من ارشيف "الرجل" الملك حسين : اقود طائرتي بنفسي
من ارشيف الرجل
مايو/ايار 1995
يدخل العاهل الأردني الملك حسين، في الثاني من هذا الشهر مايو، عامه الثالث والاربعين، متربعاً على العرش الاردني. فقد تولى سلطاته الدستورية ملكاً في مثل هذا الشهر من عام 1953، بعد ان نودي به على عرش الاردن في الحادي عشر من اغسطس، عام 1952، بعد تنحي والده الملك طلال إثر مرض عضال.
ويُعدّ الملك حسين احد ابرز الشخصيات السياسية في العالم وأكثرهم خبرة، فقد عايش الكثير من الاحداث السياسية في منطقة لم تشهد الهدوء والاستقرار، تبعاً لظروفها السياسية، وما شهدته وتشهده من صراعات وتقلبات وأحداث.
يروي الملك حسين، حقيقة مشاعره عندما علم ولأول مرة، بأنه قد اصبح ملكاً على الاردن. كان ذلك في لوزان، عندما كان الملك - الامير آنذاك - في اجازة من عناء الدراسة من كلية هارو البريطانية، وهناك اقام في فندق بوريفاج على ضفاف بحيرة ليمان، حيث كانت والدته تعالج وبرفقتها أخواه وشقيقته. وفي صباح 12 اغسطس، ذهبت والدته الملكة زين وشقيقاه الاميران محمد وحسن وشقيقته الاميرة بسمة لشراء بعض الحاجيات، وبينما كان وحيداً في غرفته يمتع ناظريه بمشاهدة الاوز الطائر فوق البحيرة، ويراقب سفينة بيضاء كانت تسعى نحو الميناء، قرع الباب، ودخل خادم يقدم له مظروفاً على صينية من الفضة.
يقول الملك حسين: "لم اكن في حاجة لفتح المظروف كي افهم ان "هارو" لم تعد بالنسبة لي بعد تلك اللحظة الا ذكرى. لقد كان يكفيني ان القي نظرة على المظروف، فقد كان موجهاً الى "حضرة صاحب الجلالة الملك حسين"، وكانت تلك هي المرة الاولى التي انادى فيها بـ"صاحب الجلالة" ولم اكن قد بلغت السابعة عشرة بعد".
كانت تلك مناداة بالامير الصغير ملكا على الاردن، الا ان الدستور يقضي بأن يتم الثامنة عشرة، كي يتسلم عملياً سلطاته الدستورية، وهو ما تم في الثاني من مايو العام التالي.
علوم عسكرية
ولد الملك حسين في عمّان في الرابع عشر من نوفمبر، عام 1935. تلقى علومه الاولية في الكلية العلمية الاسلامية في عمّان، ومن ثم في جامعة "فكتوريا" بالاسكندرية، ثم في هارو بانجلترا، وانتسب الى الكلية العسكرية في "ساند هيرست"، بعد ان اصبح ملكاً، ولم يكن آنذاك قد بلغ السن القانونية.
وهو اكبر ابناء والده الملك طلال. امه هي الملكة الراحلة زين الشرف، التي انجبت من بعده شقيقه الامير محمد، الذي يتولى حالياً منصب الممثل الشخصي للملك، والأمير حسن ولي العهد، والأميرة بسمة، التي تتفرغ لمتابعة الاعمال الخيرية والانسانية، من خلال اشرافها المباشر على نشاطات صندوق الملكة علياء للعمل الاجتماعي التطوعي الاردني.
وتمثل الملكة علياء الزواج الثالث في حياة الملك حسين، وقد لقيت حتفها في حادث تحطم طائرة عمودية، اثناء عودتها من رحلة تفقدية لأحد المستشفيات الحكومية في جنوبي الاردن.
عاش الملك حسين معظم سنوات طفولته في عمّان، في كنف والده الملك طلال، وكذلك جده الملك عبدالله الذي كان الملك حسين مقرباً منه وعزيزاً على قلبه.
في تلك الفترة شاركت ثلاث نساء اردنيات في ارضاع الطفل الامير، وهن جميلة باكير، وصالحات زكريا، ودلة دروبي. السيدة الاولى (ام وصفي) وهي شركسية ارضعته بينما كان عمره ثلاثة شهور، ثم تبعته المرحومة صالحات زكريا، التي ارضعته لمدة ثلاثة شهور اخرى، ثم دلة الدروبي، التي ارضعته لأربعة شهور، وكان آنذاك في منزل والده الملك طلال.
بعد ذلك امضى العاهل الاردني اولى سنوات الدراسة في الكلية العلمية الاسلامية، بجبل عمّان، بصحبة اقرانه الاردنيين، الذين يحتفظ بصداقات واسعة مع كثير منهم حتى الآن.
عقوبة بلا ذنب
ويروي احد اساتذة الكلية ان الملك طلال قد اوكله بتدريس نجله الملك حسين في البيت الى جانب الدراسة في الكلية. ويقول: ذهبت في اليوم الاول لتدريسه، فاذا بوالده يحضر عصا ويضعها الى جانبي ويقول: خذها، استعن بها ان لزمتك. فأجبته: لا حاجة لي بها مع طالب اعرفه جيداً وأدرك سلوكه وقدراته.
ويضيف، انه اضطر ذات مرة الى معاقبة الطالب (الملك حسين) عن ذنب لم يقترفه، فقد تراهن الملك حسين في حينه مع اقران طلاب صفه، الذين قالوا له أن لا أحد من اساتذة الكلية يمكن ان يعاقبه، فردّ عليهم بقوله ان استاذا واحدا، هو المتحدث نفسه، يمكن ان يعاقبه.
يقول الاستاذ: وجدت ذلك اليوم اسم الامير حسين مكتوبا على السبورة مع طلاب اخرين، بدعوى انهم مشاغبون، فعاقبتهم جميعاً، فأخذ الطلاب يضحكون، ولما سألتهم عن السبب لم يجيبوا، فقررت معاقبتهم جميعاً، بعدم السماح لهم بالذهاب الى الغداء، عندها اعترفوا بالحقيقة، وأعلموني عن الرهان، ليتضح انني عاقبت الامير حسين آنذاك عن ذنب لم يرتكبه.
الزواج
تزوج الملك حسين اربع مرات. زواجه الاول كان من الاميرة دينا، وهو زواج لم يدم طويلاً، كانت ثمرته الأميرة عالية كبرى بنات الملك حسين. بعد ذلك اقترن بالأميرة منى التي انجبت نجله الاكبر الامير عبدالله، قائد القوات الخاصة حاليا، والأمير فيصل، من كبار ضباط سلاح الجوّ الملكي الاردني، والاميرة زين والاميرة عائشة. وبعد انفصاله عنها تزوج الملكة علياء التي انجبت له الاميرة هيا، ولها اهتمامات كبيرة برياضة الفروسية، وقادت فريق الفروسية الاوروبي حتى الآن في لقاءات عربية وعالمية عدّة، وحققت نتائج جيدة، كما انجبت له الامير علي. وبعد وفاتها اقترن، بزوجته الحالية الملكة نور، فأنجبت له الأمراء حمزة، وهاشم، وإيمان، وراية.
ويعرف عن الملك حسين تعلقه بأسرته وأطفاله وأحفاده، وهو يتحيّن الفرص من بين مشاغله الكثيرة للقاء اسري ابوي جامع، يسال فيه عن احوال الجميع، ويستمع الى شرح عن امورهم ويوجههم وينصحهم.
مع الطيران والطائرات
اولع الملك حسين بالطيران منذ الصغر، وكان مهتماً بهوايتين في طفولته، الطائرات والتصوير الفوتوغرافي. وكانت لديه نماذج مصغرة للطائرات، يمضي وقتا طويلاً في تمعّنها، فإذا ما حلّ المساء الصقها في البوم.
وينقل عنه قوله: كنت عندما اصعد الى الطائرة تتلاشى سائر همومي، واذا ما حلقت في الجوّ تبددت من ذهني مشاغل العرش ومشقات العمل، لأنني عندئذ اكون وحدي.
ولشغفي بالطيران سبب آخر، فقد كنت مقتنعاً بأن عجز بلادي في الدفاع عن النفس ناتج عن السياسة التي كانت سائدة آنذاك، فقد كان لدينا جيش ممتاز، لكننا لم نكن نملك اي غطاء جوي، وأذكر ذلك اليوم من عام 1953 الذي كان حاسماً في قراري بأن اصبح طياراً، وعلى مدى اسبوعين حاولت اسرتي وأصدقائي والوزراء ان يحملوني على العدول عن قراري، لكنني تغلبت على المعارضة وبدأت التدريب.
واستمر عشق الملك للطيران الذي تأهل معه بعد ذلك، ليصبح قادرا على قيادة الطائرات النفاثة. وفي عام 1958 قاد اول طائرة عمودية. واليوم يقود الملك طائرته بنفسه في معظم رحلاته.
وعدا الطائرات يهوى العاهل الاردني قيادة السيارات، وقد دأب في السابق على المشاركة في سباقات عدّة، حقق فيها نتائج جيدة. وهناك مرتفع في الاردن يسمى "مرتفع الرمان"، يطل على سد الملك طلال المقام على مجرى نهر الزرقاء في شمالي الاردن، اعتاد الملك حسين على المشاركة بسيارته في السباقات التي تنظم هناك على طريق جبلي متعرج، في سباقات تدعى "مرتفع الرمان". والملك حسين من محبي الرياضة اجمالا، خاصة رياضة البحر، وهو يمضي بعض اوقات فراغه في منزله على شاطئ البحر الاحمر في العقبة في جنوبي الاردن، حيث يجد وقتاً للراحة هناك من عناء العاصمة والعمل ولو لوقت محدود.
على الهواء مباشرة
ويبدو يوم الملك حسين ممتلئاً بالنشاط، اذ يستيقظ مبكراً، فيصلي الفجر، ثم يطلع على الاخبار. وهو متابع جيد للاذاعة الاردنية الصباحية، وبشكل خاص برنامج "البث المباشر" الذي يعرض هموم المواطنين ومشكلاتهم. ولا يبدو ان الملك يتردد في التدخل مباشرة وعبر الاتصال بالبرنامج الاذاعي لمزيد من الاستيضاح عن المشكلة، وطرح الحل، وتقديم المساعدة. ولا تكاد تمضي فترة دون ان يتم مثل هذا الاتصال.
ويعمل لساعات طوال يومياً في مكتبه بالديوان الملكي، فيستقبل الضيوف الرسميين، والسفراء، وكبار رجال الدولة وشيوخ العشائر والوجهاء. وقد تطول ساعات العمل في أغلب الاحيان حتى المساء. ومن عادته القيام بجولات مفاجئة بين الحين والآخر، للاطلاع على الوضع العام. ولقد عبر غير مرة عن سعادته بالخروج من القصر في عمان للالتقاء بالناس والاستماع منهم مباشرة الى مطالبهم ومشكلاتهم والعمل على حلها، وهي مطالب عامة، فمن مواطن يريد علاجاً، الى آخر يبحث عن عمل، الى ثالث يريد مقعداً جامعياً لولده. ولقد اعتاد المواطنون انتهاز فرصة مقدم الملك، سواء كان ذلك مرتباً أو مصادفة، فهي فرصة مناسبة لطرح المطالب والمشكلات.
مطالب بسيطة.. وطريفة
ودلالة على استعداد الملك لسماع ابسط شكاوى مواطنيه ومعالجتها، وهي مشكلات غالباً ما تكون بسيطة، بحيث يمكن لأي موظف مختص حلها، يروى انه كان في زيارة لإحدى المحافظات التي اقام مواطنوها وليمة غداء على شرفه، وبعد الغداء، جلس الملك كالعادة يتحدث الى الحضور، وبالطبع يرى اصحاب الحاجات، كبيرة كانت ام صغيرة، ان هذه هي افضل مناسبة للظفر بما يريدون، فانهالت المطالب، الى الحد الذي رأى معه احد الظرفاء من الحضور انها قد زادت على الحد المعقول، ودخلت في طرح مسائل فردية على درجة من البساطة. وهنا اراد هذا ان يدخل السرور الى قلب الملك والحضور، محتجاً على نوعية الشكاوى، فتقدم طالباً من الملك نقل مدينته مكان مدينة الزرقاء الى الشرق من عمان، ونقل الزرقاء مكانها، وكانت حجته انه موظف يعمل في عمان مع نفر كبير من ابناء المدينة، وفي الصباح عندما ينطلقون بسياراتهم الى عمان، تكون الشمس مواجهة لهم، فتحد من قدرتهم على الرؤيا، وعند عودتهم في ساعات مابعد الظهر، يتكرر الموقف حيث تكون الشمس قد مالت الى الزوال من ناحية مدينتهم.
ومثل هذه المواقف العفوية تتكرر خاصة من البسطاء من اهل البادية الذين يعرف عن الملك تعلقه بهم، وله صداقات كثيرة مع شيوخ العشائر والقبائل، وهو يجد متعة خاصة في زيارتهم في مضاربهم التي تحولت بفضل مشروعات توطين البدو، الى مساكن من الحجر والاسمنت المسلح. الا ان كثرة مشاغل الملك خلال السنوات الاخيرة حدت من هذه الزيارات بشكل كبير.
ويبدو ان العاهل الاردني يسعد كثيراً من عفوية رجالات البادية، خاصة عندما يخاطبونه باسمه مباشرة دونما تكلف او تقيد بالبروتوكول، وهو يعرف تماماً نقاء سرائرهم وشديد ولائهم له، فهم لا يترددون في مخاطبته باسمه مباشرة قائلين "يا حسين.. أو يا أبا عبدالله..".
و يتفق الجميع في الاردن، على ان الملك هو عنصر حفظ التوازن، والحكم الفيصل بين الجميع.