الفنان التشكيلي المغربي نعيم اشماعو: أعشق الموت ورسم الجسد لا يفسد للأخلاق قضية
يعد نعيم اشماعو الفهري شخصية لافتة في مجال المحاماة والعمل الجمعوي والرسم التشكيلي، يعرف بالمحامي الفنان، موجوداً بشكل لافت في كل المنتديات الاجتماعية والفنية بالمغرب، يعشق الرسم والسفر والجولف والشطرنج.
لنعيم اشماعو قصة عشق خاصة مع الريشة وذكريات مع أهل السياسة والفن. رسم أكثر من 3000 لوحة، وباشر قضايا قانونية كبرى منذ أن ورث مكتب رضا اكديرة مستشار الملك الراحل الحسن الثاني في بداية الثمانينيات. نلتقي معه في هذا اللقاء لنتعرف على رجل يحاول أن يجد لوجوده معنى آخر بالإيمان والفن والسفر والكتابة.
لوحات فنية رائعة للمؤسس بريشة تشكيليين عالميين تزين مطار الملك عبدالعزيز الجديد
وإلى نص الحوار...
نعيم اشماعو محامٍ معروف وفنان أيضاً، لكن تكاد صفتك كفنان تشكيلي وجمعوي تطغى على المحامي لماذا؟
الفن جزء مهم وأساسي في حياتي، والمحاماة مهنة أعشقها، المهنة سبقت عشقي للفن أو لعله هو من اختارني هكذا صدفة دون سابق إنذار، أحب أن أكون متعدد الاهتمامات، وتكون حياتي فيها هذا المزيج الذي يجعلني في حركة دائمة واطلاع مستمر.
هل اكتشفت أنك فنان دون أن تدري؟
تخصصت في القانون والإدارة، وكنت على وشك أن أدخل سلك القضاء، لكن شاءت الصدف أن ألتقي المستشار الراحل رضا اكديرة، وأكون ضمن المتدربين في مكتبه، اختارني بعدما لمس فيّ استعداداً للعمل والتعلم. بدأت معه في أوائل السبعينيات، واستمر المشوار بعد مماته، حيث ورثت مكتبه، أما الفن فجاء فعلاً بمحض الصدفة، حينما حضرت مهرجاناً عالمياً للرسم بدوسلدورف منذ ثلاثين سنة، اكتشفت سحر الرسم، وأثيرت شهيتي لهذا الفن. قررت دراسة الفن في باريس بالمدرسة الخاصة لتكوين المهندسين، كنت أجتهد كثيرا لأن آخذ دروساً في تقنيات الرسم بتركيز، ولديّ دبلوم أكاديمي من باريس عام 2012 بمعية فنانين كبار وكنت من بين الخمس الأوائل.
كيف أصبحت في مكتب المستشار الراحل محمد رضا اكديرة؟
اشتغلت مع الراحل اكديرة في المكتب مدة 13 عاماً إلى أن توفي رحمه الله في باريس، استقطبني كمحامٍ متمرن موهوب. كان كل من يدخل مكتبه يمر بامتحان عسير في الكتابي والشفوي، اختارني واخترته فيما بعد. كنت على أبواب ولوج سلك القضاء، لكن فرصة الاشتغال مع اسم كبير مثل اكديرة -رحمه الله- كانت فرصة لا تعوّض، حيث كان من أشهر وأكفأ المحامين، وورث مكتبه عن كبار المحامين الفرنسيين وتعامل مع شركات دولية كبرى.
كيف كانت علاقتك بالمرحوم الذي كان له بصمة في تاريخ المغرب؟
اكديرة هو فكر أولاً ورجل دولة، فقد تقلد عدة مهام وزارية، وكانت له جرأة أن يقدم استقالته في عهد الراحل الحسن الثاني، أول ما تعاملت معه طلب مني أن أدرس ملفات وفق الدراسة النظرية التي درستها بكلية الحقوق، كنت متمكناً من اللغتين العربية والفرنسية، وطلب مني في بداية الثمانينيات أن أمثله خارج المغرب وأعطي رأيي القانوني، كنت أسافر باستمرار لأجل المشاركة والترافع في عدد من هذه القضايا. أخذت الملف ودرسته وحررت مذكرة بالفرنسية والعربية من حوالي 20 صفحة. لكنه أعادها لي وطلب تلخيصها ففعلت، فطلب مني مزيداً من التلخيص بمعنى أنه كان يركز على الهدف، وإيصال الفكرة ولا يحب التمطيط والحشو، يحب ما قل ودل، بعد تلخيصها أخذ المذكرة أمام القضاء وربحنا القضية، وبالتالي كسبت ثقته، وتحمست للمهنة أكثر. كان أيضاً متحفظاً في الصداقات بل أكاد أقول إنه لم يكن لديه أصدقاء. كان رجل دولة حقيقياً وكان لا يلتفت إلى الشهرة والأضواء. رغم دوره الفعال في تاريخ السياسة بالمغرب كان يصف السياسي بـ"الحيوان السياسي"، وكان يعتقد الآخرون أن الصفة قدحية، لكنه كان يعني بها الصراحة والشراسة. كان من المحاورين في قضية الصحراء وتفاوض طويلاً حول الموضوع، وكانت له صولات وجولات في ملفات سياسية حساسة.
هذا التجاور والقرب من اكديرة ألم يؤثر عليك لتمارس السياسة؟
أتذكر جيداً الأيام الأخيرة مع الراحل اكديرة في باريس، توفي وفمه مفتوح، وكأنه كان ما زال يريد قول شيء، في أيامه الأخيرة كان يكتب فقط، لم يكن يقوى على الكلام، وما زلت أحتفظ ببعض كتاباته لي من داخل المستشفى.
السياسة كما عبر عنها الملك الراحل الحسن الثاني أربعة فصول، متقلبة وأن رجل السياسة ملزم في فترة الشتاء بأن يلبس معطفه والخريف والربيع له لباس آخر. كنت أتعاطف من بعيد مع بعض الأفكار لكني لم أمارس السياسة، المرحوم اكديرة كان يحاول معالجة القضايا بأسلوب مرن ويقارب كل وجهات النظر حتى يجد حلاً وسطاً، وكان السياسيون في كثير من الأحيان لا يحبون مجالسته كثيرا؛ لأنه كان صريحا جداً، ولا يقبل المجاملات في طرح أفكاره ورؤيته للأمور. تأثري به كان فكريا وقانونيا وإنسانيا.
ما هي بعض الطقوس التي كان يحرص عليها الراحل اكديرة على سبيل المثال؟
أتذكر أنه دائماً في صندوق مكتبه قرآن مفتوح، يقرأ دائماً آية من الآيات ويدع القرآن مفتوحاً، وكل المذكرات التي يكتبها كان يبتدئها: "ربي أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق، واحلل عقدة من لساني يفقه قولي"، وحين كان لا يجد الوقت الكافي أحياناً يكتب كلمة "ربي"، وخلال مساره أيضاً وأنا أيضاً هنا أتحدث عن مساري معه، كنت أحاول أن أتقرب منه أكثر حتى أكون في المستوى المطلوب.
هل الحظوة العائلية لعائلتك لعبت دوراً في التقرب من الشخص؟
أبداً، نحن عائلة أغلبنا عشنا من الفلاحة ولسنا أعياناً، علاقتي باكديرة كانت بمحض الصدفة والتكوين الجامعي الذي تلقيته في القانون، اختياره لي كان بناءً على كفاءتي، وكنا 11 محامياً معه في مكتبه، كنا نعمل كخلية نحل.
لكنك محظوظ بهذا القرب؛ لأنك ورثت مكتبه؟
أجل محظوظ للعمل مع شخصية فذة، تكلفت بتصفية كل الإجراءات في مكاتبه، وكانت فترة دقيقة في حياتي بعد وفاته؛ لأن ملفاته كثيرة خاصة مع شركات التأمين وملفات العائلات الكبرى في المغرب، كان يعطي استشارات قوية قانونية تهم الشؤون السياسية للدولة، وكان يكتبها باسمه الخاص، ويوقّعها تحت مسؤوليته وأحياناً يوجّه رسائل شخصية كأنها مذكرات تؤرخ لنظرته وتفاعله مع أحداث المغرب آنذاك، والتي تبين روح مواطنته العالية وحبه لبلده إلى آخر رمق.
الملاحظ أن اسمك يتردد أكثر في المجالس الفنية والمجتمع المدني أكثر من المحاماة، فهل الفن واحتك التي تستريح منها من عناء المهنة؟
ما يشغل بالي أكثر هو الفن، أحببت توصيفك "واحة"، فعلاً الفن واحة واستراحة ومتنفس وهو عالم مثير وشاسع، أجد نفسي مع اللوحة حتى إنني أحياناً حينما لا أجدني فيها أردها إلى البياض، حدث لي مرة في معرض بألمانيا أن زارني مسؤول كبير في الدولة، وقدم بعض الملاحظات على اللوحة، وكان بإمكاني أن ألبي رغبته، لكني كنت منجذباً إليها كأنها هي التي ترسمني، فجاء مرات عديدة إليّ يسألني عنها، فطلبت منه أن يعود مرات أخرى، فنهضت حوالي الرابعة صباحاً وتأملت في اللوحة وكانت كبيرة جداً؛ لأني اشتغلت عليها على سلم، فصبغتها باللون الأبيض، وجاء الشخص إلى اللوحة ليجدها بيضاء، استغرب فقلت له أنا أرى ما لا تراه.
بأيادٍ سعودية.. تزيين الأحياء والبيوت الشعبية القديمة وتحويلها إلى لوحات فنية وتشكيلية
أنت إذن تعيش لإحساسك الفني وبمزاج خاص ولا تشتغل تحت الطلب؟
أشتغل تحت الطلب أحياناً؛ لتلبية رغبة بعض الأصدقاء من السفراء والدبلوماسيين في المغرب، أنجزت لوحات لشخصيات أوروبية وخليجية من السلك الدبلوماسي.
لأجل المجاملة؟
أشتغل بتمعن على الطلب وأضع "كروكي" صغيراً، وأنسج نماذج مصغرة، وترافقني فكرة رسم في كل مكان، تسكن خيالي وكأنها قطرة ماء أضعها في مخيلتي، كما أنني أرسم الشخص مباشرة حسب التفاعل.
نلاحظ اهتمامك برسم الجسد، فماذا يعني لك؟
سؤال طويل عريض، الجسد لغة، ويبقى الاشتغال على الجسد ضرورة ملحة، أي فنان حاول أن يبقى بعيداً عن رسم الجسد يبقى لديه نوع من الخصاص. حينما كنت بمعهد المهنيين بباريس كنت أخطط نماذج للجسد تصل أحياناً إلى أكثر من 50 نموذجاً في اليوم الواحد.
هل هذا التعامل مع الجسد في الفن بالنسبة لك نوع من فهم كينونته أو لفهم جسدك أنت أولاً؟
كينونة جسدي نشأت معي بكل المؤثرات التي حولي، منذ السنوات الأولى للطفولة، الجسد له أصحاب الاختصاص، وهو موضوع فلسفي، خاصة وأنه مرتبط بالروح أيضاً. منذ صغري أرى والدي يقرأ دليل الخيرات، وكنت في حداثة سني حين يقوم والدي لصلاة الصبح كان يأخذني معه إلى المسجد، وأنا لا أدرك حينها إلى أين سأذهب، ومنذ ذلك الوقت أخذ الجانب الروحي حيزاً كبيراً من حياتي، حتى صرت من الذاكرين المواظبين كل يوم، أضع الذكر بالطريقة التي أرتاح فيها، وحتى اللوحة بالنسبة لي ذكر، أتعامل بمزاج خاص وبتأمل وتركيز مع اللوحة وأشعر من خلالها بارتياح وكأنني أكتبها.
إذن هناك ارتياح روحي في الرسم يعني أنك حينما تنتهي من الرسم ترتاح؟
ليس دائماً، قد أدخل اللوحة مرتاحاً وأنتهي منها قلقاً، والعكس بالعكس، ذاك العطاء هو خزان، راحتي أجدها في راحة المتلقي الذي يعجب باللوحة.
ثمة حضور قوي أيضاً لجسد المرأة أساساً، هل هو تكريم للمرأة أم إعجاب أم ماذا؟
الاشتغال على الجانب الفني صعب، أحاول أن أكرم المرأة دائماً، واهتمامي بقضايا النساء يشغلني أيضاً، فأنا عضو في كثير من الجمعيات التي تناصر قضايا النساء عبر العالم.
هل هناك تقبل لمثل هذه اللوحات المتعلقة بالجسد من طرف المتلقي المغربي والعربي؟
- طبعا، هناك تقبل كبير للوحات؛ لأنها تحمل رمزية خاصة، عرضت لوحتين اسميتهما "الجنة والنار" منذ أكثر من 10 سنوات في مسرح محمد الخامس، وكل لوحة تشمل أنماطاً نسائية تعدت 70 امرأة، المقبل على المعارض الفنية يقرأ اللوحة بوعي وتذوق، فكبار الفنانين خاصة في النحت تعاملوا مع النحت بشكل راقٍ، وبيكاسو مثلاً له رمزية خاصة في التعامل مع الجسد.
هل تأثرت بأسماء معينة أو مدارس ما؟
- المدارس كانت بالنسبة لي زخماً فنياً اطلعت عليه وخبرته، إلى أن كونت مدرستي الفنية وتصوري الشخصي، تأثرت بفن بيكاسو بخصوص استعمال اللون والتكعيب، كان له أسلوب خاص في استعمال المكعبات منحتني سهولة في الإمساك بالقلم، وحتى في تعامله مع اللون الأصفر الفاقع والأزرق، الجسد في الفن اشتغال على رؤية ورمزية وجمالية، ولا يعني أبدا المساس بقيم المجتمع وأخلاقه.
من هي الفنانة التشكيلية باية محيي الدين التي احتفى بها جوجل؟
واهتمامك برياضة الجولف في الرسم؟ لماذا؟ هل لأنك عاشق للجولف؟
زرت عديداً من ملاعب الغولف عبر العالم، وأنا فعلاً تستهويني هذه الرياضة التي ليس بالبرجوازية حسب ما يشاع، أردت تغيير هذه الفكرة من خلال الرسم أيضاً، هي رياضة روحية تمارس في فضاء أخضر ووسط هواء نقي ومعك أصدقاء، وهي رياضة قديمة جداً، رسمت الملك المغربي الراحل مولاي عبدالعزيز وهو يلعب الجولف باللباس التقليدي، استوحيتها من صورة له في جولف طنجة بداية القرن الماضي، ويعد أول لاعب باللباس التقليدي، وطلب من مرافقيه أن يكونوا أيضاً باللباس التقليدي. أول معرض لي في جولف دار السلام بالرباط، كان منذ تولي الملك محمد السادس العرش، ومنذ ذلك أخذت الأمر كتقليد سنوي أعرض فيه لوحاتي الفنية.
والفروسية؟
أجل أحبها ومارستها وكان لي فَرَسان.
لديك ملامح البرجوازي الذي لا تريد أن تكونه؟
ألغيت اليوم هذه الألقاب، وانصهرنا في منظومة قيم المواطنة الحقة، أنا مواطن، وقد أجزم بأني صالح لا غير.
خلال أسفارك المتعددة عبر العالم، ما هي الحكمة التي خرجت بها من الحياة؟
قد لا أبالغ إن قلت إني زرت العالم من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه، تمكنت من نسج علاقات واسعة دولية وإنسانية عبر كل العالم.
حكمتي هي التواضع في الحياة وترك أثر طيب يلهم الآخرين.
أنت رجل ذاكر لله مؤمن، ألا تهاب الموت؟
أنا فعلاً ذاكر لله باستمرار، والعلاقة مع الله روحية وسامية، والله معنا أينما حللنا وعليم بالنفوس. أما الموت فقد التحمت بالحياة لدرجة الموت، بل قد أقول سموت بنفسي لدرجة الشوق إلى الموت؛ لأن فيه حياة أخرى.
وما السعادة؟
هي من سعادة الآخرين، نفتش عنها في أي شيء من شأنه أن يخلق لك إحساساً جميلاً.
المرأة سر سعادتك؟
- أجل هي مصدر سعادة، ولولاها لما كنا نحن الرجال.
يقال عنك إنك زير نساء؟
أبداً، ربما لأني أرسم النساء وأكتب عنهن كثيراً، أعشق الجمال والمرأة سر هذا الجمال، وتلهمني في فني بكل تمظهراتها في الحياة.
من الرجل الذي ألهمك؟
والدي أكيد، كان رجلاً مؤمناً ذاكراً ومحباً ومخلصاً في عمله، والممثل العالمي "أنطوني كوين"؛ لأني التقيته ونحتّ وجهه وهو أيضاً نحات متميز.
أنت شخصية مركبة تبحث عن الكمال؟
أنا شخصية مركبة ربما، لكنها ليست معقدة، أحب الحياة والفن وأحب الانطلاق بحرية في عالمي الخاص.
ما الرياضات الأخرى التي تحب؟
الشطرنج عالمي الجميل الآخر، لعبت دورات مهمة عبر العالم، ونظمت ملتقيات كثيرة في هذه الرياضة الذهنية التي تمثل الحكمة والتدبير.