هل يمكن أن يكون الاكتئاب وراثيًّا؟
عوامل كثيرةٌ تلك التي تتشابك معًا قبل الانخراط في حزنٍ عميق، وقد تقصَّى الباحثون عاملاً واحدًا من تلك العوامل المُسبِّبة للاكتئاب؛ ألا وهي الجينات؛ إذ تبيَّن أن بعض المُتغيِّرات الجينية ذات أثرٍ واضح في مضاعفة فرص إصابة المرء بالاكتئاب 3 - 5 مرات دون غيره من الناس، فهل ثمَّة جين مُعيَّن للاكتئاب؟ وهل صار الاكتئاب وراثيًا أم أنَّ هناك أسباب أخرى تُحرِّك ذلك الاكتئاب؟
علاقة الجينات بالاكتئاب
أشارت بعض الدراسات حسب مراجعة هارفارد للطب النفسي "Harvard Review of Psychiatry" إلى أنَّ الأفراد الذين لديهم أقارب من الدرجة الأولى "أب، أخ، ابن" مُشخَّصين باكتئابٍ، هم الأكثر عُرضةً للإصابة بالاكتئاب في حياتهم 3 مرات، مقارنةً مع عموم الناس.
فمثلًا إذا عانى أحد أقاربك من الدرجة الأولى نوبة اكتئاب أكثر من مرة، خاصةً في الفترة العمرية بين الطفولة والعشرينيات، فقد تكون مُعرَّضًا للاكتئاب أكثر من غيرك 4 أو 5 مرات حسب طب ستانفورد.
وقد أشارت بعض الأبحاث حسب مجلة الطب النفسي وعلم الأعصاب "Journal of Psychiatry & Neuroscience" إلى أنَّ النساء أكثر عُرضةً للتأثيرات الجينية في الاكتئاب مقارنةً مع الرجال.
ماذا تعرف عن التغيُّرات الجينية؟
الوراثة تفاعلٌ مُعقَّد لعدَّة عوامل، ليست الجينات الفردية فقط، وقد تطرأ تغيرات في بعض الجينات، فتُعرَف بـ "المتغيرات".
فمثلًا يتأثَّر لون العين بفعل الجينات؛ إذ تغيُّر جيناتٍ بعينها يُؤثِّر في إنتاج الميلانين "المسؤول عن لون قزحية العين"، وذلك بجانب جيناتٍ أخرى تُحدَّد ما يُفترَض للون عينك أن يكون.
يرث المرء منَّا مجموعة من الجينات، تحمل كلُّ منها متغيراتها الخاصَّة، الموروثة من الأبوين.
تتنبأ الأسر بلون العين المُتوقَّع للمولود بسهولة بالنظر إلى عيون الأبوين والأقارب، لكنَّ المُتغيِّرات قد تتصرَّف بطريقة غير مُتوقَّعة، فيُولَد طفلٌ بعينٍ زرقاء مثلًا لأبوين بعيونٍ بُنية.
لذا فمسألة الوراثة من التعقيد بمكانٍ، حتى في أمرٍ ظاهره يسير كلون العين، وفي حالات الاكتئاب، فإنَّ الأبحاث لم تتوصَّل بعد إلى الآثار الكاملة للمتغيرات الجينية.
هل يُوجَد جين مُعيَّن للاكتئاب؟
تنشأ بعض الاضطرابات بفعلٍ جينٍ مُعيَّن، مثل فقر الدم المِنجلي، لكنَّ الاكتئاب لا يحدث بفعل جينٍ واحد، بل هو نتيجة تفاعل بين الجينات، العوامل البيولوجية، والأسباب البيئية.
نعم، قد يسود الاكتئاب في بعض الأُسر، لكنَّك لا ترث الاكتئاب مباشرةً من الأب أو الأم. قد يُساهِم الأبوين في مجموعة مُعيَّنة من الجينات التي تجعل المرء أكثر عُرضةً للاكتئاب.
وفي دراسةٍ منشورة عام 2018 في مجلة علم الوراثة الطبيعية "Journal Nature Genetics"، تعرَّف الباحثون إلى تغيُّرات جينية، تبدو مُصاحبةً لظهور أعراض الاكتئاب، بل في بعض الأحيان لتغيُّرات جسدية في الدماغ، لكن لم تتوصَّل الدراسة نفسها إلى جينٍ بعينه وراء الاكتئاب.
اقرأ أيضًا:اكتئاب الرجل فترة الخطوبة.. خوف من الارتباط
دراسات التوائم والأسر حول الاكتئاب والجينات
قارن الباحثون في هذه الدراسات بين توأمَين مُتماثلين "يتشاركان نفس الجينات بنسبة 100%"، فإذا كانت الجينات جزءًا من أسباب الاكتئاب، فمن المُتوقَّع أن يكون هذان التوأمان أكثر عُرضةً للاكتئاب من توأمين غير متماثلين "يتشاركان 50% من الجينات فقط".
وعبر دراساتٍ مثل هذه، توصَّل الباحثون إلى أنَّ فرص وراثة الاكتئاب تصل إلى ما يقرب من 40 - 50%، وربَّما أكثر لدى المُصابين بالاكتئاب الشديد.
دراسات الجينوم حول التاريخ العائلي للاكتئاب
تضمَّنت دراسةٌ مسح مجموعات كاملة من الحمض النووي أو الجينوم لأعدادٍ كبيرةٍ من الناس؛ لرصد أنماط الجينات المُرتبطة بأمراضٍ مُعيَّنة.
وقد دُرست بعض الجينات المُنظِّمة للسيروتونين أو الدوبامين "هرمونات السعادة"، التي يُظنَّ أنَّ لها علاقة بالاكتئاب؛ إذ تستهدفها الأدوية المضادة للاكتئاب.
وسمح المسح المُوسَّع للجينوم بتحليل ملايين المُتغيِّرات عبره، وتضمَّن المسح المُجرَى على 1.2 مليون إنسان، التعرُّف إلى 178 مُتغيِّر جيني مُرتبط باضطراب الاكتئاب الشديد. ظنَّ الباحثون أنَّهم إنَّما يخدشون السطح فقط، بينما لا تزال هناك مئات أو ربما الآلاف من هذه المتغيرات الجينية لكشفها.
ساعد ذلك المسح أيضًا في توقُّع فرص إصابة كل إنسانٍ بالاكتئاب، وتحديد الأشخاص الأكثر عُرضةً له دون غيرهم.
البيئة الأُسرية والاكتئاب
ليست الجينات وحدها هي السبب الرئيس وراء الاكتئاب، لكنَّ للبيئة الأسرية دورٌ في الحد من الاكتئاب، أو مضاعفته، فحسب دراسة سويدية، فإنَّ للبيئة الأُسرية دورًا وقائيًّا للأشخاص الحاملين للجينات المُعزِّزة لفرص الإصابة باكتئابٍ شديد.
عرَّفت هذه الدراسة "البيئة الأُسرية السويَّة" بأنَّها هي التي لم يقع فيها طلاق أو وفاة أحد الأبوين قبل بلوغ الطفل 15 عامًا.
وتوصَّل الباحثون إلى أنَّ الإخوة الأشقاء الحاملين لجيناتٍ تزيد فرص إصابتهم باكتئاب، أقل عُرضةً للإصابة به بنسبة 23% حال تبنِّيهم، مقارنةً بغيرهم مِمَّن نشأوا في المنزل، وقد كانت بيئة التبنِّي سوية.
جدير بالذكر أنَّ التأثيرات الوقائية لذلك التبنِّي قد اختفت عندما أُصِيب أحد الأبوين بالتبنِّي باكتئابٍ شديد، أو حال تأثُّر منزل التبنِّي بطلاق أو وفاة أحد الأبوين.
أسباب أخرى وراء الاكتئاب
الجينات سببٌ مُحتمَل لكنَّها ليست السبب الوحيد للاكتئاب، بل قد يحدث الاكتئاب في غياب العوامل الجينية أو الوراثية، بل من الصعب تفضيل سببٍ على آخر عند الحديث عن الاكتئاب.
قد تُسهِم العوامل الآتية أيضًا في الإصابة بالاكتئاب:
1- كيمياء الدماغ
أحيانًا يُعانِي المُصابون باكتئابٍ نقصًا في مستويات بعض النواقل العصبية، مثل: السيروتونين أو الدوبامين، ذات التأثير الجلِيّ في الحالة المزاجية للمرء، ومِنْ ثَمَّ فإنَّ نقص مستويات بعض النواقل العصبية، أو اختلال وظيفتها يُؤدِّي إلى الاكتئاب.
2- تغيُّر في بنية الدماغ
قد تكون أدمغة المُكتئبين مُختلفة ماديًّا وبنيويًّا عن أدمغة الأشخاص الآخرين الذين لا يُعانُون اكتئابًا.
3- الهرمونات
تغيُّر مستويات بعض الهرمونات في الجسم، كما في حالة اضطراب الغدة الدرقية مثلاً، من الأمور المُؤثِّرة في ظهور الاكتئاب، خاصةً إذا كان المرء حاملاً لمجموعة الجينات التي تجعله عُرضةً للاكتئاب.
4- عوامل بيئية
تُسهِم بعض العوامل البيئية أيضًا في نشأة الاكتئاب، بل قد تُؤثِّر في شدة الاكتئاب ومدى الاستجابة العلاجية، وذلك مثل:
التغذية السيئة: ارتبط تناول المشروبات السكرية والأغذية فائقة التجهيز، بمُعدَّلات مرتفعة للإصابة بالاكتئاب.
اضطرابات صحية: ارتبط الاكتئاب كذلك بالمعاناة من بعض الاضطرابات الصحية، مثل: اضطرابات النوم، واضطرابات الغدة الدرقية.
الصدمة: تعرَُض المرء لصدمةٍ نفسية كالتجاهل من الأبوين، أو التعرُّض للسخرية أو التنمر من قبل الأصدقاء له أثرٌ مباشرٌ في الإصابة بالاكتئاب.
ماذا تفعل إذا كان الاكتئاب مُجتاحًا للعائلة؟
إذا كُنتَ قلقًا من تعرُّضك للاكتئاب؛ لسبق إصابة أحد أفراد العائلة به، فهناك بعض النصائح التي تساعدك على العناية بصحتك النفسية وتفادي الاكتئاب رغم أنف الجينات:
1- الحركة
أوردت دراسات بأنَّ ممارسة التمارين الرياضية هي الخط الدفاعي الأول لمجابهة الاكتئاب، كما أنَّها على خلاف الأدوية؛ لا تُسبِّب آثارًا جانبية؛ لذا تحرَّك ومارس الرياضة ما أمكنك ذلك.
2- نَم جيدًا
عدم الحصول على كفايتك من النوم، يُعرِّضك لمشكلاتٍ نفسية لا حصر لها؛ إذ ينبغي الحصول على قسطٍ كافٍ من النوم كل ليلة؛ لتفادي الاضطرابات النفسية، وعلى رأسها الاكتئاب.
3- اقضِ بعض الوقت خارج المنزل
فيتامين "د" ذو أهمية في الوقاية من الاكتئاب، ولا سبيل أفضل من التعرُّض لأشعة الشمس للحصول عليه، فإمَّا أن تسمح بدخول أشعة الشمس إلى بيتك عبر النوافذ، أو اخرج بنفسك إليها في غير أوقات اشتداد أشعتها.
اقرأ أيضًا:كيف تقيس التوتر لديك؟ وما مستوياته الطبيعية؟
4- تناوَل طعامًا مُغذِّيًا
درست مراجعة عام 2020 في المجلة الدولية للبيئة والصحة العامة أثر النظام الغذائي في الاكتئاب، فتبيَّن أنَّ تناول طعامٍ صحي يُسهِم جليًّا في الوقاية من الاكتئاب، وقد أوصى الباحثون بتناول الأطعمة الصحية، مثل:
- الفواكه.
- الخضراوات.
- المسكرات.
- السمك.
- زيت الزيتون.
ويُنصَح أيضًا بتجنُّب الطعام غير الصحي، أو ذي عناصر غذائية محدودة، مثل:
- اللحوم المُصنَّعة.
- الحلوى.
- المياه الغازية.
5- لا للتوتر
يُضاعِف التوتر الاكتئاب إن تزامنا معًا، بل ويزيد فرص التعرُّض لنوبات اكتئابٍ مستقبلاً؛ لذا يُنصَح بالحد من التوتر قدر المُستطاع للوقاية من الاكتئاب.