عائلة الجريسي.. عصامية رجل صنعت إمبراطورية عائلة سعودية
وهب الشيخ علي بن محمد الجريسي بنين وبنات؛ فمن أولاده الذكور: خالد، وعبد العزيز، وجعفر، وهم أشقاء من أم واحدة، أما عبد الكريم، وعبد الرحمن: فهما من أم أخرى. وجميع هؤلاء أعقبوا بنين وبنات أيضا، خلا عبد الرحمن فإنه لم يعقب، وكذا عبدالكريم فقد انقطع نسله. وقد أصبح عدد أبناء علي بن محمد الجريسي اليوم أكثر من خمسمائة نسمة وأكثر انتشارهم في الرياض، والزلفي، والكويت.
في عائلةِ الجريسي عددٌ من الرجالِ البارزين في عصرنا الحاضرِ، ممن حازوا درجات علمية، وشغلوا مناصب رفيعة، ولعل محور الحديث عن هذه العائلة هو عبد الرحمن الجريسي، الذي أسس أحد الكيانات الاقتصادية السعودية الرائدة والتي بدأت أعمالها من الصفر.
يصنف الرجل بوصفه شخصية اقتصادية مرموقة على مستوى الخليج العربي؛ هذا ما يقال اليوم لكن الماضي يقول شيئا آخر ويحكي قصة معاناة ابن القرية اليتيم المعدم، الذي جاء إلى المدينة محمولاً على ظهر بعير، وفي يده كسرة خبز لا تكاد تكفيه باقي يومه، ولا يعرف ماذا تخبّئ له الأيام.
بدأ عميد الاسرة مشواره موظفاً في محل بالرياض القديمة، براتب عشرين ريالاً، ولم يكن من خيار أمامه، أو ربما لم يمتلك حينها ترف الخيار فلم يكن أمامه سوى الصبر والمثابرة، حتى اينع ذلك ثمارا نحتت اسم الجريسي على الصخر في مسيرة اقتصاد المملكة.
يعدّ مؤسس عائلة الجريسي التجارية، أحد الذين وصلوا إلى مرادهم، بعد جهد وتعب؛ فالولادة من رحم المعاناة والعيش في تعب حتى الوصول إلى الهدف، قصة كل شخص ناجح لكن لكل ناجح فلسفته في التعامل مع هذا الصبر، وطريقته في تظهير المرار وتحويله الى ثمار. أما رحلة ثروته، فقد كانت محفوفة بالمخاطر والمصاعب، ليؤسس اليوم كياناً اقتصادياً تسلم قيادته الجيل الثاني من أبنائه.
يرى الجريسي في كل هذه الظروف الصعبة التي مرّ بها، أسباباً صقلت شخصيته وخبراته، وأسهمت في نجاحه، وتأسيسه "مجموعة الجريسي" الضخمة المشتملة على شركات ومؤسسات ونحو 500 وكالة لأشهر الماركات العالمية.
هنا نمت بذرة العائلة وأينعت ثمارا
عاش عبد الرحمن الجريسي حياة القرية البسيطة، فقبل أكثر من خمسين عاماً بدأت أحلامه الصغيرة تكبر وتتسع، وسط ظروف صعبة لا تتجاوز أحلام أكثر المتفائلين، في أن يجد قوت يومه المتمثل بالتمر والقمح آنذاك، وخاض خلالها تجارب قاسية، عندما رحل والده عن هذه الدنيا، تاركاً ابنه الذي لم يكن قد أكمل ربيعه الثاني، ليواجه تجارب الحياة بنفسه، فعاش يتيماً، ليبدأ هاجس مواجهة صعوبات الحياة والاعتماد على النفس، يرافقه أينما قادته قدماه بين أزقة "رغبة" (130كم شمال الرياض) التي نشأ وترعرع فيها، عندها قرر الرحيل مع جدته التي احتضنته بعد وفاة والده إليها، للبحث عن الرزق والعمل، بعد أن بلغ السابعة، لتبدأ مرحلة جديدة في حياته، ملأى بالتجارب المشوّقة .
ولد عبد الرحمن، سنة 1932، في قرية صغيرة تدعى "رغبة" في نجد، ودرس دراسة بدائية، وعاش النمط البدوي السائد في طبيعة الحياة في تلك المناطق، ثم اتجه للعمل بائعاً في دكان يملكه تاجر معروف في الرياض. وبعد مرور مدة من الزمن، شعر الفتى أن عمله هذا متعب جداً، وخاصة أنه يستهلك وقتاً طويلاً وجهداً كبيراً، فضلاً عن شعوره الدائم بحاجته إلى الانطلاق في مشروعه الخاص، ولكنه فضل المثابرة والبقاء في عمله، لأن الرجوع إلى الصفر، يمثل انتحاراً، وقرر أن يصعد السلّم درجة تلو الأخرى.
وفاة الأب ومرحلة التعليم
توفي والده وهو في الثانية، ولربما كان هذا الحدث المؤسف هو الذي وضع عبد الرحمن، على أول سلم المجد؛إذ تولت جدته لأبيه تربيته والعناية به، وأرسلته إلى الكتَاب (مدرسة لتحفيظ القرآن) وهو في السادسة، وكان عليه أن يقطع مسافة كيلومترين يومياً مشياً، حتى يصل إلى مدرسته، ومثلهما عند العودة.وعندما أصبح في الرابعة عشرة، أرسله عمه، ليعمل في دكان الشيخ عبد العزيز الناصر، ولم يكن على عبد الرحمن عبء العمل في الدكان لساعات طوال فقط، بل كان عليه أيضاً أن ينقل الماء من بئر بعيدة إلى منزل عبد العزيز، وكلما عاد إلى منزله كان يفكر في ترك ذلك العمل، إلا أنه يجد نفسه في الصباح ذاهباً إليه، حتى أمضى فيه ثلاث سنوات، دون أن يعرف خلالها كم كان راتبه الذي كان يتسلّمه عمه، غير أنه اكتسب خلال هذه السنوات الكثير من مهارات السوق وخبرته، وبعضاً من مهارات الحساب.
العم محمد الجريسي
للعم محمد الجريسي مكانة خاصة في قلب عبد الرحمن ويبدو ذلك جلياً عندما يتحدث عبد الرحمن عن تلك الحقبة الباكرة من حياته فيقول: حالَ وصُولِنا إلى الرياض توجَّهنا جميعًا إلى بيتِ عمِّي محمدٍ، ذلك البيت الذي لا أنسى صورتَه أبدًا، كان لي أبًا بعدَ وفاة أبي، وسندًا لي ومعينًا مع جدَّتي، وقد أحببتُه حبَّ الابنِ لأبيه، وأُولعَ بي ولَعَ الوالدِ بولَدِهِ، وما زلتُ أُكِنُّ له في صدري كلَّ معاني الإجلالِ والتقديرِ. لقد عشتُ في كَنَفِه في الرياضِ، فكان أخشى ما يخشاهُ أن أشعرَ بأدنى شعورٍ بالحِرمانِ؛ لذلك كان غالبًا ما يُؤثِرُني على أولادِهِ ويقدِّمُني عليهم، وما كان يشتري لأسرتِهِ شيئًا، إلا ناداني وقال لي: اخْتَرْ أولاً، تطييبًا لخاطري، وتعويضًا لي عن اليُتمِ.
ولا تبرَحُ ذاكرتي تلك اللحظةُ المؤلمةُ التي أسلمَتْ فيها جدَّتي الروحَ لخالقِها، في ذلك الظرف لم يألُ عمي جهدًا في العطفِ عليَّ والتخفيفِ عنِّي، وتعويضي ما فقدتُّ برحيلِ الجدَّةِ.
دكان في وسط الرياض
فتح عبد الرحمن، بعد تعب شديد، وبمساعدة بعض من أصدقائه، دكاناً صغيراً لبيع الأدوات المنزلية البسيطة من ملاعق، وأوان فخارية، وغيرهاممّا كان متوافراً في ذلك الوقت. ومن هذه النقطة بدأت رحلته إلى الثروة، وبدأ فعلياً بالحصول على ثمراتها، بعد أن وسّع تجارته، وحولها إلى تجارة الأثاث المنزلي والمكتبي، حيث ظهرت الحاجة إلى هذه المشاريع، مع تطور العجلة الاقتصادية.
رحلة الثراء وتأسيس الشركات
بدأت رحلة الثروة تتقدم، وبخطوات سريعة، حيث أخذت تجارة عبد الرحمن، تكبر شيئاً فشيئاً، وأصبح من كبار رجال الأعمال، وأنشأ شركات ومعامل لصناعة الأثاث، وخدمات الحاسوب والتقنيات المتعلقة به التي يعمل فيها حالياً الآلاف من الموظفين والتقنيين، وله دور مهم في عملية التطوير التجاري والتنمية في المملكة، حتى إنه مُنح دكتوراه فخرية في علم الاقتصاد، تقديراً لأعماله، فضلاً عن حصوله على ألقاب وجوائز كثير. وفي بداية سنوات الطفرة الأولى، عمل في تجهيزات المكاتب، حتى كان عام 1378هـ، الذي يعدّ بدايته الحقيقية، وكان قد وفر مبلغ أربعين ألف ريال، وبعد أن أمضى إحدى عشرة سنة في العمل، بدأ بأول مشاريعه التجارية،بتأسيس شركة صغيرة باسم "بيت الرياض"، بدأت بموظف واحد، يساعدهفي أعماله. كانت بداية صعبة جداً، نظراً لسنوات الركود الاقتصادي العالمي،حيث كانت المملكة في السبعينات الهجرية، تعاني ضائقة مالية انعكست على الأوضاع الاقتصادية، وتأثر بها رجال الأعمال. وكانت الرياض صغيرة جداً، ولا تتجاوز مساحتها كيلو متراً مربعاً، ولم تكن هناك كهرباء ولا تمديدات ولا مدارس أو مستشفيات، وبدأ التدريس متأخراً نسبياً،فقد عانت المؤسسة الشابة من خسائر في بدايتها، إلا أن الجريسي لم ييأس. ففي عام 1382هـ، الذي شهد انتعاشاً اقتصادياً كبيراً،استطاع أن يحول الخسارة إلى نجاح، بعد أن قرر الانفصال عن شريكه الذي لم يكن يتحمل أي عبء إداري معه، بعد عشر سنوات من تلك الشراكة، فاشترى حصته، رغم مغالاته في تثمينها، وعلمته هذه التجربة التغلب على الصعوبات وعدم الاستسلام للخسائر، كما علمته أن يكون حازماً في جميع أعماله ومواقفه مع نفسه ومع الآخرين.
كيان عائلة الجريسي
إمبراطورية تجارية تضمّ خمسة آلاف موظف، بدأت بمحل أثاث، ثم اتسعت لتشمل الأثاث المكتبي، ثم كانت أول من بدأت ببيع الكمبيوتر في المملكة، ثم أطلقت مؤسسة إنترنت مع "باتلكو" البحرينية وها هي اليوم مجموعة الجريسي تعدّ صرحاً اقتصادياً مهماً في السعودية.
أول من أدخل جهاز الكمبيوتر للسعودية
عائلة الجريسي، هي أول من جلب جهاز كومبيوتر للبيع في السوق السعودية، وكان ذلك في بداية السبعينات الميلادية، عندما انتشرت أنباء استخدامات الكومبيوتر في دنيا الأعمال، وكان من الذين برزوا بسرعة في هذا المجال، أمريكي من أصل صيني يدعى الدكتور وانغ، أسس شركة في بوسطن اسماها "وانغ للكمبيوتر"، وهو الذي قدم أول كومبيوتر شخصي (PC) كان يسمى في ذلك الوقت "وورد بروسيسور"، وكان أول من أدخل هذا الكومبيوتر إلى المملكة. واستمرت علاقته مع وانغ من الـ"وورد بروسيسور"، والانتقال إلى "الميني كومبيوتر"، ثم إلى "اللارج كمبيوتر"، ثم إلى (PCS). يقول عبد الرحمن الجريسي: هذه قصة بدايتنا مع الكمبيوتر، ثم كان استمرارنا في هذا الطريق إلى أن وصلنا بتوفيق الله إلى ما وصلنا إليه الآن. وللعلم فنحن الآن لسنا مستوردين فقط للكمبيوتر، ولكننا مصدرون أيضاً، ولدينا في الرياض مصنع لتجميع الـ إتش بي (HP) وأجزاء هذا الكومبيوتر تجمع من أكثر من مصنع في أكثر من دولة، وهو الشيء نفسه الذي يحصل في أمريكا وأوربا وفي اليابان والصين، ونحن الآن نجمّع الكومبيوتر الشخصي، ونصدره إلى الدول الخليجية والعربية ودول الشرق الأوسط.
مبادئ العمل لدى الجريسي
عن مبادئ العمل التي انطلق منها عبد الرحمن الجريسي لتحقيق أهدافه، يقول: من بداية عملي مع الشيخ عبد العزيز بن نصار، وكذلك في بداية عملي الخاص، كنت أنطلق من ثلاثة عناصر مهمة جداً، وهي الأمانة في التعامل مع الصدق والإخلاص، والعمل الجاد، حيث يجب أن يأخذ الإنسان العمل بجد ولا يأخذه على أساس أنه من الممكن أن يعمل اليوم ولا يعمل غدا، ثم بعد ذلك الاستمرار في العمل، بمعنى ألا يتعجّل الأمور، بل لا بدّ أن يعمل ويجتهد ويصبر ويستمر في هذا العمل. ويشير الجريسي إلى ثلاثة معايير أساسية التزم بتطبيقها طوال مسيرته التجارية، وخلال كل نشاطه الاقتصادي، حيث يضمن عميل مؤسساته: أولاً، مُنتَجاً على مستوى عال من الجودة، ثانياً، سعراً أقل، ثالثاً أعلى مستوى خدمة ما بعد البيع. ويضيف: العميل الصغير يظل يحظى عندنا بأهمية العميل الكبير، والصدق والحفاظ على الوعد يبقيان أساسين لمعاملة الجميع،وهذه المبادئ لا نحيد عنها.
رحلة عائلة العليان.. من البدايات المتواضعة إلى الأكثر نجاحاً وثراءً
لا لتكديس الثروه
"أنا لاأعمل لتكديس الثروة"، هذه هي فلسفة عبد الرحمن الجريسي في الحياة، ولكن لتحقيق النجاح وتوجيه المال لخدمة ديني ومجتمعي. يستبدل سيارته كل 5 أو 8 سنوات. يلبس ويأكل ويسكن دون إهدار أو تقتير. يدعم الأعمال الخيرية والفعاليات الثقافية والوطنية وبرامج التدريب والتأهيل والسعودة، انطلاقاً من إيمانه بأن أكرمكم عند الله أتقاكم وليس أغناكم، وأن التواضع يسعد المحيطين به، بينما التباهي بالثروة، يشعرهم بنقص إمكاناتهم وقلة حيلتهم.
حلمي محل تجاري
يقول عبد الرحمن الجريسي: ما وصلت إليه لم أتخيله حتى في أسعد أحلامي التي كان أقصاها أن يكون عندي محل تجاري وموظفان اثنان، ولم أتخيل قطّ، أن يكون عندي كل هذه الأعمال وخمسة آلاف موظف وعامل، منهم 4 آلاف يعملون في مجال التقنية، أغلبهم مهندسون ومبرمجون وإداريون في مجال تقنيات الكومبيوتر. ويكشف سرّ توسع مشروعاته وأعماله:أنا متابع للمتغيرات في العالم، وليس المحلية فقط. أبحث عن أحدث ما توصل اليه التخصص الذي أمارسه، وعلى اتصال دائم بجديد العالم، تعلمت الإنجليزية وأنا على رأس عملي، وأزور دول العالم المختلفة، للوقوف على آخر ما وصل إليه العلم؛فمن لا يتطور يدهسه قطار الزمن.
أربعون عاما في الغرف السعودية
وعن تجربة أربعين عاماً في خدمة الغرف التجارية، قال: تشرفت برئاستها، في وقت أعدّه إثراء لي، حيث تحققت خلالها نجاحات ملموسة، وعزّزنا فيها العلاقات التي تربط الغرفة بالمسؤولين وأصحاب القرار، ما يخدم قطاع الأعمال، فضلاً عن توثيق العلاقة بين الغرف في المملكة وخارجها، وبما حققته غرفة الرياض كونها أكبر غرفة إقليمياً، بأكثر من مئة ألف منتسب، وهو ما قادها إلى تحقيق النجاح في خلق عمل مؤسسي شارك بفعالية في بلورة كثير من الرؤى. وكان لابدّ أن أترك الأمانة لإتاحة الفرصة أمام قيادات أخرى، لمتابعة المسيرة وتحمل المسؤولية، خاصةً القيادات الشابة وكوكبة من رجال الأعمال الذين أدوا دوراً وطنياً، عبر مجلس إدارتها ولجانها، لخدمة قطاع الأعمال والاقتصاد الوطني.
من ذاكرة خالد الجريسي
يقول شقيق عبد الرحمن خالد الجريسي : نشأ والدي حفظه اللهُ في أسرةٍ مترابطةٍ متآلفةٍ، لكنَّه سَرعانَ ما افتقدَ عِمادَ أسرتِهِ والظلَّ الذي كان يُفترَضُ أن ينموَ في حِجْرِهِ ويفيءَ إليه، فذاق لَوعَة اليُتمِ وهو بعدُ غضُّ الإهابِ، لم يشتدَّ له عودٌ، ولم يَقْوَ له ساعدٌ.
وشبَّ أبي في كَنَفِ أسرتِهِ، قريبًا من والدتِهِ التي كانت ترى فيهِ المستقبلَ الواعدِ والغدَ المشرقَ، ذلك المستقبلُ الذي لم يكن - في قياسِ الزمنِ - طويلاً، إذ لم يلبَثْ حتى قضى الله فيه قضاءَهُ الذي لا رادَّ له. فبعدَ أن تناولَ طعامَ العَشاءِ ذاتَ ليلةٍ، إذا به يصابُ بتسمُّمٍ غذائيٍّ، وما هي إلا أيامٌ قليلةٌ حتى فارقَ الدنيا وهو ما يزالُ في مُقتبَلِ العمرِ، وقد جاوز الأربعينَ بيسير. هكذا ماتَ رحمه الله من أكلةٍ يسيرةٍ، وهو الذي سقط في غَيابَةِ بئرٍ عميقةٍ فخرج سالمًا! فسبحانَ الذي بيدِهِ الأمرُ، يُحيي ويميتُ، ويفعلُ ما يشاءُ .