الطريق إلى الملك تلمي بن هنأوس.. شهادات من خلف الستار
كشف الحقائق والغوص في أعماق قضيةٍ ما، هو بلا شك عمل صحفي استقصائي بامتياز، ولكن ماذا إن كان موضوع الاستقصاء بشخوصه وأحداثه يعود إلى حقبة تاريخية مضى عليها أكثر من ألفي عام، وماذا لو كان ما هو مُكتشَف لا يمثل سوى قمة جبل الجليد، أكثر من ذلك ماذا لو أن هذا القليل (10%) ما زال موضع جدل بين الباحثين في التاريخ والأركيولوجيا.
كنا أمام معضلة مركبة، تتعلق بالوصول إلى الحقائق أولاً، وإعادتها إلى موضعها وتحريرها كقصة صحفية قابلة للقراءة والنشر ثانيًا، وإجازة استخدامها بأمانة وموثوقية ثالثًا وذلك للوصول إلى صورة تقريبية للملك تلمي بن هنأوس حاكم مملكة لحيان في العلا بالمملكة العربية السعودية.
الملك تلمي بن هنأوس .. الماضي والحاضر
فحين تعيد بناء صورة ملك وتقول: هذا هو الرسم التقريبي له، هذه هي ملامحه، كان يضع هذه العصبة على رأسه، ولونها أبيض، هنا كان يعيش، هذا ما قاله في كذا، وهذه هي إنجازاته، وهذه هي الحضارة التي بناها شعبه، وهذه الخطوط استخدمها في الكتابة..!! ليس فقط أن كل تفصيل وحده بحاجة إلى بحث مستقل، وهذا ما فعلناه، بل إن الأهم بالنسبة لنا كان يتعلق بالبعد الخُلقي لاستخدام ما توصلنا له، فلا الملك ولا أحد من مملكته، قادر أن يقول لنا إن ما "اجتهدنا" في الوصول إليه يمثل الحقيقة أو يجانبها بدرجة ما، حتى لو تناولنا الموضوع من باب الثناء والتقدير..!
من هنا بالضبط، كان من المهم لنا أن تأخذ الهيئة الملكية لمحافظة العلا، ممثلة بنخبة من باحثيها دور الضمير والمرجع فيما حررناه وفصلنا في بعض جوانبه ومشاهده لغايات مهنية.
ومن هنا كان مهمًّا بالنسبة لنا أن نلجأ إلى أفضل من عمل في مجال فن الشخصيات التاريخية ونقصد الفنان الفرنسي ليو كيار Leo Caillard، على أمل أن نكون خدمنا الهدف الأبعد من وراء كل هذا العمل، ألا وهو ربط الماضي بالحاضر وتسليط الضوء على نافذة جديدة في تاريخ المملكة العربية السعودية، إن لم نقل في تاريخ الحضارة العربية عمومًا.
عبدالرحمن الطريري:
ما نجهله أكثر مما نعرفه ودقة التماثيل تعكس تطورًا فنيًّا وهندسيًّا
في شهادته على حوار الملك تلمي بن هنأوس و"إعادته" للحياة أعرب عبد الرحمن الطريري رئيس قطاع التواصل والعلاقات العامة والمتحدث الرسمي للهيئة الملكية لمحافظة العلا أن:
المهابة والدهشة التي تشعر بها عند زيارة موقع دادان، سواء وأنت تقف بجوار الحوض الملاصق للمعبد، أو حين تصعد عشرات الدرجات، لترى كيف نُحتت مقابر الأسود قبل أكثر من ألفي عام، يدفعك للتساؤل عمّا نجهله عن هذه الحضارة، وهو بلا شك يتجاوز ما نعرفه بمراحل.
وكانت أرض مملكة لحيان كريمة كما كانت جبالها، لتكشف أسرارًا كثيرة، من ضمنها تماثيل ضخمة يتجاوز طولها مترين، يقف أحدها شامخًا في متحف اللوفر بباريس، مُعارًا من الهيئة الملكية لمحافظة العلا.
تلك التماثيل يعتقد علماء الآثار أنها تعود لملوك دادان ولحيان، وكانت من الدقة بمكان لتوضح كيف كانت أجسامهم قوية، حيث تظهر الترقوة وعضلات البطن بشكل بارز، وكانت دقيقة أيضًا في توضيح تفاصيل الزي، وهذه الدقة في حد ذاتها تعكس تقدم هذه الحضارة، وتطور أدواتها الهندسية ورؤيتها الفنية.
وبالنظر للعلا في صورتها الأشمل، فهي تُعد أكبر متحف حي في العالم، ويأتي التزامنا بالعمل الأثري وحفظ وصون الآثار، ضمن مستهدفات تحقيق رؤية المملكة 2030، التي تهتم بالتراث الإنساني ومشاركة إرث المملكة مع العالم.
ختامًا، تأتي قصة مشروع الملك تلمي بن هنأوس، لتمثل نموذجًا على الشراكة بين الإعلام والجهات الحكومية، حيث كان فريق العمل من "الرجل" ملتزمًا للغاية بتحقيق النجاح رغم التحديات، ولذا نرى مخرجًا عمل عليه فريق مشترك بعناية فائقة بالتفاصيل، لأننا نحترم المتلقي ونقدم له على الدوام ما يستحق من منتج صحفي وعلمي.
الدكتور عبدالرحمن السحيباني:
نفاخر بحضارتهم العربية العريقة والملك تلمي بن هنأوس أبرز حكامهم
في رؤيته لأهمية تسليط الضوء على الملك تلمي بن هنأوس وحضارة دادان ولحيان، يرى الدكتور عبدالرحمن السحيباني المدير المكلف لإدارة المجموعات في الهيئة الملكية لمحافظة العلا أن:
الفترة اللحيانية، التي تؤرخ للنصف الثاني من الألف الأول قبل الميلاد، اتسمت بالاستقرار الذي نتج عنه بلا شك ازدهار ورقي في مجالات شتى، انعكست على المنتج الثقافي الذي خلفه لنا هذا الإنسان.
من أبرز حكام تلك الفترة الملك تلمي بن هنأوس، الذي تذكر النقوش أنه حكم لفترة لا تقل عن أربعة وأربعين عامًا، أي إنه يمثل ما يقارب نسبة 10% من إجمالي الفترة اللحيانية.
مما لا شك فيه أن هذه الفترة للملك تلمي قد شهدت أحداثًا جوهرية جعلت من لحيان مملكة تسيطر على بقعة مهمة من شمال غرب الجزيرة العربية في تلك الفترة، حيث عاصر اللحيانيون في تلك الفترة المعينيين الذين قدموا من جنوب الجزيرة العربية واستقروا في العلا بغية تسهيل مهمة التجار الجنوبيين المارين بالعلا. أيضًا شهدت تلك الفترة علاقات واضحة مع المصريين وتحديدًا البطالمة.
هذه التبادلات السياسية في تلك الفترة كانت مبنية على سياسة واضحة أساسها التسامح والانفتاح على المجتمعات الأخرى، لذا نرى بكل وضوح أن المنتج الثقافي الذي خلفه لنا اللحياني كان على درجة عالية من الكمال.
هذا كان السبب الرئيس خلف رغبتنا في إجراء الحديث مع هذا الملك اللحياني لكي يخبرنا عما نجهله من حضارتهم العربية العريقة التي أصبحنا اليوم نفاخر بها ونجدها أساسًا متينًا للكثير مما نعمل عليه.
اقرأ أيضًا: «الرجل» تستعيد صورة وجه الملك تلمي بن هنأوس حاكم لحيان وتستضيفه في حوار استثنائي
الفنان الفرنسي ليو كيار :
استعنّا بمتخصص بالآثار واستخدمنا تقنيات متعددة لتنفيذ هذا العمل الجميل
شرح الفنان والنحات الرقمي الفرنسي ليو كيار (Leo Caillard) الذي اضطلع بمهمة إعادة رسم ثلاثي الأبعاد "مقارب" لصورة الملك تلمي بن هنأوس عن دوره، والتقنيات التي استخدمها، وفيما إذا استفاد من خدمات الذكاء الاصطناعي قائلاً:
ظهر الذكاء الاصطناعي أخيرًا بقوة في السوق الإبداعي، وأرى أنه أداة تقنية مثيرة، لكن أجد مشكلة في تسمية التقنية بـ"ذكاء اصطناعي"، لأن التقنية لا تتمتع بأي ذكاء أو إبداع.
إنها خوارزمية قوية قادرة على جمع صور وتخيلات من التاريخ المصور، ولكنها غير قادرة على تفسير أمور أو تخيل شخصيات من الماضي ليس لها بيانات مرئية واضحة اليوم.
لتنفيذ هذا العمل ثلاثي الأبعاد الجميل، والتفاصيل الدقيقة للملك تلمي، تعاون فريقنا مع متخصص للوصول إلى تمثيل أكثر توافقًا مع المنحوتات الحجرية المتبقية له.
لا يمكن الوصول إلى هذا المستوى من التفاصيل باستخدام الذكاء الاصطناعي الآن. ولهذا، الذكاء الاصطناعي أداة رائعة لكنها لن تحل محل الخيال.
استخدمنا برامج مختلفة مثل Zbrush لنحت الوجه وتعزيزه بتفاصيل عالية. ثم أضفنا الألوان والملابس والشعر باستخدام أدوات المسح الضوئي ثلاثي الأبعاد المختلفة في 3Dsmax.
وبالنسبة لبناء هيكل الوجه، استخدمنا Maya في أغلب الوقت.