخص آخر يُعاني 5 أعراض مختلفة تمامًا.
على الرغم من رفض العلماء لنظرية السيروتونين، فإنهم مؤمنون بأن الاكتئاب يؤثر بطريقة ما على المخ، لكن يعتقد بعض العلماء أن الاكتئاب أعقد من ذلك، ويقول مجتمع علم النفس البريطاني في تقرير: إن الاكتئاب هو تجربة أو مجموعة من التجارب، وهذا أفضل من كونه مرضًا، والتجربة التي سوف يُطلق عليها اسم الاكتئاب هي نوع من التوتر أو الضغط، ومدى الضغط الذي يتعرض له الشخص بجانب ظروف الحياة، كل هذا يؤثر على تجربة الاكتئاب التي يمر بها، لكن لو افترضنا أن الاكتئاب مرض، فتوجد طريقة واحدة للتعامل معه وهي طريقة الفوائد والأضرار.
لكن إذا لم يوجد سبب بيولوجي فلا داعي للعلاج بالأدوية، وتوجد طرق علاج غير دوائية مثل العلاج السلوكي المعرفي، أو العلاج عن طريق الكلام، وهذه الطرق أفضل من تناول الشخص لأدوية SSRI، وأسوأ ما فعلته أدوية الـ SSRI ونظرية عدم توازن كيمياء المخ، أن كلًا من المريض والطبيب عاشوا على وهم معرفتهم لسبب الاكتئاب لمدة 30 سنة، في حين أن سبب الاكتئاب الحقيقي لم يُعرف بعد حتى الآن.