قيس سعيّد ... لا يحب "فخامة الرئيس".. قانوني.. يكبر تعبه وهو لا يكبر
- نادراً ما يبتسم، جدّي في مواقفه وتصرفاته، دقيق في مواعيده ومحترم لها
- الرئيس الباحث الشغوف بالتاريخ المفتون بالمعرفة
- متذوق لأغاني الطرب العربي القديم.. أحب عبد الحليم
- مغرم بتفكيك النصوص القانونية واشتقاقاتها اللغوية..عاشق للغة العربية وآدابها
- عرضت عليه رئاسة الحكومة في العهد الجديد ورفض
- درس الحقوق وكان من ضمن 47 طالباً نجحوا شكلوا 5% من المتقدمين
- التعليم لا يرتبط بمستقبل الطالب فقط.. بل بمستقبل الأسرة أيضاً
- قيس سعيّد الاسم المقرّب إلى قلبه أكثر من "فخامة الرئيس"
- رفض الالتحاق بقصر قرطاج مفضلاً شقة ما زال يدفع أقساطها
- رفض منح زوجته لقب "السيدة الأولى" لأن كل التونسيات سيدات في المرتبة نفسها
- إما أن تتحدث عنا الأجيال بفخر وإما أن نكون صفراً مخجلاً في كتب التاريخ
من أين جاء قيس سعيّد ؟
لو طرح هذا السؤال افتراضاً على رئيس الجمهورية التونسية، سينشد مقطعاً من قصيدة إيليا أبي ماضي التي غنّاها محمد عبد الوهاب:
"جئتُ، لا أعلم من أينَ، ولكنّي أتيتُ
ولقد أبصرتُ قدّامي طريقاً فمشيتُ
وسأبقى ماشياً إن شئتُ هذا أم أبَيْتُ
كيف جئتُ؟ كيف أبصرتُ طريقي؟
لستُ أدري!"
هو مجرد سؤال افتراضي عن ماضي الرجل، وكيف أبصر طريقه إلى السلطة، استلهمناه من القصيدة، لكن لا بأس، فالقصيدة تشكل فجوة ضوء تقودنا إلى بعض عوالم سعيّد الذاتية، فهو رجل متذوق لأغاني الطرب العربي القديم، وربما يحفظ عن ظهر قلب هذه القصيدة التي غناها عبد الوهاب في أربعينات القرن الماضي، ثم سيقدمها لعبد الحليم حافظ، المطرب الذي أحبه سعيّد ويعرف حق المعرفة ما يتوارى في حنجرته، يقول فخامة الرئيس "أحب عبد الحليم، وأحب أكثر الأغاني التي غناها في الأعوام الخمسين من القرن الماضي، وخاصة تلك التي أداها في مجموعة من أفلامه بحضور عدد من الممثلات. ويشير إلى أن تلك الأغاني تتميز بصدورها من طبقة صوتية وسطى. وحسب وجهة نظره، فإن بعض الملحنين عرفوا كيف يستثمرون هذه الطبقة لدى العندليب، وخاصة كمال الطويل".
جاء هذا التصريح، في سياق حلقة من البرنامج الإذاعي " للحكاية وجه آخر" على أمواج الإذاعة الوطنية التونسية.
رأي سعيّد بقدر ما ينمّ عن إلمام الرجل المعرفي في المجال الموسيقى، يكشف عن جوانب حميمة محدودة جداً من حياته الخاصة، ومن ثم فتصريحه هذا يشكل ما يقربنا من بعض ملامح عمق شخصية كثيراً ما وُصفت بأنها غامضة، ومحافظة ومتحفظة، "إنه رجل كتوم، ونادراً ما يبتسم، جدّيّ في مواقفه وتصرفاته، دقيق في مواعيده ومحترم لها، لا تعرف بالضبط ما سيصدر عنه من كلام خلال نقاش أو لقاء ما، كما لا تعرف بالضبط ماذا سيصدر عنه من مواقف إلا حين يتكلم. لا ينسجم بسرعة، وتظهر عليه علامات الرجل الملتزم والمتحفظ"، هكذا يصفه الكاتب التونسي أحمد الكحلاوي، في تصريح لمجلة "الرجل" الذي اشتغل إلى جانبه لمدة عشر سنوات، ضمن حراك المجتمع المدني التونسي، ونحن، كذلك، نضيف أن صور أبنائه الثلاثة لم تصل بعد إلى الإعلام، فيما يتحرق المهتمون لمعرفتهم.
ها نحن نقترب أكثر من قيس سعيّد المحب للصمت، منذ أول ظهور إعلامي له في الرابع عشر من ديسمبر/ كانون الأول 2011، وما تلاه من تصريحات عبر الإعلام، لا يعرف هو نفسه كيف حصل صحافيوها على رقم هاتفه الخاص.
الإعلام لم يسلط عليه الضوء من فراغ، وهو الذي رافق النقاش في الشأن العام التونسي، ويسجل له دوراً مهماً في كثير من الإشكالات المتعلقة بكتابة الدستور التونسي، منحازاً إلى المواقف الداعية إلى مجلس تأسيسي على أسس المشروعية الثورية وليس القواعد القديمة، مواقف ستجعله قريباً من الناس ومن نبض الشارع وتأويل شعاراته، التي كانت تجد لها صدى عند الناس، بلغة مبسطة وفصيحة، يتكلمها مرتبة بسلاسة، مع ضبط لمخارج الحروف، تعطي لصوته رنة تشدّ الانتباه، بنبرة تحمل بصمتها الخاصة، وتعود بالسامع إلى أصوات الزمن الإذاعي الجميل.
وبفضل مجمل هذه الخاصيات والمعطيات، سيسطع نجمه وسيثير اهتمام الناس، وبخاصة الشباب، ولا أدلّ على ذلك، وكما تحكي بعض المقربات من أصدقائه، أنه وخلال زيارة وفد رسمي لسيدي بوزيد في الثامن من يناير/ كانون الثاني 2012، من أجل إحياء الذكرى الأولى لشهداء ثورة الياسمين. وكان يوجد في قائمة الوفد، ثلاثة رؤساء سابقين، وهم: حمادي الجبالي، رئيس الوزراء، ومنصف المرزوقي، رئيس الدولة، ومصطفى بن جعفر، رئيس المجلس التأسيسي. ومن طرائف الأمور، أن فئة عريضة من الجمهور ضمنهم نسبة كبيرة من الشباب، تركوا التجمع الرسمي وتوجهوا نحو قيس سعيّد، ليمطروه بأسئلة حيوية تهمّ المشهد السياسي آنذاك، فيما كان هو ينصت إليهم باهتمام، ويقدم لهم وجهة نظره ورؤيته"، هذا الحدث ليس بغريب بالنسبة لخبير قانوني، قضى فيما قضى فترة مهمة من حياته، دامت ربع قرن وهو ينقب عن أصل كلمة دستور، يقتفي أثرها "كما يقتفي أثر الطير وهو في السماء"، كما جاء في حوار سابق له.
هكذا أبصرت قدما سعيد طريقهما نحو السلطة وهما لا تدريان، ولأنه كان يسير غير متعجل، فإنه ظل يستثمر طاقته إلى أقصى حد في فهم ما حوله، باحثاً مستقصياً، مشغوفاً بالتاريخ، مفتوناً بالمعرفة، مغرماً بتفكيك النصوص القانونية واشتقاقاتها اللغوية وتحليلها، وهو العاشق للغة العربية والآداب، الجاعل من زاده المعرفي أداة لفهم واقع مجتمعه، تراكم جعل نجمه يعلو في الساحة وساعده، كذلك، على رسم آفاق جديدة لتونس الخضراء؛ لأجل ذلك كان يتوجه إلى الجمهور عوض المؤسسات، شعوراً منه بالمسؤولية، وليس طمعاً في منصب، كما جاء على لسانه في بعض الأحاديث، سواء قبل الثورة أو بعدها، بل عرضت عليه رئاسة الحكومة في العهد الجديد، ورفض، لأنه حين كان يسأل أصحاب العرض، هل أطبّق المشروع كذا أو البرنامج كذا، فيأتيه الجواب: "وقته لم يحن بعد"! الكلام هنا ليس من عندنا بل يعود إليه.
فهل ما عاشه الرجل من أجواء طغت عليها الصراعات الحزبية، وغاب عنها الوضوح الفكري، ولربّما الاتساق الأخلاقي، فضلاً عن انطفاء جذوة السياسة في الساحة التونسية خلال السنوات الأخيرة، عوامل سمحت لقيس سعيّد أن يظل متحزّباً فكرياً ولا يتحزّب سياسيا؟
بالرجوع إلى سيرته المعرفية، نعرف أن الرجل خبر المعيش العفوي، ودرس المتوارث في الثقافة الشعبية والشفهية، مستثمراً عمله المؤسساتي في الجامعة، على مدار أكثر من ثلاثة عقود في القراءة والكتابة والحوار، وتبادل الأفكار، موحداً بين النظري والعملي والكوني والحديث والموروث، فضلاً عن التدريس، وهي التجربة التي خاض غمارها 34 سنة، ربّى فيها أجيالاً عدّة، منهم الآن البرلماني والوزير والقاضي والمحامي..، وكأنّ لسان حاله ظل يقول على لسان الكاتب خليل السكاكيني إن "المدرسة مصنع للرجال، وعلى العموم هي خبرة حياتية مسنودة بعدة معرفية، استقاها من التاريخ ومن ابن خلدون، تحديداً، ومن "قانون السياسة ودستور الرئاسة"؛ فهل ستفيده في تدبير شؤون الأمة التونسية من موقعه الآن، وهو الماسك بزمام أعلى هرم السلطة، أم أن محدودية صلاحيات الرئيس وصراعات الأحزاب، ستقف سداً منيعاً دون تحقيق أهدافه؟
في اقتفاء الأثر
أكيد أن الرئيس لم يعش دسائس السياسة ومؤامراتها في دهاليز الحكم، لكنه يعرف جيداً ألاعيبها بحكم قربه من صناع القرار، قبل أن يحصل على هذا اللقب، كما أنه مطلع على ألوانها وطباع ناسها، بثقافته الموسوعية، وهو الذي صاحب ابن خلدون منذ حداثة سنه، وخاصة كتاب "المقدمة" الذي يعدّ أول كتاب اقتناه، وعمره لم يتجاوز بعد الخامسة عشرة.
في محطة من محطات مسار تجربته العلمية، يعود سعيّد ضمن مجال من مجالات بحوثه، إلى أزمنة غابرة وأزمنة قريبة، يجمع النصوص والكتب في رحلة لا تخلو من متاهة بمعناها الإيجابي، يقتفي أثر لفظ كلمة "دستور"، وما تحيل عليه من معانٍ في مختلف السياقات التاريخية والحضارية التي وردت فيها، ورصد معانيها التي استقرت في اللغة العربية، متسلحاً بالمنهج السيميائي، إلى جانب خبرته الفقهية في القانون الدستوري، دون أن يقطع صلته بالفلسفة والتاريخ والآدب، دامت الرحلة تقارب ربع القرن، فوجد أن أصل الكلمة يعود إلى اللغة الفهلوية القديمة، أي الفارسية القديمة، وبأنها وردت في كتاب مقدس يسمى "بست أبار"، كما برز اللفظ في اللغة الفارسية في ظل الديانة الزراديشتية، ويعني الرجوع إلى الدين أو المفتي الذي يتولى الإفتاء في بعض الأمور المرتبطة بهذه الديانة.
ويرى سعيّد، أن ما يذهب إليه بعضهم من كون هذا اللفظ دخل إلى اللغة العربية عن طريق العثمانيين، قول غير صحيح، لأن كلمة "دستور"، انتقلت إلى العربية، استناداً إلى بعض الكتب التي وضعها عدد من الأدباء المنحدرين من أصل فارسي، كعبد الله ابن المقفع، في كتابه "كليلة ودمنة"، على الأقل في بعض نسخه، ويذكر منها نسخة عثر عليها هو نفسه، يعود تاريخها إلى نهاية القرن التاسع عشر، موضحاً السياق الذي وردت فيه، وهو أن الملك "دبشليم" طلب إلى الفيلسوف والحكيم "بيدبا"، أن يضع له كتاباً في السياسة، ليبقى له عبرة على غابر الدهر؛ وأشير إلى هذا الكتاب بلفظ الدستور.
وتبعاً له فإن الكلمة ظهرت، كذلك، في بعض الكتب العربية الأخرى، فهناك كتاب مجهول المؤلف، يحمل عنوان "قانون السياسة ودَستور الرئاسة" (بفتح الدال). ويحيل، كذلك، على إحدى مقامات الحريري، وهي السادسة والعشرون، التي ورد فيها لفظ "الدستور" بمعنى الدفتر. وفي تونس تبعاً له ظهرت بمعانٍ مختلفة، لقباً للتبجيل والتفخيم، وبمعنى "المجلة". وفي القرن العشرين بمعنى "العبرة". ويشير إلى أنها اتخذت معاني مختلفة في المشرق العربي، كالإبل، والشراع. وبشكل عام، فإنه اقتفى أثرها في اللغة التركية وفي اللغة الفارسية، وفي اللغة الأردية، وكما حاول البحث في أصلها، سعى لمعرفة لماذا وقع الاتفاق على استعمالها، مشيراً إلى أنها تتكون من جزأين "دست" وتعني القاعدة، و "ور" وتعني صاحب القاعدة.
عاشق العربية تغويه العامية
قيس سعيّد، العاشق للغة العربية، من قال إن اللغة العامية لا تغويه، وهو الذي درس الفكر السياسي في اللغة العامية التونسية، سواء بتركيزه على مفهوم السلطة في الشعر العامي، أو عبر الأمثال الشعبية التونسية، بالاستناد إلى كتاب الدكتور الطاهر الخميري، عن منتخبات من الأمثال العاميّة التّونسية، صدر عن الدّار التّونسية للنشر سنة 1967، جمع فيه 2470 مثلاً؛ وفي هذا السياق يتبنى الرجل موقف الطاهر الخميري [1899 - 1973] من العامية، كونها جزءاً من الهوية التونسية. في هذا الباب، يستحضر سعيّد ما ذهب إليه الطاهر، إلى أنه لا يمكن أن نستبدل ببعض الألفاظ العامية التونسية، اللغةَ الفصحى، كـ "باسم الله عليك" و"اللطف عليك". ويضيف مستحضراً من باب الطرافة، نقاشاً ربما يذكره البعض لطه حسين، في حصّة تلفزية عن استعمال العامية في البلاد العربية، ورد فيه كيف توجه إلى المغرب بدعوة من المغفور له محمد الخامس، ومن بين الكلمات التي سمعها في ذلك الوقت كلمة "ديالكم"، ولم يفهمها، واستشار عن هذا المعنى المستشار الثقافي المصري، فأوضحه له. وحين ركب الباخرة قال للوفد الذي جاء لتوديعه، شكراً على الضيافة "ديالكم"؛ قال: ضحكوا وضحكنا.
الرئيس المحافظ وظهور زوجته الأول
ظهر الرئيس على شاشات التلفزيون بصحبة زوجته لأول مرة، القاضية إشراف شبيل، طالبته السابقة، التي ارتبط بها عن قصة حب كبيرة، تحدث عنها في لقاء صحفي في عام 2017، سيدة جميلة، أنيقة، تصدرت صورتها بإطلالتها الهادئة مواقع التواصل الاجتماعي، ودفعت ببعضهم إلى مقارنتها بزوجة الرئيس الراحل القايد الباجي السبسي، ظهور ربما ألهب حماس النساء للتصويت لزوجها.
خطر الإخوان
ويذهب بعض من يتحدثون عن خطر "الأخونة" إلى أن حركة النهضة بادرت بدعم ترشحه فور وصوله إلى الدور الثاني، غير أن مخاوفهم ليست في محلها، تبعاً لبعض المحللين، لكون نسبة المصوتين له من هذا الحزب لم تتجاوز 20 في المئة، أي 600 ألف ناخب، ويذهب بعض هؤلاء إلى ما هو أبعد من ذلك، ويتحدّثون عن خطر "الأخونة"، لأن حركة النهضة بادرت بدعم ترشّحه فور وصوله إلى الدور الثاني، لكن يبدو بحسب من استمزجنا آراءهم من خبراء، فان "معظم هذه المخاوف في غير محلها، فنسبة المصوتين له من "النهضة"، لم تَزِد على 20 في المئة من مجموع الأصوات، وحزب النهضة نفسه كان من أبرز الخاسرين في هذه الانتخابات"، ويجمع كل المراقبين المحليين والدوليين، على أن الرجل قاد حملة انتخابية بلا دعم من الأحزاب، وبلا مساندة وبلا آلة إعلامية تستند إلى نفود سياسي ومالي.
سر التفاف الشباب
فما سر التفاف الشباب حوله ودعمه إلى أقصى حدّ، إلى جانب ثلة من أصدقائه الأساتذة وبعض المثقفين؟ ربما يكون الجواب أن هؤلاء الشباب هم من أوقد الثورة، فلم يكن لهم ما أرادوا، بعدما وصل النفس الثوري إلى حالة من الإجهاد لم تعد الأحزاب قادرة على حمله، بلغت معه المنظومة الحاكمة حالة من الأزمة السياسية، فوجدوا في الرجل ممثلاً حزب الشعب التونسي، سواء بطريقة تفكيره خارج النمط السائد، ودفاعه عن العدالة الجهوية، وإيمانه بالقوانين والتزاماتها، وغيرها من الشعارات والأفكار التي كان يصرفها عبر سياسة القرب، التي تستمد جدورها من ممارسته المهنية والعملية، وتقديره لحجم المسؤولية، منذ أن كان أستاذاً جامعياً؛ ولنعد إلى ماضي الرجل لنجلو عنه السحاب، فمع السحاب يبدو عديم الفائدة.
البحث عن الجذور
على الساحل التونسي تقع مدينة بني خيار، الخاضعة إدارياً لولاية نابل، في جنوبي الوطن القبلي، مدينة تاريخية عرفت بنسج الصوف وإنتاج السجاد والمطرزات والخزف والأواني التقليدية، وتقطير الزهر. وبني خيار هي الموطن الأصلي لأجداد قيس سعيّد، المولود في 22 أبريل/ نيسان 1959، بأريانة الجديدة، بمدينة أريانة، إحدى كبرى المدن التونسية، والواقعة شمال غربي العاصمة تونس. حاول قيس سعيّد، بعد الثورة العودة إلى بني خيار، للبحث عن جدوره، لكنه لم يجد من يدله على شجرة انسابه، لأن علاقة أجداده بالمنطقة تبعاً له، انقطعت منذ القرن التاسع عشر، لكون كثير منهم انتقلوا إلى العاصمة التونسية، للسكن وللعمل في البناء، وحرف وصناعات كانوا يتقنونها، ربما تأتت لهم نتيجة آثار الهجرة الأندلسية إلى المنطقة.
ستنقل عائلة قيس من أريانة، وهو رضيع، إلى ضاحية رادس، هاهنا كان مربع الصبا واجتيازه لمرحلة التعليم الابتدائي، بعدها حلت العائلة في تونس، وسيقضي المرحلة الثانوية بين باب الخضراء معهد بن شرف والصادقية، ليجتاز البكالوريا بنجاح، تخصص أدب عربي، سنة 1978، غير أنه سيختار الولوج إلى كلية الحقوق؛ فما الذي دفعه لهذا الاختيار؟
يجيب الرئيس: كانت أمامي عشرة اختيارات، من بينها، متابعة الأدب العربي بالكلية، أو الأدب العربي في دار المعلمين العليا، فيما كان الاختيار الثالث الفلسفة... وضمن مجمل الاختيارات التي كانت متاحة أمامه، الاختيار الرابع المتعلق بالالتحاق بكلية الحقوق، بتحفيز من والده، الذي طلب منه أن يتخذ له هذا المسار، لأنه كان في نظره الأفضل، ولأن الوالد عانى كثيراً من المشاق، حين كان موظفاً بالإدارة في عهد الاستعمار الفرنسي؛ ففضلاً عن سعيه لتوفير قوت عياله، والسهر على مواصلتهم الدراسة، فإنه كان يشتغل في أيام العطل، مسنوداً بزوجته التي كانت تحمل إليه الطعام خلال أوقات العمل، ولم يكن هدفه من ذلك، حسب رواية قيس، إلا أن يؤكد لفرنسا أن التونسيين قادرون على إدارة الدولة التونسية، ولم يكن حينها يستفيد من الترقيات، التي كانت قائمة على الولاءات، والقرابة أو الانتماء الحزبي. فيما عانى الوالد إلى جانب الكثير من التهميش، لكونهم كانوا يرفضون الانخراط في المنظومة التي كانت قائمة.
في كلية الحقوق، اكتشف سعيّد القانون الدستوري، ومضي جاداً مجتهداً، غير نادم على هذا الاختيار، حينها كانت كلية الحقوق هي الوحيدة، وكان عدد الطلبة يفوق 1200 طالب، بينما لم تتجاوز نسبة النجاح في إحدى الدورات 5 في المئة، حسب رواية الرئيس، وكان من ضمن 47 طالباً نجحوا في تلك السنة.
بعد استكمال مساره الجامعي، سيعمل مدرساً في كلية الحقوق والعلوم الاقتصادية والسياسية بسوسة عام 1986، ومدرساً في كلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس عام 1999، ومدير قسم القانون العام في كلية الحقوق والعلوم الاقتصادية والسياسية بسوسة (1994- 1999).
في وداع أبي
يودع قيس سعيّد شهر أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، وفي خضمّ احتفال تنصيبه لن تغيب عنه ذكرى عزيزة عليه، ففي مثل ذلك الشهر، وتحديداً في السادس والعشرين منه من سنة 1999 ، سيودع والده إلى دار البقاء؛ أكيد أنه يستحضره في مناسبات عدة، كما هي الحال، حين أقيم له حفل تكريمي على إثر إحالته على التقاعد سنة 2018 ، في التاريخ المذكور، جاء فيه: "كان الوالد على سكرات الموت، وكنت قضيت الليل كله بدون نوم، ولما حل موعد الالتحاق بالكلية، خرجت من البيت تاركاً إياه على فراش الموت، لكوني كنت مرتبطاً بتقديم محاضرة مهمة جداً للطلاب. وأثناء عودتي للبيت كنت أدعو الله أن يبقيه.
وبعد ساعة إلا ربعاً من وصولي، سيغادر إلى دار البقاء.. وأقول إني عشت ألماً وعذاباً وحسرة فراق، ولا أقول ندمت، لأنني كنت أعلم علم اليقين، وعلى مدار عشرات السنين من التدريس، أن نصف ساعة من الدرس، يمكن أن يكون محدداً لمستقبل طالب أو طالبة، بل لمستقبل عائلة بأكملها. يقول ذلك وهو يتذكر صورة والد أحد الطلاب يجثو على ركبتيه، ويعفّر وجهه بالتراب، جراء رسوب ابنه في الامتحان.. "حاولت أن أشدّ من أزره، ومع ذلك، لم أنس تلك الصورة التي جعلتني أقتنع أكثر أن التعليم لا يرتبط بمستقبل الطالب فقط ، بل بمستقبل الأسرة أيضاً".
صورة لا تفارقني
يحتفظ قيس سعيّد بصورة أخرى، لم تفارقه قط، هي أن طالباً جاءه بعد المداولات خلال تدريسه بسوسة، فطلب منه أن يعيد له الامتحان جزئياً، لأنه مريض بالقلب، فرد عليه سعيّد، حاول أولاً أن تتعافى، وسننظر في الأمر. ثم أخبره الطالب أن والده باع قطعة أرض ليجري له العملية. وبعد مدة قصيرة، أتى إليه والد الطالب، ليخبره أن ابنه تُوفّي. وكان وقع الخبر عليه شديداً، جعله يحتفظ بشهادة وفاة طالبه لمدة طويلة. من هذا الباب يرة أن الطالب أمانة يحملها الأستاذ. ويتمنّى أن يكون قد وفق كل طالب أو طالبة في أخذ حقه أو حقها كاملاً، وألا يكون قد ظلم أحداً، ولو بحبة خردل، وأن يغفر له الله، إن كان أخطأ في حق أي كان. ويؤكد في شهادته أنه كان حريصاً على المساواة بين الجميع، متمنياً ان يبقى كذلك، إن بقي حياً.
اليتم في الستين
قصته مع الوالد، حين تركه على فراش الموت، ستتكرر مرة أخرى؛ ففي الخامس من شهر أبريل/ نيسان من سنة 2015، سيترك والدته في غرفة الإنعاش، وراح ليقدم دروسه في الكلية، لأنه كان بصدد تقديم الحصة الأخيرة، ذهب متهالكاً، وحاول أن يسترجع قوته في القاعة قبل الدرس. وبعد عودته بساعات فارقت الحياة. قبل موتها بساعتين كانت قد تحدثت إليه قائلة "نحن مؤمنون، نحن مسلمون"، لأنها كانت تعرف أنها راحلة لا محالة، ومؤمنة بقدر الله.
مازال قيس سعيّد، يحسّ باليتم جراء وفاة والدته إلى يوم الناس هذا، فـزكية بلاغة، وهو اسم الوالدة، ستظل حاضرة في خاطره وكيانه، فهي بالنسبة إليه "الرجاء في اليأس، والعزاء في الحزن.. وهي القوة في الظهر؛ هي كل شيء بالنسبة له. فعلى ركبتي الأم ينشأ أبناء الوطن"، كما يقول. ويضيف، فقدها كان زلزالاً مدمراً لا يقاس بسلم "ريختر".
عمق ارتباط الرجل بوالديه وكذا في لحظات أخرى حرجة، سيظل دوماً مصراً على القيام بواجبه المهني، كما هي الحال، خلال أزمته الصحية الأولى التي ألمّت به، و نقل على إثرها إلى مركز العناية المركزة في إحدى المصحات، لم يتعافَ كلياَ، وكانت قواه منهارة، لا تساعده على مغادرة البيت، لكن ما أن طلبت منه طالبة الالتحاق بالكلية، لأنها كانت في أمسّ الحاجة إليه للترسيم في ذلك الوقت، فإنه لم يتردد. ثم جاءت الوعكة الصحية الثانية، وكانت أكثر حدة، ارتبطت لديه بأزمة في القلب، قادته إلى المستشفى العسكري لتلقي العلاج؛ وما بين الأزمتين تهالكت حالته ووهن جسده، ورغم التعب سيظل مصرّاً على عدم التغيّب، لشعوره بالمسؤولية، وأن هناك طلبة يترقبونه، بالنسبة إليه كلما كانت طاقة أو بقية من طاقة إلا بدّلها؛ الشعور بالواجب وبالمسؤولية يجعله لا يتردد في القيام به.
من طرائف الأمور، أن غيابه عن الكلية لم يحصل إلا في حالات قاهرة، كدخوله المصحة، وفي حالة أخرى حينما كان يدرس في كلية سوسة، شهدت المدينة سيلاً من الفيضانات، انقطعت معه الطريق، ولم يستطع الوصول إلى الكلية.
ثلاثة عقود مرت في ممارسة التدريس وكأنها ثوانٍ، وفي محطات كان الليل طويلاً؛ يقول قيس، في إشارة إلى ما تعرض له من إساءة في بعض الأحيان، لكن الأخلاق تأبى أن ترد.
حديث مع الذات
قيس سعيّد، هذه الكلمة القريبة إلى قلبه أكثر من "فخامة الرئيس"، لأنه لا يحب "الإنشاد الديبلوماسي"، فلا غرابة أن يبادر بالكشف عن ممتلكاته، ويرفض الالتحاق بقصر قرطاج، مفضلاً شقة ما زال يسدّد أقساطها. وفي السياق ذاته يرفض منح إشراف شبيل، لقب السيدة الأولى، لأن كل التونسيات سيدات في المرتبة نفسها.
مختلف هذه الإشارات لن تدع باله يهدأ، وهو المطوق بمسؤولية أكبر، وهو من جعل الناس يحلمون، أكيد أنه الآن يشابك يداً في يد، ويجول بناظريه في غيوم السجائر التي دخنها، وإن كنا لا نعلم النوع الذي يفضله، الرئيس يشعل سجائر أخرى، وينفثها على مهل، يتأملها بشرود، ويتذكر أنها كانت من أسباب وعكته الصحية؛ يطفئها وهو في حديث مع الذات أو مستمع إلى شركائه؛ من أين نبدأ: عملة متهاوية، الاستثمار متوقف، عجز الميزانية 5.9 ، ديون خزينة الدولة اقتربت من الخط الأحمر وووو...
أسئلة يطرحها الرأي العام، لكن مع ذلك للسيد الرئيس الذكاء والإرادة، لتشكيل الحكومة خارج نظام المحاصصة، بل اعتماداً على برنامج وتصور وآليات تكون قادرة على ترجمته لمصلحة الشعب التونسي، وربما ستكون باقي الأحزاب قد استوعبت الدرس جيداً، إن هي ابتعدت عن الصراعات الحزبية الضيقة، لترسم لها ولتونس أفقاً ديمقراطياً أرقى، أو كما قال قيس سعيّد، في تدوينة سابقة على تويتر:"إما أن تتحدث عنّا أجيال من أحفادنا بفخر، وإما أن نكون صفراً مخجلاً يتحدثون عنه في كتب التاريخ".
مؤطر:
سعيّد قيس في سطور
قيس سعيّد، رئيس الجمهورية التونسية، أستاذ القانون الدستوري، صاحب شهادة في الدراسات المعمّقة في القانون الدولي، وديبلوم من الأكاديمية الدولية للقانون الدستوري، وديبلوم من المعهد الدولي للقانون الإنساني بإيطاليا. عضو فريق خبراء الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، ومقرر اللجنة الخاصة لدى أمانتها العامة، لإعداد مشروع النظام الأساسي، ومحكمة العدل العربية ونظامها الداخلي. خبير متعاون مع المعهد العربي لحقوق الإنسان. أستاذ جامعي متقاعد، متزوج من القاضية إشراف شبيل، ولهما ثلاثة أبناء.