رحلة متداخلة التفاصيل.. كيف بدأت أجهزة التلفاز؟
على الرغم من انتشار الهواتف الذكية والحواسيب والأجهزة المحمولة، فإن التلفاز يظل عنصرًا أساسيًا في حياة الكثيرين.
أطلق كلمة "تلفاز" العالمُ الروسي "قسطنطين بيرسكي" في مطلع القرن العشرين، وها هي تُستخدم إلى الآن لتصف هذا الجهاز الذي لا يزال مسليًا.

إذا عدنا إلى منتصف القرن التاسع عشر، سنجد أن فكرة نقل الصور بالإشارات أو بالصوت كانت أقرب إلى الحلم منها إلى الواقع، لقد كانت البشرية في تلك الفترة تتغزّل بجهاز التلغراف، الذي ابتكره "صمويل مورس"، إذ أتاح لأول مرة تبادل الرسائل المشفرة بالإشارات الصوتية عبر الأسلاك.
في ذلك الوقت، كان "جراهام بيل" مخترع التليفون، و"توماس إديسون" مخترع المصباح الكهربي، يفكران في إمكانية اختراع جهاز يمكنه إرسال الصورة كما يُرسل الصوت، غير أن هذه الفكرة ظلت حبيسة الخيال، تنتظر أن تُفسح لها التكنولوجيا المجال لكي تتجسد على أرض الواقع.
وفي عام 1884، ظهرت هذه التكنولوجيا أخيرًا، عندما خطَّ الباحث الألماني "بول نيبكو" اسمه على خريطة المبتكرين، باختراعه لـ"الأقراص الدوَّارة Spinning Discs" أو ما أسماه بـ"التليسكوب الكهربائي Electric Telescope" أو "قرص نيبكو Nipkow Disk"، الذي كان عبارة عن آلية لإرسال الصور عبر الأسلاك، لم تكن الصورة حينها سوى ظلال رمادية متحركة وغير واضحة، لكن ذلك هو ما مهّد الطريق أمام أول تطبيق شبه حقيقي لفكرة التلفاز.
أشعة المهبط والتلفزيونات التقليدية

مع بداية القرن العشرين، حاول عددٌ من العلماء والمهندسين تطوير تقنيات البث التلفزيوني، استنادًا إلى أفكار "بول نيبكو"، غير أن أفكارها كانت بدائية.
هنا ظهر الفيزيائي الروسي "بوريس روزينج" والمهندس الأسكتلندي "آلان كامبل-سوينتون"، حيث عملا على استبدال الأقراص الميكانيكية بأنابيب أشعة المهبط، التي كان قد طورها الفيزيائي الألماني "كارل براون".
كانت فكرة "كامبل-سوينتون" ثورية، إذ اقترح استخدام أنابيب أشعة المهبط، ليس فقط لاستقبال الصورة، ولكن أيضًا داخل الكاميرا نفسها، ما جعل نظامه أقرب ما يكون إلى أول نموذج للتلفزيون الإلكتروني بالكامل.
جدير بالذكر أن "أنابيب أشعة المهبط CRT - Cathode Ray Tube" هي تقنية عرض قديمة، كانت تُستخدم في شاشات التلفاز والحاسوب الضخمة ذات المجسم الخلفي، قبل انتشار تقنيات LCD، وLED، وOLED، وغيرهما، وتعتمد هذه التقنية على تدفق الإلكترونات داخل أنبوب مفرّغ من الهواء لإنتاج الصور على الشاشة.
وفي تلك الفترة، كان "فلاديمير زوريكين"، وهو مهندس روسي الأصل، يعمل مساعدًا لـ"روزينج" قبل أن يغادر كلاهما روسيا بعد اندلاع الثورة البلشفية، وبعد استقراره في الولايات المتحدة، التحق بشركة "ويستنجهاوس Westinghouse" في بيتسبرج، وهناك، في عام 1923، قدم طلبًا للحصول على براءة اختراع لجهاز جديد أطلق عليه اسم "الأيكونوسكوب Iconoscope"، وهو ابتكار يعتمد على أنابيب أشعة المهبط لنقل الصورة.
اقرأ أيضًا: كيفية توصيل الجوال بالتليفزيون .. أفضل طرق ربط الموبايل بشاشة التلفاز
التلفاز.. إنجاز تاريخي

على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، كان المهندس الأسكتلندي "جون بيرد" يسابق الزمن في تطوير تقنيات التلفزيون.
ففي عام 1927، وقف أمام خمسين عالمًا في قلب لندن، ليقدم لهم أول استعراض حقيقي لجهاز التلفزيون، وهو إنجاز غير مسبوق في ذلك الوقت.
ولم يكتفِ "بيرد" بذلك، بل أسس شركته الخاصة، "شركة تطوير تلفزيون بيرد Baird Television Development Company"، التي سرعان ما سجلت إنجازًا تاريخيًا آخر في عام 1928، حين نجحت في نقل أول بث تلفزيوني عبر المحيط الأطلسي بين لندن ونيويورك، بل تمكنت أيضًا من إرسال بث تلفزيوني إلى سفينة كانت تبحر في منتصف المحيط، كما يُنسب إليه أيضًا الفضل في تقديم أولى العروض التجريبية للتلفزيون الملون والمجسم.
في الولايات المتحدة، كان المهندس الروسي المذكور "فلاديمير زوركين"، يواصل أبحاثه، وفي عام 1929، قدم عرضًا عمليًا لنظامه التلفزيوني الإلكتروني بالكامل، خلال مؤتمر للمهندسين الإذاعيين، ومن بين الحضور كان هناك رجل سيغير وجه الإعلام الأمريكي، وهو "ديفيد سارنوف"؛ أحد كبار التنفيذيين في "شركة راديو أمريكا RCA"، وهي أضخم شركة اتصالات في الولايات المتحدة آنذاك.
"سارنوف"، الذي ولد في أسرة يهودية فقيرة في "مينسك" بروسيا، هاجر إلى نيويورك وهو طفل، وبدأ حياته المهنية كعامل تلغراف، ومن المصادفات الغريبة أن يكون على رأس عمله ليلة غرق سفينة "تيتانيك"، حيث ساعد في نشر أسماء الناجين، رغم أنه لم يكن، كما ادعى لاحقًا، المسؤول عن تنسيق رسائل الاستغاثة بين السفن القريبة من موقع الحادث.
كان "ديفيد سارنوف" من أوائل الذين شهدوا جهاز التلفزيون، تمامًا كما حدث مع الراديو؛ وما يحمل في طيّاته إمكانيات هائلة، ليس فقط كوسيلة للتواصل، بل أيضًا كنافذة واسعة للترفيه ونقل المحتوى إلى الجماهير، وعندما تولّى رئاسة شركة "RCA" عام 1930، سارع إلى اتخاذ خطوات حاسمة لتعزيز هذا المجال الواعد؛ فاستقطب المهندس الروسي "فلاديمير زوريكين"، ووكله مهمة تطوير تقنيات التلفزيون وتحسينها، واضعًا بين يديه مستقبل هذه الصناعة التي لم تكن قد رُسمت معالمها بعد.
اقرأ أيضًا: كيف بدأت أجهزة الألعاب المنزلية "الكونسول"؟
الأب الحقيقي للتلفزيون
في عام 1927، وكان لم يتجاوز الحادية والعشرين من عمره، نجح الشاب "فيلو فارنزوورث" في ابتكار أول نموذج عملي لنظام تلفزيوني إلكتروني بالكامل، معتمدًا على ما أسماه آنذاك "ممزق الصورة Image Dissector".
ولم تكد تمر سنوات قليلة حتى وجد نفسه في قلب معركة قانونية شرسة مع شركة RCA العملاقة، التي زعمت أن اختراع "فلاديمير زوريكين" المسجّل عام 1923 يمنحها الأحقية بالسبق.
واستمرت المواجهة القانونية أعوامًا، إلى أن جاء قرار مكتب براءات الاختراع الأمريكي عام 1934، ليمنح "فارنزوورث" النصر المستحق، واستند هذا الحكم جزئيًا إلى شهادة أستاذه القديم في المدرسة الثانوية، الذي احتفظ برسم تخطيطي نفذه المخترع الشاب عندما كان لا يزال طالبًا.
على مضض، اضطر "ديفيد سارنوف"، رئيس RCA وصاحب النفوذ الكبير، إلى دفع مليون دولار لـ"فارنزوورث" كرسوم ترخيص، ورغم هذا الانتصار الذي جعل المؤرخين ينظرون إلى الشاب باعتباره "الأب الحقيقي للتلفزيون"، لم ينعم "فارنزوورث" بعوائد مجزية من اختراعه الثوري، فقد لاحقته قضايا الاستئناف سنوات طويلة، ما أثقل كاهله بالديون.
انتشار أجهزة التلفاز

خلال الأربعينيات، كان هناك بضع مئات من أجهزة التلفزيون في الولايات المتحدة؛ أجهزة الراديو وقتها كانت هي المُسيطرة، وأكثر من 80% من البيوت الأمريكية كانت تمتلك راديو في ذلك الوقت، وبالتالي فإن انتشار أجهزة التلفاز كان متواضعًا للغاية.
وحتى منتصف العقد الفائت، لم يكن هناك سوى 23 محطة تلفزيونية فقط، والقفزة الحقيقية حدثت عام 1949، عندما أُذيع برنامج المنوعات "Texaco Star Theater" الذي كان يقدمه الكوميديان الشهير "ميلتون بيرل"؛ وقد أصبح هذا البرنامج مشهورًا للغاية، ويمكننا القول إن مبيعات التلفاز قفزت بفضله، من بضع مئات إلى مليون جهاز في عامٍ واحد فقط!
وبحلول عام 1955، أصبح أكثر من نصف الأمريكيين يمتلكون أجهزة تلفاز داخل منازلهم، ومع زيادة عدد الأجهزة، كان من البديهي أن يزداد عدد المحطات التلفزيونية، ومن ثم استمر الانتشار، ولكن السؤال: هل سيصمد التلفاز في المستقبل مع انتشار الأجهزة الذكية من الحواسيب إلى أجهزة التابلت والهواتف؟ أم أنه سيندثر مثل أجهزة الراديو التي اختفت تقريبًا شيئًا فشيئًا؟