من الإنفلونزا الإسبانية إلى جائحة كورونا.. مقاربة اقتصادية
تسير ملفات الإفلاس في الولايات المتحدة الأمريكية بوتيرة سريعة، جراء استمرار تداعيات أزمة فيروس كورونا التاجي الجديد، أو ما يعرف بـ «COVID-19» كأسوأ جائحة في القرن الحالي من حيث التأثير سلبًا على الاقتصاد العالمي، بعدما زادت ضائقة الشركات الأمريكية، وحالات التعثر المالي والتخلف عن سداد الديون، وتقدمت 3427 شركة بدعوى إفلاس، من بداية عام 2020 وحتى 24 يونيو، وهو عدد يقترب من العدد المسجل خلال النصف الأول من عام 2008 أثناء الأزمة المالية العالمية، والبالغ حينها 3491 شركة.
تجمد أزمة فيروس كورونا جزءًا كبيرًا من الأنشطة التجارية في العالم، فقد وصل مؤشرعدم اليقين بشأن الوباء العالمي، التابع لصندوق النقد الدولي، ومؤشرعدم اليقين بشأن السياسة الاقتصادية العالمية، المحسوب بأسعار صرف تعادل القوة الشرائية، إلى أعلى مستوياته.
مؤشرعدم اليقين ومؤشرالسياسة الاقتصادية العالمية بشأن جائحة كورونا العالمية.
يقف الأخيرعند 348 نقطة، فوق جميع المستويات السابقة له، مثل، مستوى 202 نقطة في أكتوبر عام 2008 أثناء الأزمة المالية العالمية، والأزمة السيادية الأوروبية في عام 2011 عند نفس المستوى السابق (202 نقطة)، ومستوى 228 نقطة عقب استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي في يونيو عام 2016، ومستوى 235 أثناء الانتخابات الأمريكية في نوفمبر 2016، والحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين عند مستوى 342 نقطة في منتصف عام 2019.
إعادة الهيكلة المالية للشركات في زمن كورونا.. الحل البديهي أم الأخير؟
حيث تنحني الشركات تحت الضغط، مما يترك المستثمرين الأفراد في سوق الأسهم وسط ضبابية المشهد، يجاهدون لتقييم الخطوة التالية ووضع استثماراتهم وفقًا لذلك، بدون أي تلميح لنهاية واضحة تلوح في الأفق.
في الحقيقة، القاعدة الاقتصادية تقول: «التاريخ يعيد نفسه».. فهل يمكن لما حدث في سوق الأسهم قبل 100 عام أن يقدم أدلة للمشهد المستقبلي لما بعد فيروس كورونا؟
التاريخ الاقتصادي يعيد نفسه
قد يبدو فيروس كورونا التاجي وكأنه وقت غير مسبوق حقًا، وبالنسبة للجزء الأكبر، قد يكون هذا دقيق. ومع ذلك، للبشرية تاريخ طويل وممتد في مواجهة الأوبئة والفيروسات. كيف ننسى جائحة عام 1918 التي حاصرت الكرة الأرضية؟ على الرغم من اختلاف ما كانت عليه الأمور قبل قرن من الزمان، فإن هناك بعض أوجه التشابه بين جائحة «COVID-19» وجائحة «الإنفلونزا الإسبانية»، يمكن التعويل عليها في قراءة المشهد الاقتصادي.
يعتقد عدد من المتعاملين في سوق الأسهم، ودوائر الاقتصاد عمومًا، بعدم جدوى وأهمية التعرف والتدقيق والنظر بإمعان إلى الأحداث التاريخية الماضية، والتي كانت على تماس فعلي وحقيقي مع الوضع الاقتصادي حينها، ظنًا منهم أنها طالما وقعت في الماضي البعيد، فلا يمكن النظر إليها للتدليل واستخلاص الرؤية للمشهد الحالي.
لكن في الحقيقة، يعلّمنا التاريخ الاقتصادي أهمية الظرف التاريخي أو السياق في التحليل الاقتصادي، فيقول «Brad DeLong - براد ديلونج»، الأستاذ بجامعة كاليفورنيا في بيركلي: «كل جزء من النظرية الاقتصادية ما هو في النهاية إلا قطعة متبلورة من التاريخ». حيث يعتمد التاريخ الاقتصادي في الأساس على دراسة الأحداث والظواهر الاقتصادية في ضوء ما حدث في الماضي.
كان الاقتصادي «Charles Dow - تشارلز داو»، والذي شغل منصب أول رئيس تحرير لصحيفة «وول ستريت» الأمريكية، هو أول من أرسى قواعد التحليل الفني لأسواق المال، من خلال ما يعرف بـ «Dow Theory - نظرية داو»، فكان أول من بدأ بحساب مؤشرات السوق وفقًا للبيانات التاريخية السابقة للتداول على الأسعار، ولا يزال مؤشر «داو جونز الصناعي» الشهير يسمى باسمه حتى الآن.
وقد قامت «نظرية داو» على ثلاث قواعد تعتمد عليها طريقة التحليل الفني: الأولى «سلوك السوق يتجاهل كل شيء» والثانية «الأسعار تتحرك في اتجاهات»، والثالثة «التاريخ يعيد نفسه»، إذ أن توقع المستقبل مبني على معرفة الماضي.
فتحليل حركة الأسعار هو تحليل لحالة العرض والطلب تاريخيًا، وتحليل للحالة النفسية للسوق وقتها، فهناك أشكال بيانية محددة تظهر على الرسوم البيانية للأسعار، تعني حالة معينة للسوق، وتعكس اتجاه الأسعار المستقبلي، مما يعني أن قراءة واستنتاج الاتجاه المستقبي للسوق ممكنه في ضوء ما يتوفر من بيانات تاريخية سابقة.
وعليه، يتعين على الاقتصاديين استخلاص الدروس من التجار بالسابقة. من المغري مقارنة أزمتين: الأزمة الحالية الناتجة عن مرض فيروس كورونا، مع أزمة الإنفلونزا الإسبانية، ليتم تلخيص بعض أوجه التشابه والاختلاف الاقتصادي الرئيسية.
في ظل كورونا.. ثلاثة أنشطة ساهمت في زيادة ثروات المليارديرات
فيروس كورونا vs الإنفلونزا الإسبانية
حاليًا، يكافح الجميع وباء كوفيد-19 المستجد العالمي، من فئة «فيروس سارس- CoV-2»، الذي قلب الدنيا رأسًا على عقب، فاعتبارًا من 1 أبريل 2020، هناك 921924 حالة مؤكدة من مصابي كورونا حول العالم مع 46252 حالة وفاة، وفي الولايات المتحدة ، هناك 186101 حالة مع إجمالي 3603 حالات وفاة.
بالنسبة لهواة التاريخ الاقتصادي، تبدو جائحة كوفيد-19 مألوفة بشكل غريب، فمنذ ما يقرب من قرن بالضبط، انتشر فيروس تنفسي آخر في جميع أنحاء العالم، عرف باسم «الإنفلونزا الإسبانية». وبالتالي يمكن للباحث فهم الأزمة الاقتصادية الحالية الناتجة على جائحة فيروس كورونا بشكل أفضل، إذا توافرت لديه معرفة سابقة وبيانات اقتصادية تخص ما حدث في ظرف مشابه لما نحن فيه، يمكن أن تضيء الحاضر وتبصر المستقبل.
وعليه، وضع المعلقون أوجه تشابه بين أزمة جائحة فيروس كورونا التاجي في عصرنا الحالي وبين أزمة جائحة الإنفلونزا الإسبانية في القرن الماضي، قائلين إن الوباء يمكن أن يؤدي إلى نفس النوع من الاضطرابات الاقتصادية والسياسية التي ميزت تلك الحقبة التاريخية.
فعلى الرغم من أن العالم واجه العديد من الأوبئة الرئيسية على مدار المائة عام الماضية، إلا أن أحد أسوأ هذه الأوبئة كان جائحة الإنفلونزا الإسبانية عام 1918، كان سببه فيروس H1N1 الذي تم التعرف عليه لأول مرة في الولايات المتحدة بين الأفراد العسكريين في ربيع نفس العام.
وقد أطلق عليها اسم الإنفلونزا الإسبانية، لأنه كان يعتقد في ذلك الوقت أنها نشأت في إسبانيا، ولكن تشير الأبحاث المنشورة في عام 2005 إلى أنها نشأت بالفعل في نيويورك. السبب الثاني في تسميته بـالإنفلونزا الإسبانية، يرجع لأن إسبانيا كانت محايدة خلال الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، مما يعني أنها يمكن أن تتبع وترصد وتفصح عن شدة الوباء، لكن الدول التي تخوض الحرب تكبح التقارير حول كيفية تأثير المرض على سكانها.
أصابت الإنفلونزا الإسبانية، خلال الفترة الممتدة من عام 1918 إلى عام 1919، حوالي 500 مليون شخص في جميع أنحاء العالم، بما يمثل حوالي ثلث سكان الأرض في ذلك الوقت، كما توفي أكثر من 50 مليون شخص بسبب المرض، كان عدد القتلى من الانفلونزا الاسبانية في الولايات المتحدة وحدها حوالي 675،000 شخص. (يمكن أن يكون عدد القتلى أعلى من ذلك بكثير، فلا يوجد إحصاء دقيق للأعداد، نظرًا لنقص التقارير في ذلك الوقت، كما لم يكن لديهم اختبار تشخيصي طبي موثوق وقتها).
أوجه الشبه
هناك شيء مشترك بين فيروس H1N1 المتسبب في الإنفلونزا الإسبانية وفيروس كورونا التاجي، هو أن كليهما يعتبران «مستجدان»، أي أنهما جديدان جدًا في أي من الحقبتين الزمنيتين لم يكن لديهما أي حصانة أو مناعة ضدهما. أحد الاختلافات الواضحة بين الاثنين هو المجموعات الأكثر تأثرًا، فقد كانت الإنفلونزا الإسبانية تميل إلى قتل الأفراد في العشرينات والثلاثينات من العمر في ذروة سنوات إنتاجهم، وكان معدل الوفيات أعلى أيضًا لدى الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن خمس سنوات و 65 عامًا وأكثر، وذلك على عكس فيروس كورونا، الذي يميل لقتل كبار السن.
على الرغم من أن إجراءات الاختبارات التشخيصية باتت أوسع نطاقًا حاليًا، فإن معدل الوفيات العالمي لفيروس كورونا اعتبارًا من 1 أبريل بلغ حوالي 5٪، على الرغم من الولايات المتحدة حوالي 2.16٪. ويعتقد بعض الخبراء أن معدل 5٪ أقل بكثير من الحقيقي، بسبب الشكوك حول دقة تقارير الصين عن الحالات، ولظهور عدد من المصابين بدون أعراض.
بالإضافة إلى ذلك، استجابت العديد من المدن للتهديد الوبائي بنفس الطريقة التي تتصرف بها جميع الدول الآن، وذلك عبر تفعيل التباعد الاجتماعي، وشملت عمليات الإغلاق المدارس والكنائس، وحظر التجمعات الجماهيرية، وارتداء القناع الوقائي المفروض والقيود الأخرى.. من المؤكد أنها كارثة محققة تؤذي الاقتصاد، ولكن ما حدث وقتها على النقيض كان غير متوقع، فالاقتصاد لم ينهر.. فلماذا يكون لأزمة فيروس كورونا الحالية تأثير سلبي كبير على الاقتصاد، بينما لم تؤثر الإنفلونزا الإسبانية بنفس الحجم؟!
الإنفلونزا الإسبانية والاقتصاد الأمريكي
في محاولة للإجابة على هذا السؤال، علينا العودة لقراءة المشهد بشكل آخر، فكما هو الحال اليوم، كان الحد من التفاعل الاجتماعي هو الآلية الرئيسية المعتمدة لإبطاء العدوى منذ أكثر من قرن وقت تفشي الإنفلونزا الإسبانية، وبالتالي يكمن أحد التفسيرات المحتملة في إجراءات التباعد الاجتماعي، التي وجهتها الولايات المتحدة والدول الأخرى، من أجل تسطيح المنحنى، وإبطاء انتشار الفيروس.
فتعد عمليات الإغلاق في الوقت الحالي لمجابهة خطر فيروس كورونا التاجي أكثر قسوة، من التدابير التي اتخذها العالم عام 1918 أثناء فوضى الإنفلونزا الإسبانية، مما أدى إلى خفض الطلب على العديد من السلع والخدمات، ونتيجة لذلك، توقفت بعض القطاعات في الاقتصاد.
ولكن على الرغم من أن البيانات الماليةالتاريخية عن تلك الحقبة البعيدة الخاصة بأزمة الإنفلونزا الإسبانية غير مكتملة، فإن الحكايات الواردة عن شركات البيع بالتجزئة تأكد حجم المعاناة الهائلة التي تعرضت لها، تمامًا مثل الآن.
ومن المحتمل أن يكون الخوف من تفشي وباء الإنفلونزا الإسبانية، وليس القيود الحكومية، هو أكبر محرك لفقدان الإيرادات في ذلك الوقت، تمامًا كما هو الحال اليوم.
فضلًا عن الاختلاف المفصلي في هيكل الاقتصاد، فمنذ قرن مضى، كان أقل من نصف حجم العمالة يعملون ضمن نطاق قطاعات الصناعات الخدمية، الآن النسبة تبلغ حوالي 86٪، لذا كان التصنيع والزراعة أقل عرضة للوباء من قطاعات تجارة التجزئة والشركات والصناعات الأخرى التي تعتمد على التنقل وحرية حركة العملاء.
ويشير بعض الاقتصاديين، إلى أن تأثير اقتصاد الحرب ذو صلة قوية في تفادي الأثر المدمر جراء تفشي وباء الإنفلونزا الإسبانية، فقد كانت الحرب العالمية الأولى تمارس تأثيرًا هائلاً على الإنتاج، بعدما وفوضت الحكومة بقاء المصانع مفتوحة لتلبية احتياجات الحرب، التي كانت مطلوبة لتسيير المجهود الحربي.
ومن المحتمل أن يكون هذا التصرف ساهم بشكل مباشر في جعل تفشي الوباء أسوأ، ولكنه قلل من الضربة الموجهة إلى الناتج الاقتصادي، وبحلول وقت السلم، والذي بدأ فيه الاقتصاد يتحول مرة أخرى نحو تشكيلة الصناعات المختلفة، كانت جائحة الإنفلونزا الإسبانية قد اختفت.
لكن الأوقات الجيدة لم تدم طويلًا، فقد ضرب الركود الولايات المتحدة بعد أقل من عام، عندما بلغ معدل الوفيات للأنفلونزا الإسبانية صفرًا، حيث بلغت البطالة 10٪ وبلغ الانكماش 18٪، وهبطت سوق الأسهم الهابطة بنسبة 46٪ خلال تلك الفترة، وبطريقة ما، تمكنت البلاد من تجنب الكساد العميق في السنوات التي أعقبت الوباء مباشرة. ارتفعت البطالة لأعضاء النقابات العمالية قليلاً فقط.
معدل البطالة للعاملين النقابيين خلال جائحة الإنفلونزا الإسبانية (المصدر: بنك الاحتياطي الفيدرالي في سانت لويس).
مقاربة اقتصادية لكن بحذر
واليوم، في ظل جائحة كورونا يبدو سوق الأسهم كما كان قبل قرن مضى أثناء جائحة الأنفلونزا الإسبانية، حيث نشرت مجموعة PerhaBespoke Investment مؤخرًا هذا الرسم البياني المقارن، لتوضيح كيف كان أداء الأسواق خلال أزمة الإنفلونزا الإسبانية بالمقارنة مع أداءه خلال أزمة فيروس كورونا التاجي.
ثلاث موجات من الوفاة أثناء الوباء: الوفيات الأسبوعية المشتركة للإنفلونزا والالتهاب الرئوي في المملكة المتحدة، بين عامي 1918 و 1919.
كما يظهر الرسم البياني، كانت هناك ثلاث موجات مختلفة من عدوى الإنفلونزا الإسبانية: الأولى منها كانت خلال ربيع عام 1918، أما الموجة الثانية فكانت خلال خريف نفس العام، في حين كانت الموجة الثالثة من شتاء عام 1918 إلى ربيع العام التالي 1919، كانت الموجتان الأولى والثالثة خفيفتين نسبيًا، لكن الموجة الثانية كانت خطيرة ومدمرة وأشد فتكًا، حيث تسببت في قتل 90% من إجمالي الضحايا، ووصل معدل الوفيات إلى 24 لكل 1000 شخص، أي حوالي 2%.
وخلال تلك الموجة الثانية المدمرة من الوباء، والتي جاءت أيضًا في خضم الركود الذي أعقب الحرب العالمية الأولى، بلغ مؤشر «داو جونز الصناعي» ذروته، ولكن حتى مع شدة هذا التفشي، فإن المؤشر لم ينخفض أكثر من 11٪، ولم يقترب من منطقة السوق الهابط. في حين نجد اليوم، أن مؤشر «S&P 500» وسط جائحة فيروس كورونا التاجي، لا يزال منخفضًا بنسبة 15٪ تقريبًا عن أعلى مستوياته، حتى بعد الارتداد الذي تمتع به فيما بعد.
أيضًا، كما ترون من الرسم البياني السابق عرضه، بدأ التفاؤل يسود في سوق الأسهم بعد فترة الموجة الثانية القاتلة، وحتى أثناء الموجة الثالثة، ومن هذا الانخفاض، شرع مؤشر «داو جونز» في الارتفاع لمدة ثلاثة أشهر بأكثر من 25٪ حيث شفي العالم من الوباء.
في النهاية، يجب أن نشير إلى أن أي مقارنة لفترتين تفصل بينهما أكثر من 100 عام، لا يعد أمرًا دقيقًا، نظرًا لاختلاف ظروف الحقبة الزمنية خلال الفترتين، لكنه لا يزال أمرًا مثيرًا للاهتمام، كما أن التاريخ –حتى على مستوى التاريخ الاقتصادي- يؤكد دائمًا إن الأوبئة (منذ الإنفلونزا الإسبانية عام 1918 إلى جائحة H1N1 عام2009)، حتمًا سيأتي الوقتوتنتهي، صحيح في بعض الأحيان يبدو أن أعداد الوفيات التي لا تطاق من كثرتها، وأن البيانات الاقتصادية وصلت للهاوية، لكنها تنتهي في النهاية، وهذا ما سيحدث حتمًا مع فيروس كوفيد-19.