أوديمار بيغيه.. تاريخ عريق في صناعة الساعات الفاخرة
وادي دو جو Vale de Joux في مقاطعة فود Vaud السويسرية، وله امتداد في فرنسا، تاريخه يحفل بصناعة الساعات، وهو فضلاً عن نوشاتيل Neuchatel، يُعدّ مهد صناعة الساعات السويسرية.
يحتضن هذا الوادي مصنع دار أوديمار بيغيه Audemars Piguet إحدى أعرق دور الساعات في سويسرا، التي تتميز بكونها مؤسسة عائلية تفخر بجذورها المترسخة في الوادي وفي الوقت نفسه، تمدّ أغصانها بعيداً في عالم التكنولوجيا والتطور، من دون أن تخل بتقاليد صناعة الساعات الفاخرة المتأصلة في حمضها النووي. وعلى مدى أكثر من 144 سنة، قدمت الدار الكثير من تصاميم الساعات المميزة والمعقدة التي جمعتها وصقلتها، أيدي حرفييها المهرة، وفقاً للقواعد التي نفحها فيها المؤسسان جولز لوي أوديمار Jules Louis Audemars و إدوارد أوغست بياجيه Edward Auguste Piguet .
وربما لهذا السبب تصرّ الدار على الإبقاء على مقرها في الوادي، لتظل مرتبطة بجذورها، وتسهم في إحياء المنطقة التي ولدت فيها، عبر تأمين وظائف، وكذلك بمحاولة بناء جيل جديد من الحرفيين العاملين في صناعة الساعات الفاخرة.
واستكمالاً لالتزامها بالإبداع والابتكار والحرفية الفنية اليدوية، صارت الدار الشريك الرسمي لمعرض بازل للفنون Art Basel عام 2013، لتدعم عروض الفن المعاصر التي تقدم للمرة الأولى في العالم في هونغ كونغ وبازل وميامي بيتش. ومنذ ذلك الوقت قدمت مفاهيم مبتكرة، عبر ردهة جامعي الساعات والتحف في جميع معارض فن بازل الثلاثة، تجسد إحساسها بالتاريخ الراسخ وروابطها الطبيعية.
ساعة DEFY Fusee Tourbillon.. رؤية جديدة عن صناعة الساعات الفاخرة
وهذه السنة تعاونت مع فنانين هما فرناندو ماستر أنجلو Fernando Masterangelo، هو فنان من بروكلين، فنّان معاصر متخصص في النحت والأثاث والهندسة والتصميم الداخلي، وجانا فيندرين Jana Winderen الفنانة االمتخصصة في عالم الصوت وموجاته.
القاعة التي صممها بالتعاون مع بيغيه، ستدوم لعامين، وهي مستوحاة من روح الوادي تدعو الزائرين إلى اختبار جمال وادي Le Joux، عبر خامات ونغمات متدرجة من جدران وصناديق عرض، وأثاث مصنوع من فلزات ومعادن مستخرجة من المنطقة أعيد صبّها واستخدامها في الجدران وخزائن العرض والأثاث. وفي وسط الغابة، أعيد إنتاج الغابة بالأشجار الصمغية المصنوعة من الرمل والسيليكا، حيث عرضت عليها أمثلة من أحدث مجموعات مصنع الدار، ومن بينها Code 11.59، وساعات تاريخية عريقة ذات تصميم غير تقليدي. وفي زاوية الحرفي التقليدي خلف منضدة العمل، يظهر جدار ستراتا المشكّل من طبقات من الكلس والرمل وملح الصخر والسيليكا، في مساحة واسعة مفككة من مقالع الحجر Combe Noire في الوادي. كما يعرض هذا الجدار 5 من المكونات الجوهرية التي تدخل في صناعة أحدث مجموعات ساعات الدار، وهي الذهب وسبيكة النحاس والتوتياء (براس)، وزجاج الأفنتورين والكريستال السفيري والحديد، التي تعيد إلى الذاكرة تاريخها المتأصل في المنطقة، والعملية المتشابكة والمعقدة لصناعة الساعات الفاخرة.
لكن المتعة ليست للنظر وحده، بل هناك متعة صوتية لا مثيل لها، حيث يتسنّى لزوار القاعة، الاستماع إلى معزوفة من أصوات الوادي الطبيعية، جمّعتها فنانة الصوت النرويجية جانا فيندرين Jana Winderen، لتنقل الزائر عبر الرحلة الصوتية إلى المناظر الطبيعية في الدار، كي يختبر الطبيعة المعقدة والمركبة للأصوات في المنطقة. وهي تأخذ الزائر من أشجار Spruce في غابة Risoud، المعروفة بأن خشبها ينقل الصوت بطريقة مميزة إلى أعماق بحيرة Lac De Joux. وضخّمت أصوات النظام البيئي، ونقّتها؛ إنها تقدم فهماً حميماً للدار ومحيطها للزوار.
يمكن للزائر الاستماع، عبر سماعات صوت تركز الصوت، كما أن هناك 4 مكبرات للصوت تعزف هذه المقطوعة الطبيعية.
متحف أوديمار بيغيه تجربة ثقافية Audemars Piguet Museum a Cultural Experience
اهتمام الدار ببيئتها والطبيعة المحيطة بها، لا يقتصر على رعايتها الفنون فقط، بل هي تحاول أن تترك بصمة كبيرة في عالم الساعات، وتجعل الناس أكثر فهماً وتقديراً للمراحل التي تمر بها صناعة الساعات الفاخرة. من أجل ذلك بدأت الدار بالعمل على متحف أوديمار بيغيه للساعات، الذي سيكون مقره الوادي، وسيتكامل مع فندق الدار الجاري تطويره حالياً، ليقدما تجربة متكاملة لزوار الوادي، من زبائن العلامة الراقية. هذا المتحف كما أخبرنا مايكل فريدمان Michael Friedman، المؤرّخ والمسؤول عن قسم التعقيدات في الدار، هدفه أن يكون وجهة ثقافية، صودف أنها متحف للساعات، تروي قصة الناس الذين صنعوا هذه الساعات والمشكلات التي واجهتهم وكيف تغلبوا عليها.
ويتابع مايكل "بالنسبة لمتحف أوديمار بيغيه أردنا أن نخلق تجربة تكون فيها الهندسة هي القصة، لذلك صنعنا مساحة هندسية ملتصقة بالساعات، إذ لطالما ارتبط تراثنا بالثقافة". فهذا ما يهدف المتحف إليه، وهو إعطاء الزائرين فرصة للنظر إلى الوادي وتطور الساعات، عبر عدسة الدار، وتصميم المتحف الشبيه بلولب زجاجي، سيسمح برؤية الوادي الخلاب من جميع الزوايا.
مميزات تكنولوجية عالية.. 5 ساعات ذكية لابد أن تقتني إحداها عند السفر (صور)
لكن كيف اختيرت الساعات؟ كما قال مايكل الهدف لم يكن عرض جميع القطع، بل اختيار قطع أصلية تروي قصة. ويضيف" اختيار الساعات احتاج إلى بعض النقاش في بعض الأقسام، وفي البعض الآخر لم يكن الخيار صعباً. إذ لدينا قطع خاصة بالمتاحف مصمّمة، ونعرضها بشكل دائم في معرض "آرت بازل". كما أن لدينا قطعاً تراثية تدور حول العالم، إما للتعريف بقطع جديدة وتعقيدات جديدة، وإما تكون معارض لتثقيف زبائننا وحتى الجامعات لتوسيع النقاش والنظر إلى مستقبل ساعات".
معايير اختيار الساعات للمتحف:
حسب مايكل فريدمان، فإن الشرط الأول لوضع الساعة في المتحف، أن تكون أصلية. وفي حال كانت مرمّمة، فإن الترميم كان يجب أن يكون قد حصل بأقصى حرفية ممكنة، ليصبح جزءاً من القصة المروية.
كما وجب أن تعكس القطع المنتقاة طبيعة العلامة وهويتها، فمثلاً بعض الساعات عكست الفن التكعيبي. "إذا نظرنا إلى لغة الأشكال، نرى أن بداية السبعينات شهدت التغيير من الأشكال الدائرية إلى الأشكال محددة الزوايا والهندسة والفن والسيارات، فتفهم ما الذي يحصل. ثم تتذكر أن المصمم كان سيد تصميم للنساء فتفهم طبيعة الخطوط والتصميم المريح".
أما بالنسبة للتعقيدات، فقد كشف فريدمان، أنها ستكون جزءاً من رواية القصة الأكبر، بحيث يختبرها الناس في إطارها التاريخي. ويوضح قائلاً "نحن نقول تعقيدات ونظن أن الأمر بسيط، لكن هذه القطع كانت أسلاف الكومبيوتر الحديث، بكل ما للكلمة من معنى. وهذه ليست نظريتي، بل هناك الكثير ممن يرون ذلك. مثلاً تعقيد مينوت ريبتير Minute Repeater، هو آلبة ميكانيكية مبرمجة، ليكون لديها 720 لحناً. أما تعقيد بربتشوال كالندر Perpetaul Calendar، فيغيّر أيام الأسبوع بحسب السنة القافزة، وقد تكون أحادية الاتجاه".
ويختم قائلاً "قوة الدار تكمن في الخروج من نطاق صناعة الساعات، لتبتكر ليس تعقيدات فقط، بل تجارب إنسانية أيضاً. من هنا نشأت فكرة التعاون مع "آرت بازل"، لأن التعامل مع المبدعين في كل مجال، يجعلنا نفهم رؤيتهم للوقت، وكيف ينظر زبائننا إلى الوقت، ما يسمح لنا بالابتكار والتطور".
وفيما يتعلق بالمتحف سيضم مشاغل حقيقية، ليطلع الزوار على عمل حرفيي الدار، من دون التداخل بين الاثنين، وسيكون هناك بعض من أبرز الابتكارات التي تقوم بها الدار. ستُصنع في المتحف أمام أعين الناس، واختبار صنع الساعات بأنفسهم. لأن اطلاعهم على آلية صنع الساعات ستجعلهم يقدرون الجهد المبذول في صنعها ويفهمون التراث المرتبط بها.
كيف جُهّزت الساعات للمشاركة في المتحف Restoration workshop
من أجل تجهيز الساعات للمتحف، جلبت إلى قسم الترميم الخاص بالدار، الذي يعمل فيه ثلاثة من أجيال مختلفة، وخلال زيارة إلى مصنع الدار، حدثنا أنجلو مانزوني Angelo Manzoni ومليكة شوباش Malika Scupach عن الآلية التي ترمّم عبرها الساعات، سواء للمتحف أو بطلب من أصحابها.
الخبيران يحاولان البحث عن القطع الأصلية "نحاول إنقاذ كل المكونات، ونعيد ترميمها باستعمال مواد جديدة يدوياً. وباستعمال التقنيات التقليدية القديمة من أجل حماية التصميم، ونقل المهارة للأجيال الجديدة أيضا". وعادة يمنح الزبون الخيار، إما للترميم أو استبدال القطعة. كما أنهم يرمّمون ساعات أخرى تنتمي للمنطقة، ولكن كيف يتعرفون إلى الساعات ويتأكدون من أنها أصلية؟
"كل ساعة لديها رقم خاص بها، إذ منذ عام 1951، هناك رقم للعلبة ورقم للحركة" إلا أن الخبراء كشفوا أنهم لا يعرفون إن كانت هذه الساعات المرقّمة، هي أول ساعات ظهرت أم كان هناك ساعات سابقة لها، خاصة أن الأرقام بدأت بالرقم 2000.
وفي قسم الترميم أيضاً، يعملون على شراء القطع الفينتاج، كما أن هناك أيضاً حرفيين متخصصين بالكريستال وتشكيله.
وكما أخبرنا الخبيران يتم استعمال الأدوات التقليدية القديمة، لترميم الساعات القديمة وهو عمل يحتاج إلى مهارة كبيرة، وقد لا يتجاوز عدد من يتقنون استعمالها أصابع اليد الواحدة.
"عملنا يقضي أن نعيد ترميمها، لكن أحياناً نصنع قطعاً بديلة، المهم هو الإبقاء على كل الأجزاء القديمة فيها". وتمتلك الدار أكثر من 2000 قطعة مرمّمة، وقد جهّزت 500 قطعة للعرض في المتحف، لتقدم تسلسلاً زمنياً لتطور صناعة الساعات الفاخرة للزوار.
وكما أخبرنا أنجلو ومليكة، فإن الحماس كبير لافتتاح المتحف، خاصة بعد الجهد الكبير الذي استغرقه العمل على القطع المعروضة وجمعها.